( بقلم المحامي طالب الوحيلي )
ما ان نفضت محكمة الجنايات العليا يدها من قضية مجزرة الدجيل بانتظار قرار الحكم فيها ،حتى توجهت الانظار الى قضية الانفال ،تلك السلسلة من الجرائم البشعة التي قيدت كجرائم حرب وجرائم ابادة جماعية استهدفت شعبنا الكردي في قرى ومدن كردستان العراق مابين عامي 1987 و1988 ،وقد تحولت فيها تلك القرى الجميلة والمناظر الخلابة الى مجرد ركم من الخراب ،
قرية سركلو وبركلو وهلدن وغيرها من القرى القابعة تحت سفح الجبال حيث كانت تعج بالحياة وتضج بصخب الصبية وجذل الفتيات بملابسهم الزاهية ووجوههم الممتلئة حياة رغم الجدب الذي اشاعه النظام الفاشي البعثي في تلك الربوع التي ابت الانصياع لطغيانه كحال بقية ابناء شعبنا المبتلى بذلك المسخ الذي استمد بقاءه من سيول الدماء العراقية في كافة ارجاء العراق ،وعلى وفق نمطه القذر في اتخاذ آيات الله هزوءا ابتكر لهذه السلسلة من القتل اسم الانفال ،وهي حملة عسكرية من ثماني مراحل أسفرت عن القتل العمد لاكثر من 180 الف من ابناء شعبنا من الأكراد.وقد استخدمت القوات العراقية في حملة الأنفال أسلحة كيماوية واستراتيجية كالصواريخ ارض ارض وكافة ادوات الترسانة العسكرية التي تمخضت عن الحرب العراقية الايرانية .
وقد استمرت حملة الأنفال من أواخر شباط إلى أوائل أيلول 1988.ولم يكتفي النظام الدموي بهدم القرى والقتل المباشر ،راح يجمع النساء والأطفال والشيوخ لا لسبب الالكونهم اكراد اعلنوا موقفهم من ذلك النظام ،وقد رحلوا عبر قوافل مغلقة المنافذ الى مصائر لا يعلمونها فيما تصوروا بانهم سوف يوطنون في اماكن تبعدهم عن مواطنهم ،ولم يتبادر الى اذهانهم البريئة انها قبور جماعية تلفهم الى الابد دون أي فرق بين شيخ حاني الضهر وامرأة احتضنت وليدها وهو يمضغ رضاعته او صبيا يحلم بمدرسة يتعلم فيها ابجديات الحضارة ،لكن الجرافات كانت بالانتظار وقد شقت لهم اخاديدا في الارض لتبتلع نسمات حيات تلك الجموع الكبيرة ،فيما سيقت العشرات من الفتيات الحسان ليباعن في سوق النخاسة العربية وتلك قضية تدان بها مصر ودول اخرى .وقد أسفرت تحريات وتحقيقات منظمة هيومن رايتس ووتش لحقوق الإنسان في عامي 1992 و1993 عن تصنيف الأنفال كجريمة إبادة جماعية ضد جانب من السكان الأكراد العراقيين في شمالي البلادوهي تندرج تحت تسمية جرائم الابادة الجماعية وفق (( اتفاقية منع جريمة ابادة الاجناس والمعاقبة عليها لسنة 1948 )) الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة والتي صادقت عليها , ولغاية الاول من كانون الثاني 1991 , أكثر من 101 دولة وبضمنها العراق . واعتبرت بموجبها ابادة الاجناس جريمة طبقا للقانون الدولي وتتعهد الدول الموقعة على الاتفاقية بمنعها والمعاقبة عليها .وقد عرفت المادة الثانية من الاتفاقية الابادة الجماعية بانها (( ارتكاب أفعال معينة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة أو قومية أو أثنية أو عنصرية أو دينية بصفتها هذه ))
الجلسة الاولى التي عقدت يوم 21 آب الجاري، كانت مصدر ترقب وتأمل الجميع ،من رجال قانون وسياسيون واناس بسطاء لاهم لهم سوى رؤية الطاغية صدام وهو يقف ذليلا امام هيئة محكمة اكثر قدرة من المحكمة السابقة وقد استجمعت كافة حيثياتها وخبراتها المادية والمعنوية ،وقد تشكلت عبر جدية رئيس المحكمة عبد الله العامري ذو الباع الطويل بسلك القضاء ،وقد انعكس ذلك من الطريقة التي ادار بها الجلسة حيث ذكرنا بقاعات المحاكم العراقية التي تتعامل مع الخصوم على وفق قانون اصول المحاكمات الجزائية ،والجميع ينتظر ذلك الطاغية وما سينفلت به صلفه من صفاقة وخطب تذكرنا بخيبته واستخفافه بالدم العراقي وبحرمة الشعب الذي ان الاوان ليحاكمه وزمرته عن كل جريمة ارتكبت وكل كارثة اوقعوها على وادي الرافدين ،لكن قدرة رئيس المحكمة قد لجمته لينصاع مجيبا عن اسئلتها هو والمتهمين الآخرين ،حيث نترقب منهم الكثير من المفاجآت .
