( بقلم المحامي طالب الوحيلي )
الخطط الامنية التي شهدتها معظم محافظات العراق ،وبغض النظر عن أسمائها ،كانت وما زالت مثارا لجدل كبير ،المواطن العراقي لا يهمه اليوم شيء اكثر من البحث عن محيط آمن يحتويه هو واسرته ،فيؤمن له أوقاتا ومناخات تحفزه على البحث عن مصادر رزقه ومتممات حياته التي حرم منها طيلة العهود السابقة ،فمهما توفرت له من نعم ومقتنيات وتصاعدت لديه فرص عمل كانت حسرة عليه بقدر ماهي حكرا على اتباع النظام البائد ومؤيديه،او تصاعدت مدخولاته اليومية بمستوى يؤهله للعيش الكريم،او انه قد تخلص نهائيا من زائر منتصف الليل المشؤوم او طارق المساء المتلفع بزي عناصر البعث وأضابيرهم الشاحبة بين الجرد اليومي او فرض التطوع الإجباري للانخراط في الجيش الشعبي او فدائيي صدام ،وحقا انه انطلق نحو صناديق الاقتراع دون خوف او ريبة او ضغط من أحد ليقرر انتخاب من يرتضيه ممثلا له في الجمعية الوطنية ويقرر دستوره الدائم او ينتخب برلمانه الذي هو مصدر تأسيس الحكومة واختيار رئيس الجمهورية الذي طالما كانت تولده البيانات ذات الرقم واحد ،والديباجة المعروفة (بسم الله وباسم الشعب )ليقتل فيما بعد شر قتل وتنتهك حرمات الله سبحانه وتعالى .
كل ذلك مثالي حقا وجميل حد السحر ،وقد شعر به الكثير من ابناء شعبنا ممن مسهم الضر ،واعتلكهم ضيم السنين السوداء ،فوجدوا ان تحمل الصعاب هو ضريبة لابد منها للخلاص من ذلك البلاء ،وان الالتزام بتكاليف المرجعية الدينيه في الذهاب لصناديق الاقتراع هو جزء من هاجسهم الوطني الذي لم يخبو بالرغم من ماكنة الموت التي أكلت زهرات شبابهم والمقابر الجماعية التي طمرت جزءا كبيرا من أمة هي كنز وادي الرافدين ،فكان لابد لهم من استقراء مستقبلهم عبر فهم عميق لحركة التأريخ وجهاد ونضال قاس ،للخلاص من مرض عضال انتاب الجسد العراقي .
وكل ذلك رائع حقا ،ولكنه لا يساوي شيئا لأب عثر على شيء يشبه جثمان ابنه الذي مزقته مفخخة ،او أم تعد الأيام لكي ترى وليدها وقد زف وسط أقرانه الى عرسه ،فلا تجد سوى نعش تشيعه الدموع والهتاف الى وادي السلام الذي اصبح الوصول اليه محفوفا بالمخاطر ،اذ قد لايعود (الدفانة) الى اهلهم بسلام!او لشقيق راح يبحث عن جسد شقيقه المخطوف من منشاته الحكومية ،ويقف مأسورا على شاطئ دجلة الخير ،حيث (الجراديغ) التي تحولت من أماكن لهو بريئة الى محطات لانتشال الجثث المذبوحة ،وقد مثل بها شر مثلة تصل حد تثبيت رؤوس الكلاب المسكينة على أجساد الضحايا المنحوري الرؤوس،وبين هذه الكوارث وتلك تهدم المراقد بما لها من قدسية جحدتها بدعة غريبة عن الشعب العراقي الأصيل ،وتهتك حرم الأئمة الأطهار وهم أوتاد هذه الأرض بما حملت ،وتهجّر الأسر الآمنة من مواطنها وترحّل كما رحل أبناء الارض المحتلة من قبل اليهود ،وتستباح حرمهم وممتلكاتهم ,و و إلى آخره.
