علي بابان وزير التخطيط السابق و القيادي بائتلاف دولة القانون
أمة في خطر...!!!
في مطلع عقد الثمانينات من القرن الماضي تعززت القناعة فيالولايات المتحدة بأن هناك خطراً يتهدد الموقع الريادي لتلك الدولة ومكانتها بيندول العالم، لا لعجز في قوتها العسكرية، ولا لتراجع ادائها الإقتصادي، ولكن بسببالشعور المتعاظم بأن النظام التربوي الأمريكي لم يعد في المركز الأول عالمياً ،ولأن الطالب الياباني والكوري الجنوبي وحتى الفنلندي تفوقوا على الطالب الأمريكيفي الإختبارات العالمية التي أجريت لقياس كفاءة الطلبة في الرياضيات والعلوم...
في أب 1981 شكل وزير التربية في الولايات المتحدة الأمريكيةمجموعة من ثمانية عشر عضوا لتدرس النظام التعليمي بكل تفصيلاته وتقدم المقترحاتلإصلاحه، وقد قامت اللجنة بجهود مضنية إمتدت على مدى ثمانية عشرة شهرا درست خلالهاالعديد من تقارير الخبراء ونتائج البحوث ذات العلاقة والمرتبطة بتقويم التعليم ،بل واشتملت حتى على القضايا الإقتصادية المرتبطة بالتعليم، وعقدت العديد منالندوات والإجتماعات بهدف الإستماع إلى وجهات نظر المعنيين والمهتمين بشؤونالتعليم، كما أقامت منبرا مفتوحا للحوار في عدد من الولايات لإتاحة الفرصةللراغبين في الإدلاء بأرائهم حول الإصلاح التربوي وعقدت ندوات ومؤتمرات في جميعأنحاء الولايات المتحدة ليتاح للولايات المختلفة بظروفها ومشاكلها الخاصة فرصةللإشتراك في الحوار وإبداء المقترحات حول خطة التطوير، صدر التقرير الختامي لهذهالمجموعة في نيسان 1982 وكان عنوان التقرير دافعا لإثارة الإهتمام على المستوىالوطني فقد إختار واضعوه عبارة " أمة في خطر " -ANation at Risk - عنوانا له ، ولعل أهم ماورد من العبارات في هذا التقرير "لوقامت قوة معادية بفرض اداء تعليمي قليل الجودة على الشعب الأمريكي، لعد ذلك مدعاةللحرب، ولكن ذلك يحدث الأن من خلالنا نحن الذين سمحنا به" ...!!
علينا أن نتأمل قليلا في هذه العبارات فعندما تشن الحرب علىأمة متعلمة ذات نظام تعليمي متطور وتهزم عسكريا فإن تلك الأمة قد تعوض ذلك بسرعة خلالجيل أو لربما أقل ، وتقف على قدميها مجددا ، ولكن عندما تضع نظاما تعليما متخلفافإنك تنتج أجيال كاملة من المتخلفين ، وتحكم على الأمة بهزيمة حضارية متواصلة قدتمتد طويلا ...!!!
في عام 1991 وفي عهد الرئيس بوش الأب نشر مشروع "أمريكاعام 2000 - استراتيجية للتعليم"تضمن الأهداف الأساسية التي يسعى إلى تحقيقها نظام التعليم الأمريكي ومنها:-
"أن يحتل الطالب الأمريكي المرتبة الأولى عالميا فيمادتي العلوم والرياضيات"، كماتضمنت أن لا يكون هناك طفل واحد أو مواطن عادي خارج نظام التعليم الأمريكي (NoChild Left Behind).
أدركت الولايات المتحدة أن صناعة الإنسان وهي المهمةالأساسية لنظام التعليم هي التحدي الأكبر للفوز بالريادة العالمية وأنها قد لاتستطيع الإحتفاظ بتلك الريادة مالم ترتق نظامها التعليمي ليتفوق على النظم الأخرىالمتطورة، وأرسلت واشنطن خبراؤها التربويين ليدرسوا كل التجارب المتقدمة التي حققتنجاحا استثنائيا وخصوصا في اليابان وكوريا الجنوبية وفنلندا وليضعوا خلاصاتدراساتهم في توصيات محددة.