لكن الملفت في الجلسة هو طاقم محامي الطاغية ولاسيما الدليمي الذي لايستحق ان يوصف بهذه المهنة الشريفة مادام قد استخف بشعب العراق ومصيره وراح يكيل التهم للقوى الوطنية التي سعت لانقاذ العراق من الاحتلال وتحملت وزر سياسة النظام المهزوم الذي سلم البلاد الى الاحتلال دون ادنى رجولة ،حيث انزوت جموعه المنهزمة في الجحور واستسلموا بكل ذل وخنوع ،طاعنا بالنظام الدستوري وبالنظام السياسي الجديد الذي استمد شرعيته من الانتخابات الشعبية التي تكاد تميز هذا النظام عن غيره من الانظمة في المنطقة العربية دون استثناء، فضلاً عن الانظمة الدكتاتورية اللاشرعية التي حكمت العراق، بما فيها النظام الانقلابي اللادستوري الذي يدافع عنه، وهو يعلم أي دستور وهمي كان يحكم به البلاد، وكيف كان يكتب ويعدل ويشطب بقلم صدام ولا شريك له في ذلك سواه، لانه كان الاوحد ولا حول للشعب العراقي في الاعتراض او الطعن بأبسط تصرف اداري من باب عدم الدستورية، ولنا في القاضي العراقي دار انورالدين خير مثال حين حكم بالسجن لاشارته العابرة بعدم دستورية تصرف وقع في دعوى رفعت امامه في احدى محاكم بداءة بغداد، وقد صدق الحكم الذي اصدره تمييزاً من اعلى سلطة قضائية في العراق وهي محكمة التمييز، التي لم تحال اليها أي قضية حكمت بها محاكم الامن والمخابرات ومحكمة الثورة سيئة الصيت التي ينبغي افراد قضية لمحاكمة قضاتها ونظامها وما اصدرت ،قبل الخوض باحد قراراتها الذي حكمت بموجبة باعدام 148 مواطناً من اهل بلدة الدجيل، وذلك غيض من فيض وما اكثر من اعدم بموجب تلك القرارات، حيث انتهت حياة الآلاف من المغيبين بعد ان كانوا احياء في نوافذ الامل لدى اهلهم، لكن تلك الاوراق التي عثر عليها في دهاليز الامن العامة والاستخبارات العسكرية أغلقت كل تلك النوافذ..
والغريب ان (المحامي) الدليمي قد انساق وراء اوامر سيده، كونه مازال مأسورا بطغيانه الذي فقد جبروته منذ القي القبض علية وهو في جحره ،فلماذا يجعل هذا المحامي من نفسه خصما شخصيا للنظام السياسي الدستوري وللمحكمة وللشعب وهو يعلم ان من حق الادعاء العام تحريك الدعوى الجزائية ضده على وفق قانون العقوبات وما تضمنه من احكام صريحة بشأن هذه الجرائم؟
اما من ناحية طلبه الاول وهو الطعن بشرعية المحكمة فقد كانت اسبابه غير منطقية البته لان الدستور العراقي الدائمي قد اقر هذه المحكمة دستوريا ،في الوقت الذي اقر به هذا المحامي بهذه الدستورية حين لوح بموضوع تحريم المحاكم الخاصة والاستثنائية الذي نص عليه الدستور العراقي الجديد،ومطالبته بتطبيق القانون الاصلح للمتهم الذي يفرضه قانون العقوبات العراقي ،جاهلا بان القانون العادي لايقيد الدستور !!فيما كان موقف المحكمة ممتازا في رفضها الدفع الشكلي للمحامي ومنعها تدخل المحاميين الغير عراقيينوانحصار مهمتهما في تقديم المشورة للمحامي العراقي دو الترافع مباشرة ،وحين هددا بالخروج رحب رئيس المحكمة بذلك و(زعلة الركة على الشط)كما يقول المثل العراقي .
https://telegram.me/buratha