( بقلم : المحامي طالب الوحيلي )
يعرف العراقي ومنذ فجر التأريخ بذلك الزخم الضخم من القدرات الخلاقة وتلك الديناميكية الهائلة في تعامله مع محيطه وتسخير طاقات وادي الرافدين وما اتيح له من خيرات وثروات ظاهرة ام مستترة لبناء أرقى حضارة عرفتها الإنسانية ،وكان له في كل فترة من تأريخ البشرية آثارا تنم عن ما قدمه من عطاءات تعد اليوم مصادرا لا يستهان به للثورات الصناعية والاجتماعية ،ولسنا بصدد تعداد او تقييم منجزاته تلك ، ولكن علينا ان نتأمل الواقع الذي وصل اليه هذا الانسان اثر السياسات الاستبدادية الظالمة التي توالت عليه محاولة سلب توهجه وإطفاء جذوته ،لاسيما في العصر الحديث واكتشاف باطن وكنوز هذا الإنسان وواديه ،مما أدى الى رسم اديلوجيات تحاول تسوير ومحاصرة تلك القدرات وبالتالي تسخيرها لمنفعة الطائفة الحاكمة وقمتها الإدارية التي لابد ان تتخذ الوجه الدكتاتوري في فرض سلطة الأمر الواقع وقوانين تطبيع عقود الإذعان التي تعني تعطيل شريعة العقد الاجتماعي وما ينتجه من تعاطي للسلطات وتوزيع للثروات ،وما زلنا بصدد القدرات الخلاقة للإنسان العراقي فقد استطاع التغلب على ادلجة الحياة ومعارفها وأنماطها الاقتصادية إبان توالي الأنظمة الحاكمة منذ قيام الدولة العراقية الحديثة ،وتمكن ولو جزئيا وبشكل محدود استثمار المتاح الحدي من فرص الدراسة والإنتاج في إحراز المنزلة العلمية الخلاقة ،بالرغم من ماكينات الموت المقنن التي كانت تلفه ولاسيما العلماء والعباقرة الذين لم يكونوا يوما ما تبعا لتلك الأنظمة او مسخرين لها ،مما دعا الآلاف منهم الى الهجرة نحو أجواء ينعمون بها بما توفره لهم من إمكانات يستحيل على غيرهم الحصول عليها تميزا واستثمارا.
الرهان على الطاقات الإبداعية العراقية بعد سقوط الطاغية او سقوط نمط الحكم الاستبدادي محل خيال وتصور كل مواطن يروم رؤية بلاده وهي تتحول الى مصاف الدول المتطورة قابرة ماضي التخلف وبقاياه الى الأبد ،ولعله على حق حين ينظر الى المهاجر وما احتوت من إمكانات عراقية يمكنها ان ترفد الشعب بما لديها من كفاءات عالمية ،غير انه كاد ان ييأس من هذا الأمر فقد انعكست الصورة وابتدأت هجرة جديدة بقصد النجاة من الإرهاب والاستهداف المباشر للكفاءات بمختلف صنوفها ولرؤوس الأموال ومصادرها بدل من استثمارها في البلاد ،وتحول الحال الى إسراف لراس المال الوطني بما لا يتناسب مع النقص الحاصل في الاعمار او الخدمات العامة وحل الأزمات التي يمكن معالجتها عبر التمويل الذاتي او تقليص الإسراف فيما تجاوزت تكاليف امن المنشآت حدود المعقول والملموس من نتائج .
المصدر الوحيد للدخل القومي هو النفط فيما تخلفت كافة المصادر الأخرى لتشكل عبء جديد على الاقتصاد،وقد بلغت نسب الاستيراد والاعتماد على السوق الخارجية ما لا تطيقه أي ميزانية في العالم ،فيما ادى ذلك الى تعطيل شبه كامل للانتاج الوطني من زراعة وصناعة وخدمات ،ونادرا ما نجد منشأة او مصنع ينتج بادنى طاقته الانتاجية ،في الوقت الذي كانت تلك المناشيء تكاد تغطي حاجة السوق الملحة ،فاذا ما تعكزنا على الملف الأمني والإرهاب نجد ان ذلك لا يشمل المحافظات التي تنعم بالأمن مما يمكن ان تنقل تلك المنشآت الى تلك الأماكن بدل غلقها التام وضياع معالمها في الوقت الذي تهدر طاقات العاملين فيها ويفيضون كبطالة مقنعة لا يجدون امامهم الا البحث عن مصادر رزق تدعم مرتباتهم الشهرية المنخفضة بسبب انعدام الانتاجية ،وقد يتحول الكثير منهم الى عوامل تخريب تضاف الى قوى الارهاب وجيوش الفساد الاداري .