هدف هذه المقالة بالطبع هو التنبيه إلى مخاطر ونتائج ترديمستوى التعليم في العراق على مستقبل البلد والتأكيد على حقيقة باتت من البديهياتعالمياً، وهي تعذر تحقيق أي نهوض اقتصادي، أو تحسن في مستوى المعيشة بدون تطورالتعليم بدرجة كبيرة وبصورة جذرية، وإنه في ظل تعليم متدهور تتعاظم المخاطرالإجتماعية والسياسية لأي مجتمع، ولذلك عندما نتناول في هذه السطور تجارب الدولالمتقدمة وما فعله التعليم للنهوض بأوضاعها عموماً ومنها الإقتصادية فإننا لا نفعلذلك للترف المعرفي وإنما لنضع مجتمعنا وحكومتنا أمام مسؤولياتها في هذا المجالولنعيد التأكيد على موقع التعليم وتأثيره في حياة أية أمة من الأمم ، ومشروعنهضتها الحضاري...
إننا ندرك بالطبع الفروق الجوهرية بين أوضاعنا وأوضاع تلكالمجتمعات، وندرك إختلاف الأولويات ولكن ذكرنا لهذه التجارب يعود لسببين... الأولهو أن هذه الدول هي الأن في المقدمة بالنسبة لمستوى التعليم عالمياً ... والثانيلأن تطور التعليم فيها ترافق بنهضة إقتصادية شاملة وتحسن هائل في مستويات المعيشة،وهو ما يدفع إلى إعتبارها تجارب (هادية)، ونماذج نجاح لابد من التعرف عليهاوتطويعها لأولويات المجتمع العراقي وظروفه الخاصة ومن ثم وضعها في إطار مشروعالنهوض الوطني الشامل.
بالنسبة لليابان التي يحتل طلابها المراتب الأولى فيمسابقات الرياضيات العالمية فقد حاول الأمريكيون بعد إنتصارهم في الحرب العالميةالثانية وضع أسس جديدة للتعليم في اليابان تركز على نبذ قيم الحرب وعسكرة المجتمع،وكان لهم ما أرادوا ، لكن الشخصية الوطنية فرضت ذاتها ، وقام اليابانيون أنفسهمبقيادة عملية الإصلاح التعليمي حتى وصلوا به إلى أعلى المراتب التي جعلت من طلبتهميتفوقون على نظرائهم في الولايات المتحدة، وأنقل هنا نصا عن السفير الأمريكي فياليابان (أدوين شاور) من كتاب له بعنوان (اليابانيون)، فقد إهتم"شاور" بدراسة نظام التعليم الياباني وطرح في كتابه تساؤلاً جوهريا " ما سر اليابان ... وما سر هذاالنهوض"، ويجيب في كتابه على هذا التساؤل بالقول ... "سر نهوضاليابان يكمن في شيئين إثنين ... إرادة الإنتقام من التاريخ وبناء الإنسان، هذاهو الذي نهض باليابان ... إرادة الإنتقام من تاريخ تحدى أمة هزمت وأهينت فردت علىالهزيمة بهذا النهوض العظيم وبناء الإنسان الذي كرسه نظام التعليم...".
