( بقلم : كريم محروس )
في هذا العصر .. عصر العلوم والثقافة ، عصر تقنيات الاتصال المتطورة ، عصر تبادل المعارف ونقل المعلومات بيسر وسرعة قياسية .. في هذا العصر يكاد البعض منا يشعر بالكآبة حينا وتغلبه حال الاشمئزاز حينا آخر كلما تناهى إلى مسامعه أو شاهدت عيناه حدثا كان الفاعل المعتدي فيه عنصر ديني أو ثقافي طائفي همجي وحشي وكان القابل الضحية فيه عنصرا أو معلما تراثيا دينيا أو ثقافيا حضاريا مقدسا. فمثل هذه الاعتداءات لا تنم إلا عن جاهلية وسفه مطبقين ، ولا تصدر مثلها إلا عن مرضى نفسيين أو متخلفين عقليا أو عن مركب مستفحل منهما ممزوج بعدوانية خسيسة.وربما تقل درجة شعورنا بالكآبة وغلبة الاشمئزاز هذه فيما لو كنا معاصرين لزمن متأخر يقترب من عصر اكتشاف الآلة البخارية مثلا حيث ترد أخبار الأحداث شفهية أو مكتوبة ، متأخرة ومجملة أو مشوشة ، وتقترب في هيئتها إلى الشكل القصصي الأسطوري أحيانا، ولا تعتني بالتداعيات والتبعات ،بل ربما تباعد بين الحدث وبينهما. ولكن هذا الشعور النفسي البسيط أو القليل ليس فيه تصديق ويقين مطلق ، فلربما يزداد ويتعمق هذا الشعور ويستفحل إذا ما كان المعتدى عليه مثلا مسجدا أو ضريحا مقدسا لأئمة أوجب الله تعالى مودتهم ومحبتهم ، ثم يبقى مثل هذا الحدث ماثلا في الذاكرة حتى تتبلور على أثره ثقافة خاصة وإن اجتمعت بعد ذلك أوصال هذا الحدث وتمت تفاصيله وتداعياته وتبعاته على مر الأيام.وفي كلتا الحالين ترجع تفاصيل الأحداث أو إجمالها وآثارها النفسية والروحية إلى عاملين أساسيين هما: مستوى تطور تقنية الاتصال ومدى توافر وسائل كسب المعارف والعلوم ، ودرجات الوعي الثقافي والعلمي الناجمة عن التعاطي والتفاعل مع تطور تلك التقنية. ومع توافر هذين العاملين في عصرنا الراهن والتناسب المطرد بينهما ؛ أصبح من اليسر بمكان معرفة خلفيات الأحداث وحقائقها الثقافية والدينية الموروثة المتصلة بحركة التاريخ وتفاعلها في عرضه ، فضلا عن اتخاذ الموقف الحازم واللازم الذي تتطلبه إثاراتهما الذهنية وموجباتهما الدينية . ولكن الخطورة هنا تكمن في التعاطي السياسي مع تلك الأحداث الدينية الطائفية بلا قواعد فكرية لها إحاطة تامة بالحدث نفسه وتجعل منه دافعا للقراءات الصحيحة .فمن شأن مثل هذا التعاطي السياسي توليد مساعي محطمة لمنظومة القيم الفكرية أو التاريخية فضلا عن ضوابط الدين والمذهب أو تجاوزهما معا. فمن منا مثلا يعتقد أن قضية تدمير ضريحي الإمامين العسكريين (عليهما السلام) قضية قابلة للمساومة السياسية أو قابلة للتأجير خضوعا عند ظرف اجتماعي أمنى أو سياسي أو ثقافي ؟!. ولمثل هذا ، ازداد شك الكثير منا حين شاهدنا سكوتا طائفيا مطبقا إزاء الذكرى الأولى لحادث تفجير الضريحين في سامراء وكأن الذكرى هذه لم تكن أمرا باعثا على إحياء أمر أهل البيت (عليهم السلام) وتحمل مسؤولية التصدي للشأن الطائفي ، حتى تساءل البعض منا: هل هناك جحود أم صفقة سياسية ، أم تمهيد لاتفاق ما مع اتباع السلف الوحشي ، أم أن هناك مصلحة يرى فيها أصحاب الشأن مصلحة تفوق أحياء هذه الذكرى الأليمة ؟!في عصرنا الحديث لم تعد تلك الترهات والهرطقة والشعوذة ومظاهر الدجل والكذب والاختلاق والنفاق الطائفي والعنصري الديني فاعلة بين عناصر أي مجتمع مدني إلا إذا استسلم هذا المجتمع ورفع الراية البيضاء تحت وطأة أخطر عاملين: مصاب الفقر والتوتر الأمني. وكم هي أعداد الأدبيات الموروثة التي سلبت الحقائق مع توافر هذين العاملين واصطنعت الأكاذيب ، وحللت وتصورت ثم عقدت التصديق المذهبي الطائفي بناء على وقائع ونصوص مختلقة لا واقع لها ولا صدقية ، فكانت اليوم بمثابة وثائق دامغة وشهادات صالحة لعقد إدانة مبرمة التحقق لكل متبنيها ومنتسبيها. وأظن أن المستقبل سيشهد محاكمات ثقافية واسعة للأدبيات الموروثة ونصوصها المختلقة أو الكاذبة أو المحرفة بفضل تقنيات العصر الحديث ووظائفه الثقافية.