سامر الياس
تعود الحياة إلى بغداد إلى سابق عهدها اليوم مع مغادرة الوفود العربية المشاركة في القمة الثالثة والعشرين، ويتنفس سكانها الصعداء على اختلاف مشاربهم ومنطلقاتهم، فالحكومة سوف تروج لنجاحها السياسي، والأمني والتنظيمي للقمة، والسكان سوف يتخلصون من تعقيدات الحركة وقطع الاتصالات، لكن الطلاب وحدهم ربما كانوا يتمنون لو طالت العطلة ليواصلوا اللعب في شوراع مغلقة باتت ملاعب تحت الطلب في جو ربيعي لطيف.
وبعد سنوات طويلة، عاد العرب إلى عراق جديد، يقول مسؤوله إنه كان السباق إلى "الربيع العربي" منذ سنوات، ويقول آخرون إنه بات ساحة لنفوذ إيراني متزايد، وعرضة للانقسام على أساس مذهبي وإثني. وتشي الإجراءات الأمنية المشددة بحجم الخوف من اختراقات أمنية، وتكشف مدى هشاشة الوضع الأمني في عراق ما بعد الانسحاب الأمريكي، ويؤكد المسؤولون العراقيون أن بلادهم نجحت في الاختبار، وفشل المراهنون على عدم انعقاد القمة العربية في مكانها وزمانها، ويشددون على أن العراق عاد إلى الحضن العربي، وأن العرب عادوا إلى بغداد بعد انقطاع طويل، وما انفك المسؤولون العراقيون يرددون أن التمثيل كان جيداً جداً.
قمة عادية في زمن استثنائي...وإذا أردنا ألا نجافي الحقيقة فإن قمة بغداد هي قمة عادية في زمن استثنائي، وأخطأ من توقع أن التغيرات الحاصلة سوف تجد صداها في مؤسسة الجامعة التي أنشئت قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة ولم تغير في ميثاقها حتى الآن الذي يجعل قراراتها "حبراً على ورق" في معظم الأحيان، ويثبت عجز الجامعة في التعامل مع القضية الفلسطينية في إشارة الأمين العام نبيل العربي إلى أنه لا قرارات جديدة في الشأن الفلسطيني، وحديثه غمزاً عن أطراف خارجية تدعم إسرائيل وتملك القرار. وفي الموضوع السوري بدا أن قرارات الحد الأدنى سلمت بنقل التعامل مع الملف السوري إلى الأمم المتحدة، ودعم مهمة كوفي عنان مع التركيز على ضرورة تبنيها بقرار ملزم من مجلس الأمن. كما أن اقتصار تمثيل القادة على عشرة من أصل 22 يظهر مدى جدية الدول العربية في التعامل مع قضية العمل العربي المشترك.
ومع عدم الثقة التاريخية بقرارات الشجب والترحيب والتأكيد والتشديد، يشكك السواد الأعظم من العرب في قدرة الجامعة على التصدي للمخاطر الكبيرة التي تتعرض لها الأمة العربية، ورغم أن عددا من البلدان شهد حراكاً شعبياً أسقط أربعة أنظمة حتى الآن فإن النظرة إلى الجامعة مازالت على أنها جامعة أنظمة وبعيدة عن تمثيل الشعوب الطامحة إلى أكثر بكثير من قرارات الحد الأدنى.
وتبقى الأسئلة التقليدية دوماً حول كيفية إدارة العراق للقمة في العام المقبل، وتعامل القمة مع مطالب الشعوب، وتنفيذ القرارات في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، وعن علاقة العراق بمحيطه العربي وقدرته على الموازنة بين علاقاته مع إيران ودول الخليج التي باتت تقود قاطرة العمل في الجامعة العربية.
