علي محمد البهادلي
أعتقد أن هناك من يخطِّؤني عندما يقرأ عنوان المقال، بسبب أن السيد الشهيد محمد باقر الصدر من العلماء الذين اختطوا منهجاً إصلاحياً يقوم أولاً وبعد تشخيص الخلل بالتنظير للمجالات التي ينبغي للحركة الإسلامية المعاصرة أن تخوض غمارها، بدءً بالتأقلم مع الواقع المعاصر على وفق رؤية إسلامية أصيلة، وليس انتهاءً بالتنظير للدولة الإسلامية، وهذا، مما لا يخفى على أحد، من الأمور التي يصعب على الجماهير أن تعيها وتستوعبها في ظل وضع دكتاتوري مأساوي أطبق على وعي الجماهير وألغى أي فكر دون فكر الرئيس والقائد الأعلى والملك ..... إلخ، فقد ظلت الأمة الإسلامية يسيطر عليها الطغاة وتفنن هؤلاء في عملية تجهيل الأمة الإسلامية وتدجينها وإرهاقها بالكثير من الخرافات والأمور التي تخدر الفكر الإنساني، وهذا ما جعل الأمة رهينة في يد هؤلاء الطغاة وهذا ينبغي على كل من له أدنى إلمام بالتأريخ الإسلامي أن يعيه وأن يدركه وأن لا يغيب عن ذهنه طرفة عين، إذاً فشخصية كهذه، كما يرى البعض، في ظل أمة كهذه الأمة، سيكون فكرها نخبوياً ولا تستطيع أن تنزل إلى مستوى الشارع وتعيش هموم الأمة، فضلاً عن الذوبان فيها! فهذا نفسه ما طبع الكثير من الفلاسفة والمنظرين الذين صعب عليهم النزول إلى أرض الواقع واقع الجماهير المضطهدة، وبقوا مستغرقين في أحلام يقظتهم ومدنهم الفاضلة وجمهورياتهم الإفلاطونية، والصدر ــ كما يقولون ـ ليس بدعاً منهم.
بيد أن الله سبحانه وتعالى لا يمكن، على وفق نظرية اللطف الإلهي، أن يترك الناس هملاً لا يدرون إلى أين يتوجهون، ولا يعرفون كيف يتخلصون من أوضاعهم المزرية، وطبعاً هم لا يعلمون أنها مزرية!! لذا نجد في فترات متباعدة من التأريخ البشري أن الله قد منَّ على البشرية بنهوض رجال عباقرة وفلاسفة عظام ومفكرين أفذاذ، ومصلحين زيادة على ذلك، فالإصلاح يمثل أوج المسار العملي لهؤلاء البشر النادرين.
أدرك الصدر منذ نعومة أظفاره الأوضاع المأساوية التي تعيشها الأمة، فهي أولاً قد ابتعدت عن تعاليم دينها ولم يبق من هذه التعاليم إلا بقية ضئيلة، وهي ثانياً تعيش في ظل سلطة سياسية أوتوقراطية لا مجال فيها للرأي الآخر، فما يراه الرئيس أو الخليفة! هو الصواب ولسان حال هؤلاء الأوتوقراطيين (( لا أريكم إلا ما أرى))، وثالثاً تعيش في ظل الفقر المدقع وانتشار الأمراض والأوبئة، مقابل القلة من حاشية السلطان التي تتنعم بما وهبها الله من تميز في العرق!! أما المستوى الفكري والحراك العلمي فهو طبقاً لما تقدم ليس له شأن يذكر، إلا ما قام به منظرو الأديولوجية الماركسية وبعض الوجوديين الذين بثوا أفكارهم قبل منتصف القرن العشرين وما بعد هذه المدة، لذا كان لزاماً على المؤسسة الدينية أن تنهض لإنقاذ ما تبقى من ماض بعيد كان يسمى أمة!! فانتفض الصدر انتفاضة شاملة من أجل هذه الأمة المعذبة، فابتدأ أولاً بإرجاع هذه الأمة إلى معالمها الدينية والفكرية الأصيلة المتمثلة برسالة الإسلام الخالدة الإسلام، وقد