ولعل من المفارقات التي تستحق الإنتباه وإستخلاص الدروسوالعبر أن تعكف الولايات المتحدة على دراسة تجربة التعليم في كوريا الجنوبيةلتكتشف أن طلبة هذا البلد يتمتعون بنبوغ في مادة الرياضيات وقدرة فائقة على حلالمسائل الرياضية العويصة، وأن عدد ساعات دراسة الطالب هناك تزيد بثلاث ساعاتيوميا عن أقرانهم في الولايات المتحدة، الرئيس الأمريكي باراك أوباما عندما زارذلك البلد في نوفمبر 2010 أفصح عن إعجابه بنظام هذا البلد التعليمي ، والذي أنتجهذا التفوق، غير أن المسؤولين التربويين في كوريا الجنوبية أبدوا إستغرابهم من هذاالإعجاب لأن طلابهم - طبقا لوجهة نظرهم - "يتعرضون لجرعات علمية زائدة بطريقةتهدد طفولة الأطفال" ، ومن الواضح أن النظام التعليمي في ذلك البلد يقوم على"الصرامة" و"الإعداد الجدي والقاسي للطالب" وهوعلى العكس تماما من النظام المتفوق الاخر في فنلندا الأوربية التي حازت علىالمرتبة الأولى عالميا في التعليم لعشر سنوات متتالية طبقا لاختبارات الأممالمتحدة، وحيث لا يتعرض الطالب لأية إمتحانات طيلة سنوات دراسته بإستثناء أربعةمواد فقط في نهاية المرحلة الثانوية، كما يترك للمعلم الحرية الكاملة في إختيارالمنهاج الدراسي الذي يود تدريسه ...!!
ويصرح كاتجاتوري المسؤول عن الإرشاد التربوي في مدرسةكالاهتي الشاملة بهلسنكي قائلا: "إن العمل لمدة ساعة واحدة في اليوم كافيةهنا لخلق طالب ناجح، فهؤلاء الأطفال لهم حياتهم التي يريدون أن يحيوها"،إن هذا التباين الشديد بين "الصرامة" الكورية الجنوبية في التعليم ،و"الحرية والإنفتاح" في النموذج الفنلندي وكلاهما من أنجح التجارب فيالعالم يثبت لنا أولا.. أنه ما من طريق واحد للنجاح ، وثانيا.. أنه لابد عند وضع"الوصفة التعليمية الأفضل" لأي بلد معرفة خصائص مواطنيه النفسيةوالإجتماعية، وأن "النسخ الأعمى" للتجارب مع عدم ملاحظة الفروقالموضوعية قد لا يكون مجدياً.
وإذا كانت "الجدية وبذل الجهد" هي كلمةالسر في التجربة الكورية، فإن "المعلم" هو كلمة السر في التجربةالفنلندية، يقول (إندرياس شلايشر) مدير برنامج تقييم الطلبة الدولي بأن "نوعيةالتدريس هي القوة التي أوصلت فنلندا لتلك النتائج، فالولايات المتحدة تطبق نموذجامشابها لما يفعلونه في الصناعة حيث المعلم ليس سوى وسيلة لإيصال منتج جاهز، أما فيفنلندا فإن المعلمين هم المعيار"...
يحظى المعلمون في ذلك البلد برعاية خاصة وإحترام إجتماعيواضح ودخل مميز، فالمعلم يعمل 190 يوما خلال السنة ويشترط فيه أن يكون حائزا علىدرجة الماجستير وبينما يأتي المعلمون في الولايات المتحدة من ضمن الأربعين بالمائةالأوطأ في مستواهم الدراسي يأتي معلمو فنلندا ضمن فئة العشرة بالمائة الأعلى فيالمستوى الدراسي ، أي أن النخبة هي التي تمارس التعليم.
سُئلت رئيسة فنلندا، ما هي مصادر الثروة في بلادكم، فأجابتلدينا ثلاثة مصادر ... التعليم أولاً ، والتعليم ثانياً، والتعليم ثالثاً... كتب (تونيواغنر) البروفيسور في جامعة هارفارد، والذي درس التجربة الفنلندية في التعليم:" في مطلع السبعينيات كان لدى فنلندا نظام تعليمي ردئ بإنجازاته مع اقتصاد زراعي لا يقدم سوى منتجاواحدا وهو خشب الأشجار التي كانت تقطع بمعدلات غير قابلة للإستدامة، ولكنهم أدركواأن عليهم أن يعبروا نحو المستقبل القريب، وعرفوا بأن عليهم مراجعة نظامهم التعليميوتجديده لتأسيس إقتصاد معرفي فعلي... بدأوا في السبعينيات بتغيير كامل لعملياتتحضير واختيار معلمين ومعلمات المستقبل ، وكانت تلك خطوة أساسية هامة إلا أنهاأتاحت لهم ضمان مستوى إحترافي عال بين الأساتذة والمعلمين..."
