لطيف عبد سالم العكيلي
بعد عقود من زمان العن عزلة إقليمية ودولية ، شهد العراق في مرحلة ما بعد التاسع من نيسان 2003 م انفراجا واسعا في مجال حرية الرأي والتعبير ، بوصفهـــا ردة فعل عنيفة لسيادة مفاهيم النظام الشمولي ، مما أسهم بفتح الباب على مصراعيه أمام مختلف الرؤى والتوجهات التي تــنحى بمجملها صوب عملية التغيير التي تعد في واقعها الموضوعي الدعامة الرئيسة التي تقوم عليها سياسات بناء الدولة المدنية الحديثة . ويمكن القول أن تنامي مظاهر الفساد في المرحلة الانتقالية اثر بشكل كبير على مخرجات مختلف البرامج والآليات التي اعتمدتها القيادات الإدارية في مهمة إرساء دعامات البناء الاجتماعي والاقتصادي والإنمائي للبلاد ، مما فرض على السلطة التشريعية ضرورة تكثيف متابعاتها وجهدها الرقابي ؛ لغرض الحد من مشكلات آفة الفساد المالي والإداري التي طالت مختلف القطاعـــات ، ونفذت إلى ابعد مفاصل الجهاز الحكومي حتى أصبحت ثقافة لها وساءلها ورجالها ومروجيها.ولا يخامرنا شك في أهمية الدور الرقابي المفترض للسلطة الرابعة بعملية كشف بؤر الفساد وحواضنها ؛ بغية الإسهام بتعزيز مهمة السلطتين التشريعية والتنفيذية في مواجهة هذه الظاهرة التي أضحت شبحا مخيفا يقضم بأنيابه كل معاني السمو والنبل القيمية التي عهدها منذ عقود طويلة مجتمعنا المتخم بأعراف وتقاليد تنهل من سماحة ديننا الحنيف .ويمكن القول إن مسيرة مجلس النواب وسلطة القضاء في المرحلة الانتقالية حفلت ببعض الإخفاقات التي شكلت عوامل غير مباشرة أسهمت من دون قصد في تكريس ثقافة الفساد وإضفاء شرعية عليها ؛ بسبب القصور في تفعيل سلطة القانون . وهو الأمر الذي استلزم فعالية ضمير الشعب الممثل بالمؤسسة الصحفية في البحث عما متاح من المعلومات والتفاصيل التي بوسعها المساعدة في كشف كل الزوايا المظلمة بمجتمعنا متسلحة بالمهنية التي تؤمن لها إمكانية الوصول بصدق إلى ما تصبو أليه السلطتين التشريعية والتنفيذية في مهمة متابعة ومراقبة ما يوكل الى الإدارة التنفيذية من أعمال. ويوم تحدثت النائبة حنان الفتلاوي تحت قبة البرلمان بشكل مثير حيال ما تجمع لدى لجنتها النيابية من الوثائق والبيانــات التي تخص مشكلات الفساد في المفوضية العامة المستقلة للانتخابات ، كان الشارع العراقي يمني النفس بإجراء قانوني يحفظ هيبة الوظيفة الحكومية ويعزز ثقـة الشعب بحكومته المنتخبة ويزيد من تمسكه بهـــــــا ، بالاستناد على ما عرضتـــه من وثائق ومعلومات ، غير أن ما يؤاخذ على البرلمان و المؤسسات الحكومية في الإدارة التنفيذيـــــة وسلطة القضاء هو إغفال المسائل التي جرى التعرض عند مساءلة إدارة المفوضية ، مما أفضى إلى هيمنة الضبابية على مجريات القضية التي أثارت فضول الصحافة المحلية في تناول حيثياتها بمواضيع لا تخرج من دائرة التوجهات الوطنية التربوية التي أعلنها معالي رئيس الوزراء الأستاذ نوري المالكي قبيل انتخابات مجالس المحافظات ، والمتضمنة سعيه لتبني معركة ضد الفساد المالي والإداري . وكان من جملة ما ظهر في صحافتنا المحلية حينئذ مقال للزميل الدكتور هاشم حسن عميد كليــــــة الإعلام وسمه بـ ( حنان الفتـــلاوي كشفت المستور) وما أن ظهــر المقال ، حتى فوجئ الشارع العراقي بدعوى قضائية أقامها السيد فرج الحيدري على الدكتور حسن يطالبه فيها بدفع تعويض مالي قدره ملياري دينار عراقي . وقد دفعني الفضول والعجب حينها من بعض الإخوة المختصين بالقانون عن الكيفية القانونيـــــة التي خمن على وفقها رئيس المفوضية مبلغ التعويض ، لكني لم أصل إلى إجابـــة مقنعة . وبعيدا عن السير بفضاءات نظرية المؤامرة التي أوهمونا بها لسنوات طويلة ، لا أظن احد من بلادنا يجهل شراسة الهجمة