رمزية المكان وتتابع الأزمان...اجتمع القادة العرب، أو ممثلوهم، على ضفاف نهر دجلة تحت قبة قصر مبهر، يجمع حكايات تشير إلى التغيرات التي طرأت على بلد الرشيد منذ موعد آخر قمة لهم في العام 1990، فالقبة التي حدق بها الحضور طويلاً بناها طاغية العراق السابق صدام حسين المولع ببناء القصور، وهو السقف الذي يقول مهندسون عراقيون إن صدام بناه ليخلد ذكرى" أم المعارك" وإطلاق 39 صاروخاً على إسرائيل، ولم يسعف الحظ القادة العرب التمتع برسومات أخرى رسمها فنانون عراقيون على جدران القصر الفاخر ليرضوا "جنون العظمة" عند القائد الملهم الصامد المؤمن الفاتح إلى نهاية ألقاب تصل إلى المئة أنسانيها بعد الزمان، وهي رسومات تشير إلى عمليات القصف تلك، لكنها أزيلت بعد عمليات ترميم أجرتها السلطات الأمريكية التي اتخذت القصر سفارة لمدة تتجاوز ستة أعوام، وفي الطريق إلى القصر عبرت الوفود قوس النصر الذي بناه "حامي الجبهة الشرقية" بعد حربه الطويلة مع إيران. وفي قاعة المؤتمر حضر أمير الكويت بعد غياب 22 عاماً، ليس بصفته ممثلاً للمحافظة 19، كما كان يحلو لصدام القول بل ممثلاً لدولة كاملة السيادة تعود إلى القصر الذي قال وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري انه كان المكان الذي خطط فيه الرئيس العراقي الراحل صدام حسين لغزو الكويت العام 1990.
غائبون حاضرون...كرسي حافظ الأسد عدو صدام الفكري اللدود كان فارغاً فغاب الرئيس بشار قسرياً، كما غاب أبوه عن قمة 1990، لكن الموضوع السوري كان حاضراً بقوة في النقاشات والخطابات، وردود الأفعال السورية برفض أي قرارات عن جامعة العرب. واختار الأسد الإبن توجيه رسالة إلى قمة "بريكس" المنعقدة في الهند لم تخل في رمزيتها ومضمونها من "نفض يده" من العرب، ومراهنته على حلفاء جدد أكثر وفاء وقوة.
إيران غابت عن القمة حضوراً، لكن أنباء استهداف سفارتها في المنطقة الخضراء حضر بقوة ، ورغم تأكيد زيباري ونبيل العربي أنهما لم يسمعا أي صوت إلا أن وكالات الأنباء تلقفت الخبر وتصدر نشرات الأخبار، وإن غاب ذكر الملف النووي الإيراني القرارات فإن نفوذ طهران المتزايد في العراق ليس خافياً وربما دار في خلد جميع الحاضرين قبل وأثناء وبعد القمة.
وأما الجارة الأخرى تركيا فغابت أيضاً، وكان رئيس وزرائها في طهران لبحث ملفات الرنامج النووي والأزمة السورية، لكنها كانت حاضرة بقوة أيضاً فالشركات التركية واصلت تقديم خدماتها للقم العربية في الضيافة وتأميم المستلزمات المكتبية وغيرها، كما كان الحال في قمة سرت 2010، كما أن أنموذجها في حكم حركات "الإسلام السياسي" يلهب مشاعر قادة كثيرين ويخيف آخرين.
