منذ يومين شاءت الصدفة وظروف منع التجول ان ادخل في قصر من قصور الائتلاف العراقي الموحد في بغداد، فلقد ذهبت لملاقاة شخصية قيادية وبارزة فيه، وطال الحديث حتى اضطررت للمبيت هناك لأني لم استطع الرجوع لبيتي في ذلك الوقت بسبب تجاوز الوقت ودخول بغداد في موعد منع التجول، وكانت فرصة كبيرة لي لكي أعرف مزيدا من أسرار قصور الائتلاف العراقي الموحّد، وكلمة قصور اقتبستها من رسالة لأحد الأخوة أرسلها للوكالة يخاطب فيها أحد الشخصيات العلمائية البارزة في الائتلاف ويطالبه بأن يشرف من نافذة قصره لكي يرى واقع الشعب، ولهذا تحمست جدا لكي أرى هذا القصر.
وحماسي هذا أوقعني في مطب مربك!
ءأكتب ما شاهدته؟ عندئذ قد اتهم بأني اتحدث عن اسطورة وخيال!!
أم اكتم ما رأيت وشاهدت بأم عيني؟ فاكون كاتماً لسر يحتاج الكثير من الناس ان يتعرفوا عليه، وربما أكون ساكت عن حق.
في وسط ترددي هذا، قلت لنفسي الوكالة وقد عرفت بأنها لا تحابي أحداً، ولن أكتب اسما محددا، ولكن دعوني اخوتي القراء أن أشهد الله على أن كل حرف من حروف هذا المقال هو عين ما رأيته ولم أزد عليه بشيء، بل ربما لم اكتب كل ما شاهدت، وبالنتيجة لا أبالغ بشيء مما سأروي.
دخلنا في حدود الساعة الواحدة والنصف وقد كنت اعرف انه منزل أحد الشخصيات العلمائية البارزة في البرلمان، لم يك قد حضر بعد، لذلك جلسنا ننتظر بعد أن اتممنا اجراءات التفتيش، كانت صالة الاستقبال عبارة عن غرفة صغيرة مفتوحة على غرفة أخرى وضع فيها اثاث وقور ولكنه بسيط، والغرفة الأخرى كان فيها طاولة طعام، في حدود الثانية والربع حضر من كنا ننتظره جاء مسؤول الضيافة في الدار فسأل إن كان يستطيع ان يفرش المائدة، فقال له: لننتظر حضور الأخوة، لم يمض وقت طويل حتى حضر أحد أعضاء الجمعية الوطنية السابقة وعضو مجلس الدستور، وهو دكتور وعالم ومؤلف للعديد من الكتب المشهورة جدا في الوسط الديني الفقهي، ثم تعاقب الأخوة: الدكتور مستشار رئيس الجمهورية، والأستاذ مستشار نائب رئيس الجمهورية الدكتور عادل عبد المهدي، وأحد مسؤولي الأمانة العامة في مجلس الوزراء.. انا تصورت أن الحاضرين كانوا مجرد زوار مثلي، ولكني فوجئت بعد ذلك انهم يقيمون معاً في هذا القصر!!
كان الغداء عاديا جدا لم يتجاوز نوعين من الصحون، وباعتبار ان العدد المقيم في هذا القصر محدد لذلك فإن اشتراكنا في مائدة القصر كان سببا في تقليص الحصة من الغداء، صاحبنا أبلغ مسؤول الضيافة بأن يبقي شيئا للوزير الفلاني فقد يحضر بلا غداء من وزارته!!! كان حديث المائدة طريف ولكن علمت أثناءه أن نائبا آخرا في مجلس النواب يقيم هنا!!! وقد كان المكان مظلما لأن الكهرباء مقطوع.
حضر الوزير الدكتور وكان بلا غداء وجلس يأكل بصمت في صحن واحد فقط!!
القصر كان عبارة عن اربعة غرف صغيرة للمنام، وصالة استقبال وطعام وصالة كبيرة للحرس ومسؤول الضيافة بالاضافة إلى المنافع الصحية والمطبخ.