لقد تعمدت استذكار بعض هذه المآسي التي لم يشهدها عصر ولا مكان في العالم متحضره ومتخلفه ،حضريه وقبليه الا في العراق ،مع سكوت متبلد من قبل العالم عربيه او اسلاميه أو مؤسساته الانسانيه واتحاداته المتنوعة وأممه المتحدة ،ولا ادري علام اتحادها مادامت أسيرة القوى الدولية المسيسة للقتل والدمار ؟!وهي ليست مقدمة لمناقشة الخطط الامنية التي شهدها العراق وانما هي إيجاز لابد للحكومة ان تستشعره مادامت تمثل الناخب العراقي الذي يعتبرها مسؤولة عن كل ما يجري وما ينبغي ان يتحقق ،وكل ذلك رهين بالأمن العام ومفرداته ،فإذا كان ميزانها العدل في تطبيق القانون ،وان لايظلم احد امام القضاء ،فاين توزن دماء الأبرياء التي سفكت والأجساد التي قتلت والتي لا تقل أثرا عن مجازر النظام البائد ان لم تكن اشد فتكا وبشاعة،وليس ذلك بتسويغ للعقاب أبدا ،لان القصاص سنة كونية ولا تستقيم الحياة ما لم تحكمها سنن وقوانين،القانون، هذه الكلمة التي ارتبطت بكل سلوك بشري متحضر يميز المجتمع الانساني عن شريعة الغاب، وقد ظهرت بوادره بأولى العلاقات الاجتماعية للإنسان، هذا الكائن الذي لا يمكنه العيش والحياة الا عبر قواعد منظمة للتصرفات الخاصة والعامة، قد تكون عرفية او تكون نصوصاً مكتوبة يصدق عليها تسمية القوانين وقد عرف وادي الرافدين قبل غيره من الحضارات تلك التشريعات التي عرفت بالمسلات كقوانين "ايشنونا" او شريعة "اور نمو" او قوانين الأسرة السومرية. ولعل مسلة حمورابي هي الأشهر في تأريخ القانون وهي اولى التقنينات المتطورة في العالم وقد حكمت هذه القوانين كافة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع وحتى العلاقات السياسية التي تنظم علاقة الحاكم بالمحكوم ولم ينافس هذه القوانين الا الأعراف العشائرية ومن ثم تلاشيها التام أمام الشريعة الإسلامية في عهد الرسالة فيما استفادت الأمم الأخرى من النظم القضائية التي خرجت من رحم وادي الرافدين الذي وقع في العصر الحديث ضحية ضعف وتلاشي الحس القانوني في الكثير من مراحله السياسية ،خصوصاً في القرن العشرين الذي اتصف بتنازع نوعين من النظم القانونية-بصفتها التنظيمية- وهي قوانين وتشريعات تصدر من سلطات دكتاتورية واستبدادية دون اللجوء الى سلطة تشريعية منتخبة، وتكاليف شرعية تحكمها الرسائل العملية لمراجع الدين عبادياً او معاملاتياً وهذا الاخير يعد منافساً قوياً لسلطة القانون التي عكست سلطة انظمة الحكم كونها وضعت لحماية تلك الانظمة والتعبير عن فلسفتها مما حولها الى ابشع وسيلة لابادة الصفوة الطيبة من الشعب العراقي، وحتى ما كان منها في ظاهره لمصلحة الشعب الا أنها في الحقيقة كانت لتكريس هيبة النظام ورأسه، وويل لمن قطف وردة من حديقة من حدائق قصوره فما بالك بالتعرض لنظامه القمعي بالقول او الهمس حتى ولو كان ذلك في مخادع نوم العراقيين.فاين نضع الخطط الامنية امام الواقع القانوني والقضائي الذي يسود العراق هذه الايام ؟