التي نتعرض لها في محاولة لإعاقة التجربة الديمقراطية الوليدة التي أضاءت عتمة العواصم العربية من خلال السعي المنظم لإجهاض العملية السياسية التي دفع من اجلها شعب العراق المجاهد الصابر انهار من الدماء الزكية ، فضلا عما أضيف لمحنه من مصائب تجسدت بآلاف من المعاقين واليتامى والنساء الثكلى والأرامل اللائي مازلن يستقبلن أعياد الله وهن متشحات بالسواد . وينضاف إلى ذلك ما تمر به العملية السياسية الآن من تقاطعات ومناكفات واصطفافات استوجبت اللجوء إلى عقد المؤتمر الوطني لتقويم مسيرة القيـــادات الإداريــــــــة وإصلاح ما ظهر من ثغرات يمكن أن تودي بنا لا سامح الله إلى الاحتراب والعنف وتخريب البلاد وحرق كل ثمار التجربة العراقية الجديدة . ولا أخطئ القول أن مهنة الصحافة التي تعد الآن من اخطر المهن في العراق بحاجة إلى تقدير معنوي يحفظ هيبتها ويؤمن مناخات حرية عملها ، بوصفها البوابة التي أسهمت بتعريف السياسيين إلى الشعب في أحلك المراحل التي شهدتها بلادنا ، إضافة إلى دورها الفاعل في رصد المخالفات والاختناقات التي تحتاجها السلطة التشريعية وإداراتها التنفيذية بمهمة تقويم الإخفاقات التي تطال برامجها إلى جانب حرصها على ترسيخ القيم والمفاهيم الوطنية والإنسانية والتربوية في فضاءات مختلف شرائحنا الاجتماعية .وبصورة عامة ، يمكن القول ان كلمة مليار تشكل تجريحا وخدشا لمشاعر فقراء البلاد الذين يتنافسون على الظفر براتب الرعاية الاجتماعية او اللهاث وراء عطايا المحسنين ، وكثير منهم مايزال يعيش وسط النفايات في ما اصطلح على تسميته بمناطق الطمر الصحي أو في المقابر أو في منازل أقنان بأحياء الصفيح . وارى من المهم تذكير المسؤول بأهمية رفع الدعاوى القضائية وطلب التعويض المادي من القنوات الفضائية والوسائل الإعلامية التي ماتزال تنهش بأنيابها المسمومة أجساد فقراء العراق ومعوزيه ، فأيهما أولى بالمقاضاة وطلب تعويض مليارا دينار ابن البلد أم قرصان عربي يحتجز عراقيا ويصبغ كامل جسمه بطلاء الدهان اللماع انتقاصا من عراقيته وإنسانيته في غفلة من الزمن ، لا لذنب اقترفه سوى محاولة الاسترزاق من خير الله الوفير في مياهنا الإقليمية التي أصبح أمر استباحتها ممكنا في ظل فرقتنا وخلافات نخبنا السياسية واهتداء بعضها إلى تغليب مصالحها الشخصية على مصالح البلاد العليا .ومن المبررات التي تدفعنا لدعوة مسؤولينا وساستنا الابتعاد عن مفهوم التوجهات المليارية في الدعاوى القضائية واستبدالها بأسلوب الركون إلى الحوار الهادئ الذي يعبر عن تقاليد العراق الجديد إضافة لما سبق من العوامل ، هو كثرة الاستحقاقات التي تضطلع بها حكومتنا المنتخبة بمختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإنمائية والخدمية التي تستلزم استقرارا يسهم بتمكين قطاعات البلاد بذل أقصى جهودها لإعادة العراق إلى موقعه الطبيعي في المحيطين الإقليمي والدولي .وعلى وفق ما تقدم ينبغي أن تضطلع القيادات الإدارية والمؤسسة الثقافية العراقية بمهمة الحفاظ على العاملين في مجالات الوسط الإعلامي والثقافي بما يتناسب مع التضحيات الكبيرة التي قدمتها الأسرة الصحفية وعموم موارد المنظومة الثقافية ، وتامين مناخات عملها .لنتواضع قليلا سادتي المسؤولون ، ونترك خلافاتنا جانبا ونجهد أنفسنا من اجل شعبنـــــــا وبلادنا ، فمسح المسؤول على رأس طفل يتيم أو إعانة أرملة بحاجة إلى علاج أو زيـــــــــارة مريض لايملك ألف دينار للإسهام بالتخفيف من آلامه هو خير الأعمال عند الله يوم لاينفـــع فيه لا مليار ،ولا سيارة مصفحة ، ولا حتى من كان يشار أليه باسم مولتي تريليون . • المهندس لطيف عبد سالم العكيلي /باحث وكاتب
https://telegram.me/buratha