أخذ هذا الجانب من انتفاضته جل عمره الشريف من خلال التأليف والنشر وإعداد كوادر قيادية دعوية تبعث الأمل الجديد من تحت ركام التناقضات التي عشناها قروناً طويلة، ولا أعدو الصواب إذا قلت أن الصدر هو أول من نظر للفكر الإسلامي على المستويات كافة بشكل عميق وواعٍ، أما ثانياً فهو قد تصدى لتحرير الشعب من قبضة السلطان وإذكاء الروح الثورية في نفوس الجماهير، وقد أدى هذا الدور به إلى مشاكل جمة وكان جسده الطاهر ثمن كل هذه المتاعب والآمال التي عقد العزم أن لا ينتهي عمره الشريف دون أن يرى الجزء اليسير منها يتحقق على أرض الواقع، وقد كان يتلذذ بالألم الذي يقع عليه من جراء ذلك؛ لأنه من أجل الله ومن أجل الأمة، أما مشكلة الفقر وانعدام العدالة وتوزيع الثروة، فقد شغلت باله كثيراً ونظَّر من أجل القضاء على الفقر ومن أجل عدالة التوزيع وتكافؤ الفرص، لكنه في الوقت نفسه كان قلبه الرقيق الكبير مفعم بمشاعر الألم ومشاعر الشفقة تجاه الجياع والمحرومين الذين لا يملكون قوت يومهم؛ بسبب النظام غير العادل الذي سيطر على مقاليد الحكم في العراق، وهناك عدة مواقف كان تشهد على ذلك، منها ما ينقله الشيخ النعماني في سنوات المحنة وأيام الحصار من أن الطبيب أكد لهم أن أم السيد الشهيد تحتاج إلى الرعاية الصحية ومن متطلبات ذلك وجود وسيلة تبريد، لكن الصدر رفض رفضاً قاطعاً أن يشتري النعماني جهاز التبريد( الأوركندشن) ونظر نظر عتاب أو توبيخ إلى أحد طلبة العلم في إحدى المرات؛ لأنه اشترى إحدى أنواع الحلويات المعروفة باللهجة العراقية الدارجة بـالـ(دهينة)؛ لأنه (قدس) يرى أن القيادة المتمثلة في المؤسسة الدينية يجب أن تحذو حذو علي (ع) في زهدها في هذه الدنيا؛ إذ قد يوجد في اليمامة أو من لا طمع له بالقرص ولا عهد له بالشبع ــ كما يقول هو(ع) في نهج البلاغة، وهناك موقف يرويه أحد المؤلفين الذين وثقوا سيرة السيد الشهيد، وهذا الموقف هو أن إحدى بنات السيد كانت برفقة الشيخ النعماني عندما كانت طفلة ورأت فاكهة(موز) فأرادت من الشيخ شراءها، وعندما عرض ذلك على السيد أبى، وقال له ما مضمونه: إذا كان باستطاعة عامة الشعب شراء مثل هذه الفاكهة فلا بأس، وبعد إقناع السيد بأن هذه الفاكهة متوفرة وبإمكان أي فرد شراءها، وافق على ذلك.
من كل ما مضى يتضح لدينا أن الصدر العظيم لم يكم من سنخ الفلاسفة والمفكرين والذين يعيشون في بروج عاجية، ولا يدرون، فضلاً عن أن يهتموا، بالمظالم التي تقع على الفقراء والمساكين والكادحين من أبناء البشر، لم يكن من صنف إفلاطون ولا أرسطو ولا من صنف الفارابي، إنه بكلمة واحدة من صنف علي إبي الفقراء والأيتام والأرامل والمعدمين، وأبي العارفين والمتقين والمصلحين وأبي المجاهدين في لهوات الوغى ومشتبك الأسنة والرماح!! هكذا كان أبو جعفر.. فهل وعى السياسيون الذين يتبنون فكر هذا العملاق صاحب القلب الكبير المسؤولية الكبرى التي تناط بالإنسان عندما يتصدى للأمور العامة؟!!!!
https://telegram.me/buratha