لقد تمكنت الحكومة الانتقالية من التقدم في تطوير الشرطة العراقية ،فحولتها الى قوة ضاربة ،تعتمد التعبئة الهجومية عبر بعض الوية المغاوير والتدخل السريع ،وقد حسمت الكثير من المعارك ضد الارهاب لصالحها في بغداد والعديد من المحافظات ،منها الموصل التي كانت قد استحلت من قبل الزمر الارهابية ،فيما حققت بتحالفها وتنسيقها مع الحرس الوطني الذي تطور هو الآخر ،انجازات كبيرة على صعيد استعادة سيادة القانون في بغداد وما حولها ،وقد كان بامكانها حسم الملف الامني فيما لو دعمت من قبل القوات المتعددة الجنسيات التي كانت قد تخلصت من اعباء كبيرة في فسحها المجال للقوات العراقية في متابعة الزمر الارهابية والحد من نفوذها ،لكنها كانت تعمل على عرقلة تطبيق الخطط والحيلولة دون متابعة نشاطها ،وكأنها لاتريد استقرار الامن وحسم نجاح هذا الملف للحكومة العراقية،مما اثار حفيظة المواطن والنظر الى موقف القوات المتعددة الجنسيات بريبة كبيرة،لاسيما في المماطلة بتقديم المتهمين الملقى عليهم القبض للسلطة القضائية المختصة ومحاكمتهم وتنفيذ الاحكام بحقهم ،وكان للخطاب الطائفي الذي اختبأ خلفه الجناح السياسي لقوى الارهاب بعد ان تمكن من الحصول على مكاسب سياسية كبيرة من خلال مشاركته في الانتخابات العامة للحكومة الدائمية ،ومحاولاتهم الناجحة في تجيير الكثير من تلك المكاسب في تقييد عمل قوات الأمن ومطالبتها العلنية في تدخل قوات الاحتلال في الملف الامني وعدم اطلاق يد الشرطة العراقية بهذا الشأن ،فيما كان لنظام توزيع مناطق النفوذ على الشرطة والحرس الوطني في بغداد ،مدعاة لخلق الفوضى الامنية وسببا لخروقات قوى الارهاب لصفوف الحرس الوطني في اماكن عدة او العكس ،وكان الاجدى منح اختصاص تطبيق القانون لرجال الشرطة فقط و ترك الإسناد للحرس الوطني الذي يفترض ان يكون على حدود العاصمة ،مع الاخذ بالاعتبار مدى الترهل الذي توارثته مؤسسة الشرطة القديمة وما لحقها من اضافات حملت معها الكثير من اسباب الفساد الاداري واختراقات بقايا البعث الذين بقوا اوفياء للنظام السابق على حساب القانون والعدالة وارواح المواطنين الابرياء وامنهم .
ماشهدناه من خطة امنية في الايام الخوالي ،تركت آثارا سلبية على الامن اكثر من ان تعالج ابسط خرق له ،وقد اقتصرت على وضع نقاط سيطرة في غير اماكنها مع فقرها المدقع للعدة المناسبة والعتاد والمعدات التي تليق بمفردات الاحداث اليومية ،حيث زادت الحوادث الارهابية بصورة فاحشة ومأساوية .من جانب اخر شهدنا اطلاق سراح او العفو عن اكثر من الفي متهم القي القبض عليهم لضلوع معظمهم بالعديد من الجرائم البشعة ،من باب الدعوة الى المصالحة الوطنية ،ورجال القضاء اعرف من غيرهم بان تلك الجرائم هي ضد الحق العام وانه لايجوز التنازل او الصلح فيها لان ذلك من النظام العام حسب القوانين العراقية المعمول بها والتي ورثتها الدولة من العهود السابقة ،فضلا عن كونها لم تعرض على القضاء اصلا لبيان رايه فيها ،فلماذا القي عليهم القبض ولماذا اطلق سراحهم؟!
والانكى من ذلك ان الكثير منهم قد عاد الى فعله الذي اوقف بسببه كما حدث في مجزرة المحمودية مؤخر،مما اثار تحفظ احد الساسة العراقيين ممن كان وراء هذا المشروع!!
https://telegram.me/buratha