فكيف بحادثة أليمة مثل حادثة تدمير الأضرحة في سامراء تجري في أيامنا هذه فلا ينكشف زيف الفكر التكفيري الطائفي واتباعه ؟! . ألم يخير اتباع المذاهب في سامراء بعد بين الرجوع إلى الحقيقة الدينية أو الاستمرار في تبني الزيف المذهبي ، وأين أهل سامراء من هذه الحادثة؟!وإذا ما حاكمنا النصوص المذهبية وما أنتجته من ثقافة بما توافر لدينا من وسائل تقنية حديثة فإننا سنكتشف حجم دور الأعلام المضلل ودعاية الانحراف التاريخي التي ورثناها منذ الانقلاب على الأعقاب بعد وفاة النبي الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله) ، مرورا بالدولتين الأموية والعباسية وما تلاهما . كما أننا سنكتشف حجم المؤسسة المذهبية المنحرفة القائمة اليوم على هذه الأدوار ومدى تلاعبها بمصائر الاتباع وولائهم السياسي فضلا عن دورها في صناعة مجموعات السلف الوحشي ومدها بعوامل النمو والانتشار.وفي ذلك كانت السيئة الكبرى التي اقترفها النظام السياسي العربي ، القومي والعشائري ، تمثلت في العزل الطائفي المكرس لحال الفقر والتوتر الأمني المتمم لمنهج تاريخي ثقافي ديني اصطنعته الدولتان الأموية والعباسية ثم تبعتهما الدولة الأيوبية على هذا المنهج بلا حدود، فيما عززت السلطنة العثمانية وبديلها القومي والعشائري الشوفيني من مكانة هذا المنهج المنحرف في العصر الحديث ، فكان الجهل الحاكم المطلق بين الأغلبية من أتباع اتجاه التشيع فباعد بينهم وبعض أصولهم الفكرية والعقائدية والتاريخية فتفرقوا شيعا إلا القليل منهم ممن وفى لرعاية الحق ، وكان الجهل الحاكم المطلق أيضا بين الأغلبية من اتباع اتجاه الخلافة (السنة) فباعد بينهم وأصولهم الفكرية والعقائدية والتاريخية ولكنه قرب بينهم ومؤسسات الدولة وتحالفاتها السياسية على مدى 1300عام . حتى استحال هذا التحدي العظيم محور ارتكاز محصت حوله المصادر والأصول الفكرية والعقائدية والتاريخية لكلا الاتجاهين وتحدد مصير استقلال أو تبعية مؤسساتهما الثقافية والدينية. وكان تدمير ضريحي الإمامين العسكرين (عليهما السلام) المثال البارز والميزان العادل في ذلك التمحيص ، فأي من المذاهب الدينية ستسقط في امتحان التحدي هذا؟.وكلما ازدادت درجة الوعي الثقافي والديني في عصرنا الراهن المتوافر على فرص الحصول على المعرفة وتساويها بين الناس ، بين الأغنياء والفقراء بدرجات متفاوتة ؛ رجعت الاتجاهات الثقافية الدينية إلى أصولها بحثا عن الحقيقة التي بلغتها رسالة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) فمنهم من اهتدى , وان من اعتدى ففي جانبه لا بد من بروز لمظاهر قوى ثقافية دينية مَرَضِيّة تعتقد في التناسب الطردي بين تطور وسائل تبادل المعلومات وازدياد درجات الوعي خطرا قاتلا أو عاملا ناسخا لسنة الأجداد الخلفاء الموروثة والتي كانت في مرحلة تاريخية موئلا لنظام الدولتين الأموية والعباسية ومجتمعهما ، وقاعدة بنيت عليها أعمدة الدولتين الأيوبية والعثمانية ومجتمعهما، وأساسا شيدت عليه النظرية القومية ونظامها الاجتماعي العربي في عصرنا الحديث.