بإختصار، إن هذه السطور تخبرنا بأن مشروع نهوض أمة بأكملهابدأ بعملية إسمها "الإرتقاء بالمعلم"..!!!
عندما تنتاول موضوع العلاقة بين التعليم والتنمية نجدالعديد من النماذج النظرية التي وضعت لتوضيح ذلك، لكن نظرة واحدة إلى تجارب الدولالتي حققت طفرات إقتصادية وحضارية في نفس الوقت كالدول التي أشرنا إليها (اليابانوكوريا الجنوبية وفنلندا) نجد أن عملية تطوير التعليم سارت فيها بخط متواز مععملية البناء الإقتصادي ويمكن القول أنها في النموذج الفنلندي تقدمت عليها بحيثبدت النجاحات الإقتصادية وكأنها ناتج عنها وثمرة لها، إذا في كل الحالات إما أنيكون هناك تزامن في العمليتين أو سبق لجهود تطوير التعليم، ولا نجد حالة واحدةحدثت فيها الطفرات الاقتصادية مع تأخير أو تأجيل لعملية تطوير التعليم.
هذا درس هام للغاية لنا في العراق، فإذا أردنا نهوضاإقتصاديا فلابد أن يأتي ذلك في حزمة واحدة مع النهوض التعليمي، ولذلك يبدو السؤال"أيهما يجب أن يحوز الأولوية ... التنمية البشرية أم التنمية الإقتصادية"،في غاية التبسيط والسذاجة فهما متداخلان تمام التداخل، وهو شبيه بالسؤال ... منأولاً ... البيضة أم الدجاجة، فعندما يتوفر المال لدى الدولة تستطيع أن تنفق علىالتعليم أكثر ، وعندما يحوز المواطن على فرصة عمل فإنه قد لا يغدو مضطرا لأن يجعلإبنه يعمل في سن مبكرة أو لا يرسله إلى المدرسة، ولكننا بالمقابل عندما نصنعإنسانا متعلما فإنك تصنع "أداة إنتاج إضافية" في المجتمع،وعندما تدرب مهندسا أو طبيبا أو حرفيا بمهارة ستقوم بتفعيل أداة الإنتاج هذه ،ولذلك فالأمور مترابطة ، ولا يمكن فصلها عن بعضها، وبقدر بساطة السؤال عن أولويةالتنمية البشرية أو الإقتصادية فإن التساؤل عما هو أولى ... الإنفاق على بناءالقاعدة الأساسية للتعليم وتوفير مستلزماته الضرورية من مدارس ومدرسين أم الإنفاقعلى تحسين نوعية التعليم يحمل نفس القدر من التبسيط. فلا يمكن المرور بهدفالإرتقاء النوعي مالم تتوفر الأساسيات ، ولكن كلا الهدفين مطلوب وضروري ، والتأكيدعلى نوعية التعليم في العراق يكتسب أهمية إضافية بعد أن أنحدرت هذه النوعية فيالعقود الأخيرة بشكل خطير أطاح إلى حد كبير بمزايا التعليم وفوائده وجعله شكلياومظهريا بلا مضمون، وقد وجدنا في تجارب الأمم المتقدمة كيف كان التركيز على نوعيةالتعليم يحظى بالعناية القصوى وكيف تتنافس الأمم في هذا المجال وتعقد المبارياتالدولية بين طلبة مختلف البلدان في المواد العلمية المختلفة، والمعادلة البسيطة فيتوضيح العلاقة بين الكم والكيف في التعليم تقوم على أساس حاصل ضربهما معا والنظرإلى الناتج الرياضي من عملية الضرب هذه.