بقينا للعشاء وكان العشاء عاديا جدا لم يزيد على نفر كباب وصحن من الشوربة، وكان الشخصية العلمائية يتندر ويقول: بأن الطباخ كأنه قد أقسم بالقرآن بأن لا يذيقنا إلى يوم القيامة إلا الكباب والشوربة!!
انتهى العشاء وبعد تناول الشاي ومقدار من الفاكهة انهمك الجمع في أحاديث شتى لكن غالبيته كان يدور حول ازمة الخدمات والأمن ومشاغل البلد بشكل عام، ولم يخل الحديث من تندر فيما بينهم رغم ان وجودي وصاحبي ربما نغّص عليهم خصوصيتهم.
ما لاحظته أن أحدهم لم يهدأ تليفونه ابدا حتى ساعات متاخرة من الليل، كان يرد على كل اتصال، احدهم همس في أذني، قال: إنه يعتقد بوجوب الرد على التلفون، من خلال طبيعة الأحاديث اعلم ان المتصلين لا يعرفهم، وإنما هي شكاوى في غالبيتها أمنية في مناطق شتى من العراق، وكنت ألمس انه ما أن يغلق التلفون حتى يبدأ هو بالاتصال بمسؤولين في رئاسة الوزراء أو الوزراء أنفسهم بل ربما اضطر للإتصال بموظف صغير لكي يقضي حاجة من اتصل به، أحد حرسه ابلغني بانه يعطي تليفونه لكل من يطلبه، وهو لا يغلق التلفون ايضا لا سيما في الليل. (كانت حصيلة اليوم هي عدة اتصالات من المدائن وديالى والنهروان والشعلة والتاجي والموصل).
عند الفجر وتحديدا في الساعة السادسة إلا عشر دقائق والسادسة اهتزّ القصر!! لانفجارين لصواريخ انفجرت على مقربة منه، وكان صوت الانفجار قد ايقظنا بحمد الله للصلاة، رغم إن بعضهم كان جالسا قبل ذلك.
في الصباح جلسوا متفاوتين في اليقظة ولكن القدر المسلّم ان احدا منهم لم يشبع من النوم لأنهم سهروا في غرفهم إلى قدر من الليل يراجعون أعمالهم، وكان الفطور عبارة عن قطعة من الجبن وشاي وقطعة من الصمون..
ثم فرغ البيت من روّاده فكل غادر لمحل عمله، بعضهم ومنهم الشخصية العلمائية التي قصدناها كانت عائلته في بغداد، ولكن بين زحمة العمل وظروف الأمن كان يمضي وقته بعيدا عن عائلته...
قبل أن أودعه قلت له لدي سؤال ملّح: لماذا هذه الطريقة من الاكل؟
قال: وما به؟
قلت له: إن الأكل الذي تاكلونه لا يتناسب مع اوضاعكم!
فأجابني بمزاح: هل ان بطوننا تختلف عن بطون الآخرين؟
فاعتذرت وقلت له: انتم لا مشكلة لديكم في المال... فلماذا هذه الشحة التي قد تبدو بخلا؟
قال: ليس بخلا ولا شحة فالأكل هو هذا الذي نأكله في بيوتنا، بلى نستطيع ان نأكل ما هو أفضل منه ولكنه لا يغير من المعادلة شيئا، نحن لا نعيش لناكل، وإنما ناكل لنعيش، وبالنتيجة لم نمت من الجوع، ودعني وانصرف.
صراحة بقيت مبهوتا، ولكني صممت ان أكتب ما شاهدت إلى القراء لا سيما لأخينا الذي طلب من أحد قادة الائتلاف أن يشرف من قصره على المساكين، لكي يعلم ان بعضهم يعيش واقعا حياة المساكين، فقصره لم يكن في مساحته مع الحديقة الصغيرة يتجاوز ال250 مترا مربعا فقط.
ما يجب علي التنبيه له: إن هذا لا يشمل جميع أعضاء الائتلاف، فلربما في مكانات أخرى ثمة نمط آخر من المعيشة.
إن في ذلك لعبرة أيها الأخوة.
محسن الجابري
وكالة أنباء براثا
https://telegram.me/buratha