ولا غرابة في اجتماع تلك القوى الثقافية والدينية المَرَضية الضالة وتحالفها في وحدة سياسية واحدة متطرفة شديدة الوحشية نالت من صرح الأضرحة المقدسة ومساجد المؤمنين وسعت إلى الخراب وتعميم القتل والفقر والتوتر الأمني في حال هستيرية مجنونة ، وذلك بحكم اطلاعها على مستجدات الوضع الطائفي وتحولاته ومثولها أمام امتحان التمحيص برؤية مضطربة لا يقبلها العقل ، ولانكشاف كل المذاهب الدينية والثقافية بلا استثناء على حقائقها ،وللانتشار الواسع للمصادر والأصول العلمية والثقافية بين عامة الناس عوضا عن خصوصيتها السابقة في التداول بين علماء المذاهب ومراكزهم العلمية المنزوية والمنعزلة.وبمقدار الشوق العظيم لكسب المعارف الدينية والاطلاع على حقائقها لدى اتباع المذاهب من بعد التحولات العصرية وانحلال عوامل ودوافع الجهل والفقر ، إضافة إلى اثر ذلك على التحول المذهبي بين الاتباع في صوره المثيرة -كما هي الحال في صور التحول المثير عن المذاهب الأربعة إلى اتجاه التشيع – هناك في المقابل رد فعل سلبي مضطرب الفكر لا يقبل التمييز بين الحجج والأوهام ولا يجد أمامه من وسيلة إنقاذ إلا وسيلة اتباع الهمجية والوحشية والقتل والتدمير بلا حدود أو ضوابط. إن الاعتداء الغاشم الذي طال ضريحي الإمامين العسكريين (عليهما السلام) في مدينة سامراء أجلي مثال قريب في هذا المضمار .حيث يستعيد المسلمون في هذه الأيام الذكرى الأولى لهذا الاعتداء الوحشي ويتداولون انعكاساته المذهبية وتبعاته السياسية وتطوراته الثقافية بالصوت والصورة لحظة بلحظة ، فيميلون بذواتهم إلى الحزن والأسى حينا امتثالا لمطلب الود الواجب لأهل البيت (عليهم السلام) ، ويتأملون حينا آخر في مثل هذا العصر كل الخير ليستبدلون أثر هذا الحدث المثير للحزن والكآبة والاشمئزاز بانطلاقة معرفية وعلمية جديدة متمسكة بأهل البيت (عليهم السلام) ومستقطبة لانتباه مجتمعات العالم أجمع.والحمد لله الذي جعل أعداء أهل البيت (عليهم السلام) من الحمقى ، فهم بوسائل التدمير والقتل وتدمير الأضرحة والمساجد هذه يمارسون وسائل قديمة مارسها أجدادهم منذ مئات السنين ويشيعون بها أفكارا جامدة متخلفة في عالم مختلف تاما ومتقدم ومتعدد الثقافات والنظم والوسائل والقيم والمصالح. فلو أخذنا حادثة سامراء مثالا ، سنجد أن للحدث هذا دور عظيم في نشر معارف أهل البيت (عليهم السلام) والتعريف بهم. وكان حقا حدثا مروعا آثار عواطف محبي أهل البيت (عليهم السلام) فحزنوا لفرط حبهم ومودتهم لآل الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) ، ولكن السلفيين الوحشيين قد أتموا الحجة على انحرافهم ، وهم بهذه الفعلة السخيفة أدانوا تاريخهم ومذهبهم الفكري بأنفسهم وقدموا للعالم ولكل مذاهبه وطوائفه وأديانه وثيقة دامغة عرفوه من خلالها بكل جرائمهم التاريخية والمعاصرة ضد أهل البيت (عليهم السلام) واتباعهم وكل مظهر من مظاهر تشيعهم .وكلي اعتقاد بأن كل اتباع المذاهب والطوائف والأديان والثقافات في العالم قد أدانت هذا العمل واستنكرته وعرفت منتسبي مذهب التدمير والقتل بالوحشية والتخلف النفسي والعقلي المركب . وأما اتباع المذاهب الأربعة وفرقها وأئمتها فقد دخلت في دوامة من الحرج شديد أمام العالم إزاء هذا الحدث فتبرأ كبار بعضهم من منفذي تفجير المرقدين المقدسين ، ولكن الآثار التي سيتركها هذا الحدث على المسيرة الثقافية لهذه المذاهب ستكون سلبية وخطيرة، الأمر الذي يدعو اتباعها إلى الحذر والعمل الجاد على تقويض فكر السلفية التكفيرية بلا تردد. فنحن نعيش في عصر يختلف تماما عن عصور التصفيات الطائفية ويستوجب الوقوف عند الحقائق ونبذ ما دونها .اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
https://telegram.me/buratha