القذافي أبرز الغائبين...تولى المستشار مصطفى عبد الجليل نقل قيادة القمة إلى الرئيس العراقي جلال طالباني، بعد أن أطاحت الثورة بالعقيد القذافي، ولم يتحفنا الرجلان الرزينان بما جاد به سلفيهما. وعموما كانت القمة مملة نوعاً ما فالصورة التذكارية اختفى منها قادة سيطروا على العمل العربي لسنوات طويلة، وغياب القذافي يشحذ أفكارنا لتوقع لون الملابس وتصميمها، ومكان نصب خيمته في عاصمة الرشيد، وبالطبع خطابه المرتجل، وربما ردوده على رؤوساء الوفود الأخرى، ولا أتوقع ما كان سوف يقوله ملك ملوك افريقيا والعرب لو حدق في قبة القصر الذي بناه صدام، رغم الخلاف "الفكري" و"العقائدي" والأهم الشخصي بين رجلين يجمع بينهما جنون العظمة، والدكتاتورية، ولا تسعفني مخيلتي المحدودة إلا بتوقع أن يهاجم القذافي قادة العراق الجديد، ويشير إلى المثل "أكلنا يوم أكل الثور الأبيض"، وربما زاد مذكراً بضرورة تبني مبدأ الجماهيرية، والعودة إلى فكر الكتاب الأخضر، وإعطاء نصائح في مكافحة"الجرذان"، دون أن ينسى بالطبع تقديم حل "قدساليم" على طريقة "إسراطين" لمشكلة الاستيطان في القدس.
قمة القمم...ليس غياب صدام حسين عن القمة ما منع اطلاق عبارات رنانة في وصف القمة، وليس هدوء زيباري مقابل شراسة الوزير محمد سعيد الصحاف عطل نعت القمة بأفضل النعوت كما درجت العادة، وربما كانت أجواء التغيير عاملاً مهماً، لكن الأهم أن الحضور لم يتجاوز 10 قادة، يلتقي بعضهم لأول مرة، ومازالت دول "الربيع العربي" تعاني من عدم الاستقرار، وتحتاج إلى سنوات لتثبيت الأوضاع. وفي زمن العراق المسالم لم يجد قادة الخليج حرجاً من تخفيف تمثيلهم في القمة، والحديث صراحة عن ذلك، رغم نجاح عدد من الصفقات قبل القمة والتي اتضحت في شكل البيان الختامي مع تحديد سقف القرارات في الشأن السوري مع القرارات الدولية، ودعم مهمة كوفي عنان، وتجاهل الموضوع البحريني ومعه الملف النووي الإيراني وتهديدات طهران.
قمة الأرقام القياسية ونتائج الحد الأدنى...بدت بغداد في أزهى حلة "ربيعية" في استقبال الوفود التي لم تعان من أي انقطاع في الكهرباء، وغيرها من الخدمات رغم الوضع الصعب الذي يعيشه معظم أحياء المدينة، ورغم عدم وجود عواصف ترابية فإن معظم الوفود لم يغادر المنطقة الخضراء واكتفى بمشاهدة بغداد من عبر زجاج السيارات وحصراً في الطريق من المطار إلى الفندق وقصر المؤتمر.
وتقدر مصادر مختلفة كلفة قمة بغداد بنحو (1,5) مليار دولار، وتولى نحو 100 ألف رجل أمن حماية القمة والوفود المرافقة لها، كما منحت الحكومة عطلة اجبارية لسكان بغداد لمدة ستة أيام، وأشرف مئات المضيفين والمضيفات الأتراك على راحة الوفود في الفنادق، وفي مكان انعقاد القمة، وحرم العراقيون من هذا "الشرف" خوفاً من الخروقات الأمنية.
اقتصرت قمة الزعماء وممثليهم على جلسة علنية طويلة، وتراوحت الكلمات بين دقيقتين، وأكثر من 25 دقيقة، وأغلب الظن أن الجلسة المغلقة كانت قصيرة جداً، وغادر معظم رؤساء الوفود مباشرة بعد انتهاء القمة دون أن يباتوا أي ليلة في بغداد.
قادة الوفود بحثوا تسع نقاط رئيسية في القمة، وخرجوا بإعلان بغداد الذي يتضمن 49 نقطة تفصيلية، وربما لا يجد كثير من أبناء العرب الوقت أو الجلد على قراءة هذا الإعلان الكبير، وينتظرون تغيرات جدية في آلية عمل الجامعة العربية، وانعكاسات ذلك على حياتهم اليومية.
https://telegram.me/buratha