يقول السيد عادل عبد مهدي حين كان يتسنم منصب وزير المالية ما معناه ،اننا لا نريد ان يكون العراق مجمعا لنفايات الآخرين ،وفعلا امتلأت السوق العراقية ببضائع رديئة قتلت العمل الحرفي والإنتاج الصناعي الذي كان ملاذ لملايين العوائل العراقية حين حرم أربابها من مزايا ومنح النظام البائد بسبب سياسته الطائفية والعنصرية .
يقال ان شركة عالمية قد رست عليها مناقصة اعمار منشأ حكومي بميلغ ستين مليون دولار ،وقد تناقل المقاولون الثانويون التزام التنفيذ ليصل في النهاية الى مقاول اخير اتم العمل بخمسة ملايين دولارا لاغير .ويقال ان معمل اسمنت الكوفة الذي كان معطلا فتقرر رصد سبعمائة وخمسون مليون دينار لغرض إصلاحه وإعادة تأهيله ليكون اهم مصادر لتوفير المواد الإنشائية والعراق بأمس الحاجة للاسمنت على ماهو عليه واقع الكتل الخراسانية ! ،وقد انتدب فريق للعمل على ذلك ورصد مبلغ عشرين مليون دينار ،وذلك مبلغ لا يكاد يكفي لسكن وطعام هذا الفريق ،فيما بدا التدبير العراقي المخلص يتخذ الحل ،حيث وفر محافظ النجف والمخلصون كل مستلزمات سكن وطعام الفريق ووضع خطة لإصلاح الخط الإنتاجي الصغيرللمعمل وتهيئته للإنتاج ريثما يتم جمع ما يكفي من واردات لتأهيل الأجزاء المتبقية منه، وبالتوالي أصبح المعمل جاهزا بكافة خطوطه من خلال التمويل الذاتي مما وفر مبلغ سبعمائة وثلاثون مليون دينارا .وقد قيل والعهدة على القائل ان جزاء هؤلاء المبدعون هو إحالتهم للتحقيق لمعرفة مصدر الأموال التي أعيدت بها الحياة الى هذا المعمل!!كما نجح فريق لوزارة النفط في محافظة ميسان بإصلاح محطة إنتاجية بواقع ثلاثين مليون دينار فيما كان قد رصد لهذا العمل مبلغ يعادل أضعاف ذلك بالمئات .
هذان المثلان ليسا من فرط الخيال ،وانما هما محصلان طبيعيان للقدرات العراقية التي طالما اعتصرها الطاغية ليعمر بها الخراب الذي أنتجته حروبه ،ويصلح جسور هي ابسط وسائل التواصل الاقليمي ،وتعجز الدولة اليوم عن إصلاح جسر ديالى المنفذ الوحيد لبغداد على المحافظات الجنوبية وقد مضى على تخريبه من قبل زمرة إرهابية أكثر من ثلاثة أشهر !!فأين مكمن الخلل ؟! والسؤال الاهم هو كيف يمكن حساب الجدوى الاقتصادية للمشاريع بما في ذلك التقديرات الغير طبيعية لها وكلها تعكس الحجم المهول للاسراف دون جدوى يشعر بها المواطن ،مع التذكير بان المال العم هو الوجه الحقيقي لبيت مال المسلمين.
جميع شعوب العالم قد مرت بها نكبات اشد وطئا مما نمر به ،لكنها انطلقت من ذات الخراب لتزدهر فيها شجرة الحياة وتعمر حتى صارت أمهات الحواضر ،وهي لا تكاد تنسى واقعها المر الذي عاشته ،ولا نريد ان نستورد تلك التجارب بقدر ما نأسف على القدرات العراقية التي اعتراها الجمود ولم تستثمر علميا وعمليا ،في الوقت الذي استمرئ البعض ممن استوطن المنافي العيش بعيد عن محل جهاده ونضاله الذي غادره قبل أوانه بسبب طغيان النظام الفاشي ،فهل ان عذره اليوم الخوف من الإرهاب ،فاذا كان الامر كذلك فلا حاجة بنا الى تنظيره وتباكيه على العراق وشعبه وطعنه ولعنه وهتافه وحدائه ..
https://telegram.me/buratha