عندما نولي وجوهنا شطر "التنمية المستدامة"نجد أن مصطلح الإستدامة يقتضي إبتداءا التركيز على الإنسان والإرتقاء بخصائصهالنوعية وخصوصا التعليم، فالتنمية الحقيقية تبدأ بالإنسان وتنتهي إليه ولا إستثمارأدوم وأنفع من الإستثمار في الإنسان الذي هو بالتأكيد أكثر أنواع الإستثماراتربحية وعائدا.
المعطيات الإحصائية المتعلقة بالتعليم في العراق تثير فيالنفس مشاعر الحزن والأسى والقلق العميق على المستقبل ، وسأكتفي هنا بطرح بعضالمؤشرات لا كلها لأن أوضاع التعليم في بلادنا ليست خافية على المواطن العراقي ومنالمؤسف أن الكثير من التقارير الغربية عندما تتحدث عن التعليم في العراق تستخدممصطلح "Collapse" أي الإنهيار ، والأرقام الإحصائية تدعم هذا الوصف إلى حدكبير ، فلدينا في متوسط التقديرات سبعة ملايين أمي، وتصل بعض التقديرات إلى الرقمثمانية ملايين من الرجال والنساء ، وعندما ندرس نسب التسرب من المدارس نجد أنحوالي الأربعين بالمائة من الطلبة لا يلتحقون بمدارسهم في سن السادسة من العمر،وتبدأ النسبة بالصعود مع كل سنة دراسية لاحقة، ويقدر عدد الذين لا يلتحقونبالمدارس الإبتدائية بحوالي 700 ألف طفل مع وجود مئات الألاف من الأطفال المتسربينكل عام، وذلك طبقا لتقرير اليونسيف عام 2011م.
الإنفاق على التعليم قياسا إلى الناتج المحلي الإجماليونصيب كل فرد مما ينفق على التعليم تقع في ضمن الدول الأقل إنفاقا في العالم، وحتىعلى مستوى الدول العربية الأخرى، وتنطوي الأرقام هنا على تضليل واضح فميزانيةوزارتي التربية والتعليم العالي توجه في شطرها الأعظم نحو دفع الرواتب ولا يبقىسوى جزء ضئيل لا يكاد يذكر للإستثمار في التعليم، والذي يشتمل على بناء المدارسوالوسائل التعليمية وغيرها، وما هو مخصص للجزء الأخير هو رقم ضئيل لا يتعدى كسرالواحد الصحيح من حجم تخصيصات الموازنة، وبينما تخصص الدول المتقدمة نسبا تتراوحبين (4% - 6%) من ناتجها المحلي الأجمالي للتعليم نجد أنه في العراق يقع هذا الرقمبين(1.5% - 2%) ، وتعود أموال الموازنة الإستثمارية المخصصة لبناء المدارس كل عامإلى الموازنة، ولا تستخدم بسبب الفشل الذي أبدته وزارة التربية والتعليم في تشييدمدارس جديدة، وذلك لعوامل بيروقراطية وإدارية مختلفة، والناظر لعدد المدارس التيتم بناؤها خلال الفترة منذ عام 2003 يجد أنها ضئيلة للغاية ولا تتجاوز الـــ 250مدرسة في عموم العراق بينما تقدر الحاجة بــ 6000 مدرسة، ومن المؤسف أن مشروعالموازنة العامة للدولة لعام 2012 وضع عملية تمويل بناء المدارس الجديدة ضمن خانةالدفع بالأجل التي قام مجلس النواب برفعها من مشروع الموازنة مما يعني إلغاء مشروعبناء المدارس والتي كان الأجدر بالحكومة وضعها ضمن المشاريع العاجلة وذات الأولويةوليس ضمن مشاريع التمويل بالأجل المهددة بالإلغاء من قبل النواب.
