صادق مهدي حسن
في جانب من خطبته في بيان فضل شهر رمضان المبارك، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ((أيها الناس: إن أبواب الجنان في هذا الشهر مفتحة فاسألوا ربكم ان لا يغلقها عليكم ، وأبواب النيران مغلقة ، فاسألوا ربكم أن لا يفتحها عليكم ، وأبواب النيران مغلقة فاسألوا ربكم لا يفتحها عليكم، والشياطين مغلولة فاسألوا ربكم أن لا يسلطها عليكم)).. قال أمير المؤمنين عليه السلام: فقمت ..فقلت: يا رسول الله ما أفضل الأعمال في هذا الشهر ؟ فقال (يا أبا الحسن: أفضل الأعمال في هذا الشهر، الورعُ عن محارم الله عزّ وجل ..)أمير المؤمنين (عليه السلام) يسأل والنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) يجيب ، وكم سائِلٍ عن أمره وهو عالِمُ.. إنما هي رسالة ووصية من (أبَوَي هذه الأمَّة) إلى جميع المسلمين مكتوبةٌ بأحرفٍ من نور على جبين الدهور إلى يوم القيامة، فشهر رمضان المبارك هو فرصة تربوية لتهذيب النفس بما جعل الله فيه ،بمنه وكرمه ولطفه وعطفه، من أجواء روحية استثنائية وتوجه تعبوي نحو الطاعة والعبادة بكل صنوفها لبناء الفرد والمجتمع على جميع الأبعاد وهو مما قل نظيرهُ بل قد لا نجد له نظيراً في غيره من شهور السنة وأيامها.. والسؤال هنا ما هو (الورع عن محارم الله) ولماذا يُعدُّ أفضل الأعمال بنص النبي الكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) ؟يعرف اللغويون الورع بتعريفات مختلفة جوهرها واحد ومنها ..يقول ابن منظور في لسان العرب : (الوَرَعُ التَّحَرُّجُ، وتَوَرَّعَ عن كذا أَي تحرَّج) وفي معجم تاج العروس..الوَرَعُ : التَّقْوَى والتَّحَرُّجُ والكَفُّ عن المَحَارِمِ . يقول أمير المؤمنين (عليه السلام ): (ورع الرجل على قدر دينه) وهو عين ما يتناوله علماء الأخلاق مع بسط أكثر في القول.. ومن أقوالهم ما ورد في كتاب مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول للعلامة المجلسي حيث قَسَّم فيه درجات الورع إلى أربع درجات ننقلها بتلخيص وتوضيح وهي ورع العدول (التائبين) : وهو الورع عن الحرام الذي تحرمه فتاوى الفقهاء والذي يخرج به الإنسان من الفسق ، وورع الصالحين: وهو الاجتناب عن الشبهات خوفاً منها ومن الوقوع في المحرّمات ، وورع المتقين: وهو ترك الحلال خوفاً من أن ينجرّ إلى الحرام، مثل ترك التحدّث بأحوال الناس مخافة أن ينجرّ إلى الغيبة ، وورع الصديقين (السالكين): وهو الإعراض عما سوى الله تعالى خوفاً من صرف ساعة من العمر فيما لا يفيد زيادة القرب منه تعالى وإن علم أنه لا ينجرّ إلى الحرام. فالورع إذن هو التحرز والامتناع عن ما لا ينبغي وكفِّ النفس عن تخطي حدود الشرع والعقل ..وقد استفاضت الروايات في التعريف والتأكيد على الورع خصوصاً فيما يتعلق بالجانب العبادي الذي يعد المنطلق الأساس لتهذيب الإنسان فكراً وسلوكاً،وقد ورد في الأثر فيما ناجى الله تبارك وتعالى به موسى صلوات الله عليه : "يا موسى ما تقرب إلي المتقربون بمثل الورع عن محارمي فاني امنحهم جنان عدني لا أُشرك معهم أحدا.." ومن استقراء الروايات الواردة عن النبي وأهل بيته (صلوات الله عليهم) نراهم يعبرون عن الورع بأنه (أصل الدين، ملاك الدين، سيد العمل، اشد العبادة، أُسُّ الإيمان، خير قرين، أفضل لباس، أساس التقوى،.....) وفي وصية للإمام الباقر(عليه السلام) على لسان أحد أصحابه وهو خيثمة : (أبلغ موالينا السلام عنا، وأوصهم بتقوى الله العظيم، وأعلِمهُم يا خيثمة أنّا لا نُغني عنهم من الله شيئا إلا بعمل، ولن ينالوا ولايتنا إلا بورع...)