ويقولون.. ترهّل وظيفي! .......بقلم بشرى الهلالي
لم أحصل على موعد سابق.. فالسيد المسؤول ليس وزيرا او عضو مجلس نواب او حتى رئيس كتلة.. بل هو رئيس مؤسسة حكومية، جعلته بدرجة وكيل وزير.
دخلت مكتبا يتوزع فيه بعض الجالسين (على الشحن) بانتظار مقابلة المسؤول، عرفت عن هويتي ورغبتي في مقابلة السيد المسؤول، ابتسم الشاب المحشور ببدلته اللماعة وهو يزيح خصلة لماعة من شعره المدهون بنصف علبة (جل)، وطلب مني الجلوس لخمس دقائق ريثما يبلغ مدير مكتب المسؤول.
اذن كان عليّ توفير جهودي لمدير المكتب بدلا من الحديث الى هذا الشاب اللماع. تحولت الدقائق الخمس الى نصف ساعة، والشاب مشغول إما بمكالمة من هاتفه الخلوي الذي لا يكف عن الرنين وإما بشباب بمثل لمعانه، يمرقون بين لحظة واخرى ليستوقفهم بتعليق ساخر، او ليهمس احدهم باذنه.
اقتربت منه لأخبره بأني في عجلة من امري، فاعتذر بطريقة تمثيلية تلمح الى انه نسي امري لكثرة انشغاله واهمية عمله، وطلب مني مرافقته الى مدير المكتب لمعرفة الموقف وفيما إذا كان السيد المسؤول سيجد الوقت لمقابلتي ام لا.
كان المكتب اوسع هذه المرة.. لا يخلو من (مشتولين)، يبدو انهم اوفر حظا من الذين سبقوهم، يجلس خلفه شاب في الثلاثينات، بمظهر لا يختلف عن الاول سوى بلون القميص البرتقالي، وفي الجهة الاخرى من المكتب جلست فتاة (مبهرجة) خلف مكتب صغير تداعب لوحة مفاتيح حاسبتها التي تعبت شاشتها الفضية من طول (صفنة) الفتاة وهي تحاول ان تتظاهر بالانشغال بعمل ما.
نظر الي المدير الثاني جاهدا ليبدي جدية واهتماما وهو يصغي الى ما قلته، ابتسم مرحبا بحرارة تليق باهمية الاعلام ودوره - كما قال- وبرقة ايضا طلب مني الانتظار لدقائق ريثما يقوم بتبليغ مدير مكتب السيد المسؤول! كانت دهشتي اكبر هذه المرة، فهذا الشاب الاكثر لمعانا لم يكن ايضا مدير المكتب المعني، ربما كان علي ان اطلب موعدا مع مدير مكتب المسؤول اولا!
وكون المدير الثاني اكثر اهمية، فلم يجد الوقت للجلوس لاجراء المكالمات وتحية الشباب اللماعين الذين (يخطفون) بين المكاتب في عجلة كخيول فقدت خط السباق، ففضل ان يظل واقفا لانجاز مهام عمله الذي يظنه (خطيرا)، وبالتفاتة كريمة منه، قطع مكالمة هاتفية ليطلب لي شرابا وهو يؤنب صاحبه لنسيانه واجب الضيافة، شكرته ووجدتها فرصة لاعلمه باني في عجلة من امري، وباشارة من اصبعه طلب ان انتظر دقيقة اخرى فقط، مشيرا في نفس الوقت الى شاب صغير (قليل اللمعان) لا يتجاوز العشرين من العمر، اختفى الصغير ليعود بعد دقائق حاملا (استكانة) شاي تتراقص ليضعها امامي.
وفور انهائه المكالمة طلب مني مرافقته الى المكتب الثالث، وكان هذه المرة اكثر اتساعا ويغص بثلاثة مكاتب اضافة الى مكتب المدير وبشخصيات (مشتولة) تبدو اكثر اهمية ممن سبقوهم، لم اكلف نفسي عناء الشرح هذه المرة، فقد تبنى المدير الثاني سرد القصة، ابتسم المدير الثالث بجدية اكبر كمن وقعت على رأسه مصيبة موعد جديد لا تكفي اجندة السيد المسؤول لحشره ضمنها، فطلب بدوره الي ان (استريح) فرفضت هذه المرة كوني (شبعت راحة) واريد العودة الى عملي بعد ان ضاع نصف صباحي.
بدا منزعجا من اجابتي والحاحي، واختصر معاناته بالقول بان الامر ليس من اختصاصه بل علي مقابلة سكرتير المدير! صعقت هذه المرة وانا اشعر باني في مغارة علي بابا بابوابها المتداخلة يحرسها جان عليّ محاربتهم للوصول الى السيد المسؤول.
بدا المكتب الرابع فارغا عندما دخلت. كنت انا (المشحونة) هذه المرة. وبعد مضي نصف ساعة خرج السكرتير من باب جانبي لمكتب السيد المدير، كان شابا (شديد اللمعان) لكن جسامة مهامه جعلته يلقي بسترته على كرسيه الفخم قبل ان يجلس كمحارب بقي وحيدا في ارض المعركة. تنقلت نظراته الجامدة بيني وبين المدير الثالث الذي تولى ايضا شرح مهمتي، فبدا كمن يستنكر اقتحامي لنهاره المجدول دون موعد سابق، وقبل ان يجيبني باغته شاب لماع مقاطعا، ثم آخر حتى اصبت بدوار كأني اشاهد فلما للمافيا، فقد فاق عدد الشباب اللماعين في مغارة مكاتب السيد المسؤول العشرين او الثلاثين شابا، كان واضحا ان لاعمل لهم سوى الحماية والـ(تشريفات) - كما يدعونها - كما كان واضحا ان معظمهم دون مؤهلات مناسبة لـ(التشريفات) سوى زي وحدوا به انفسهم وماركة (جل) وحدت تسريحتهم، والاكثر وضوحا انتماؤهم لجهة واحدة ومنطقة سكنية واحدة وربما عشيرة واحدة.
مع تكرار (مافيا) التشريفات والحمايات في مكاتب مئات المسؤولين، لم يعد غريبا ما يقال ان 75% من ميزانية الدولة الضخمة تذهب الى رواتب الموظفين، وفي الحقيقة ان نسبة الذين ينجزون عملا من هؤلاء الموظفين في دوائر الدولة قد لا تزيد عن 25%.
فلا عجب ان تخفض الدرجات الوظيفية لموازنة 2012 ليبقى آلاف الخريجين واصحاب الشهادات العليا عاطلين عن العمل، وليصرح المسؤولون بـ(قلق) عن مشكلة الترهل الوظيفي التي ترهق الموازنة وتعطل مشاريع البناء!
6/5/520
https://telegram.me/buratha