وبينما ينفق العراق ما يقارب ألـ 40 دولار على الفرد الواحدفي التعليم نجد أن المتوسط في البلدان العربية يفوق ذلك، ولا مجال للمقارنة مطلقامع دول الخليج التي يتجاوز هذا الرقم فيها ألــ 2000 دولار فيما يبلغ في الدولةالعبرية 2500 دولار.
هذه المؤشرات الخطيرة لا يمكن أن ينام عليها كل من يهتمبالمستقبل العراقي... فما من جناية ترتكب بحق أمة كجناية تجهيلها... ومن الواضح أنالحروب والحصار والإحتلال ... ثم الصراعات الداخلية قد اختزلت من فرصىة العراقيينفي التعلم والتطور، وتركت جروحا غائرة في الجسد العراقي، إننا نعلم أن الأولوياتتتزاحم في الواقع الوطني وأن الهموم قد تنسي بعضها بعضا وأن كثرة العلل والمصائبربما تصيب الأمم بغفلة عن مشاكل خطيرة تواجهها ، ولكن واقع التعليم في العراقينبيئ بخطر محدق ، ويحمل نذر السوء لمستقبل هذا الوطن...
لا فرصة حقيقية للنهوض في ظل تعليم متردي وعملية تربويةمتخلفة، والجهل هو البيئة الطبيعية والمحضن الدافئ للتطرف والتعصب ، وهو بلغةالإقتصاد الوصفة المضمونة للفقر والحرمان، وعلى الرغم من إدراك البعض في مجتمعناووعيهم بأهمية التعليم إلا أنه مع الأسف الشديد فإن للجهل والجهالة حلفاء عديدونيجدون فيها وفي الأمية ضمانة لنفوذهم السياسي والإجتماعي ، وهؤلاء لا يريدونللعراقي أن يتحرر من الخرافة، وأن يبقى أسير الوهم لعقود طويلة لأن ذلك هو الذييحافظ على المناخات والمعادلات الإجتماعية والسياسية القائمة.
إن أمة متعلمة متحضرة هي التي تدافع عن حقها في الحياة، وهيالتي تفكر في المستقبل، ولكن الأمم المبتلاة بالجهل والأمية لا تفعل ذلك، فهيتستلم وتسلم مصائرها لمن لا يؤتمن وهي التي تفرز طبقة سياسية من طرازها لا يمكن أنتحقق مشروعا نهضويا حقيقيا.
لقد تغيرت قواعد التنافس والصراعات بين الأمم المتحضرةوالمتقدمة، ولم تعد تقتصر على المدفع والصاروخ، ذلك لأن الأمم الحية اليوم صارتتحرص على معرفة أسرار العملية التعليمية الناجحة... ومفاتيح النجاح في الإدارةالحديثة... وتتباهى بتجاربها التعليمية... والإدارية... بقدر ما تفخر بعددالمخترعات والإبتكارات التي تحققت على أراضيها ... وعدد النوابغ والأذكياء فيمجتمعها ... ومليارات التجارة والصادرات... ومعدل الدخل الفردي لمواطنها... ومستوىإستخدام الإنترنت... وهكذا.
وقد لا نكون نحن اليوم في العراق ضمن هذه المداراتالمتقدمة... ولكن هذه التحديات تبقى قائمة بالنسبة لنا كدولة ومجتمع في العراق...إنها لم تعد خيارا لأننا لا نستطيع أن نعيش خارج عصرنا ... وزماننا، ولا أن ننفصلعن السياقات التي تلف الكون بأسره... وإذا ما تخلفنا عن الركب وصرنا بعيدين عنه...فإننا نحكم على وطننا وشعبنا بأوخم العواقب.
إذا كانت الولايات المتحدة ترى أنها بسبب التعليم أصبحت"أمة في خطر" ... فما الذي يمكن أن نقوله نحن عن أنفسنا...؟؟
ربما كان تعبير "أمة في غفلة" هو الأجدر بوصف حالنا...
https://telegram.me/buratha