عود على بدء، من خلال هذا العرض المبسط الموجز لتعريف الورع وبيان مراتبه تتبين أهميته وثمراته في تهذيب سلوك الإنسان والسير به في طريق النجاة..ولهذا كان أفضل الأعمال في هذا الشهر الذي نعيش أجوائه (فزينة العمل هي الورع ولا خير في نسكٍ لا ورع فيه) فما الفائدة التي يجنيها الصائم من العبادة إذا لم يكن وَرِعَاً متقياً مخلصاً ؟! بل هو ليس إلا مصداق لما قاله النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم): (كم من صائم ليس له من صيامه إلاّ الجوع والعطش)،وهنا لابدّ لنا من كلمة : هنالك محاولات مجرمة ومسعورة ومخطط لها بشراسة لتشويه هذا الشهر وحبط العمل فيه بشتى الوسائل ..فمثلاً نجد إنَّ الكثير من الفضائيات التلفزيونية المسيَّرة من قبل أعداء الله ورسوله وبكل ما أوتيت من عزم وقوة وسلطان في سباق حامي الوطيس لعرض (البرامج الرمضانية المنوعة) والتي أُعِدَّت لها العدة قبل عام كامل لتفريغ هذا الشهر المبارك من محتواه الروحي والأخلاقي والتربوي،وقسم لا يُستهان به منا نشوان متشوق إلى المسلسل التافه والفلم البائس والبرنامج المبتذل والإعلان الرخيص و..و..على امتداد الوقت الفاصل بين الإفطار وصلاة الفجر إلى درجة أن المعتكف المواظب على متابعتها لا وقت له للدعاء أو تلاوة القرآن أو غيرها من القُربات المؤكدة لإحياء أيام وليالي شهر العطاء هذا ﴿ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾..هذا بالإضافة إلى الطقوس والعادات البائسة التي اعتاد البعض ممارستها في شهر رمضان كلعب (المحيبس) وغيره الذي يستهلك وقت العبادة بأكمله ، فمجاميع الشباب بل وحتى الشيوخ يملئون الأرصفة والمقاهي وصالات الألعاب والقمار ولا رجاء لهم سوى أن تكون لهم الغلبة في المقامرة وأخذ جائزة الرهان ! ﴿ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ﴾. فيا أيها الأحبة في الله الحذر ثم الحذر من هذه الفخاخ التي أسس لها شياطين الأنس من أعداء الإسلام ..ولنشحذ الهمم ونتوجه إلى الله تعالى ونقبل بكل ذرة من جوارحنا إلى العبادة فهو شهر الصلاة ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ` الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ وهو شهر الدعاء ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ وهذا يحتاج منا إلى التزام ومواظبة وصبر﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ ليتحقق الهدف التربوي الأسمى من عبادة الصوم ﴿لَعلَّكم تتقون﴾.. وهذه دعوة إلى كل من في قلبه مثقال ذرّةٍ من حُبٍّ لله ولنبيه الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام) أن نكون ضيوفاً مؤدبين عند مائدة ربِّ العالمين لنحظى بالخير والبركة في الدنيا وبالنعيم الأبدي في الآخرة استجابةً لنداء القرآن الكريم ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ ، فلا نملك إلا أن نسأل الله جلَت قدرته أن نكون من المقبولين في هذا الشهر الكريم بحق محمد وآله الطاهرين ﴿خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾.
https://telegram.me/buratha