حين نتحدث عن قيادة العراق فإننا لا نتحدث عن إدارة دولة اعتيادية بل نحن نتحدث عن واقع اجتماعي معقد ومركب من اجناس مختلفة عربا وكردا وفيهم الفيلية والإيزديين وتركمانا وفيهم التركمان والأتراك وقريب منهم الشبك وسنة وشيعة ومسيحيين ومسلمين، وفيهم من ظلم بشراسة هائلة كالشيعة والأكراد والتركمان، ومحافظات وسمتها الأنظمة الطاغوتية السابقة باوضاع خاصة بها جعلتها تعيش الكثير من العقد والأزمات مع الاخر، وشعب مرّ بمراحل بالغة القسوة مما ولّد فيه قدرة الشعب المقاتل، وهذه حسنة وسيئة معاً، وواقع سياسي تعبث به مصالح داخلية واجندات خارجية لا أبالغ لو قلت تقليداً لغوار الطوشة بأن حتى مخابرات بوركينا فاسو قد اصطفت لتجد لنفسها موقعاً وسط التداخلات الخارجية فيه.
ونحن نتحدث عن شعب تحركه العوامل الأخلاقية والمعنوية اكثر مما تحركه المصالح القصيرة، وإن بدا في الكثير من الأحيان أن المادة تحرك هذا او ذاك، أو أن القوة تجبر هذا او ذاك، ولكن الرفض يبقى كامناً للثاني والإشمئزاز والتخطئة تبقى لاصقة بالثاني وإن لم تقال له، فما نشاهده في الشعائرالحسينية في ظروف القسوة الأمنية لا يمكن إلا أن يبرز لدينا مثل هذه القيم التي تمثل الشعب العراقي، وإن كانت بعض الأحداث التي قد ينظر إليها البعض بانها ظروف اليوم والساعة او انها من ظروف الهزل والعبث لا الجد تعطي صورة شعب تحركه المادة لا القيم، فهذه الصورة مغلوطة تماماً، بل إن القيم المعنوية هي العنصر الأكبر تأثيراً بين كل العناصر الأخرى رغم جدية الظرف الاقتصادي والاجتماعي في مثل هذه الامور، ولكنها حينما تصطدم بالأولى تتقهقر لصالح الأولى.
كما نحن نتحدث عن موقع اقتصادي متميز بإزعاج جداً!!! وأقول بإزعاج لأنه يجذب كل أنماط الحرب عليه خصوصاً لو تم ملاحظته مع بقية الخصائص.
والأنكى منه إنه يكمن في موقع جغرافي مرعب في تميزه!! وأقول مرعب لأنه حوله إلى موقع جيوبوليتي يؤثر ليس في المنطقة فحسب بل إنه يؤثر وبكل ما للكلمة من معنى على أوضاع عالمية كبرى، فهو في وسط معادلات امنية وسياسية اقليمية ودولية هي الأهم من نوعها في العالم مما يغري كل الدول أن تنظر لما يجري فيه بكثير من الحساسية التي لا يضاهيه فيها إلا دول قليلة جداً، مما يعني حكماً وحتماً الرغبة المستمرة في التدخل الأجنبي والاقليمي في أوضاعه، ولهذا حينما تعاقبت الحكومات من بعد الولاية العثمانية ظل العراق مرتهناً دوماً لقوة اجنبية قاهرة تمنع عنه الآخرين مع ابقاء الامتيازات لديها، وحتى حين خرج العراق من العهد الملكي ودخل في العهد الجمهوري وبعيداً عن المزايدات السياسية ظل العراق بين يدي وارجل الأمريكيين والبريطانيين، فالبريطانيون هم من جاء بالانقلاب الجمهوري ليمسحوا به تراكمات العهد الملكي، وتغلب الأمريكان على الحكم القاسمي عبر قطار صالح السعدي والذي صرح بأن حزب البعث جاء بقطار امريكي عام 1963، وعاد البريطانيون ليقتنصوا حكم البعثيين عبر حركة عبد السلام عارف إلى أن عاد الأمريكيون ليقبضوا على الحكم عبر واجهة حزب البعث مرة أخرى وكانت مأساة 1968 وما خلاف ذلك هو تفاصيل في داخل اللعبة.
والحرب الدائرة اليوم في العراق بمعزل عن تفاصيلها تحكي كل هذه العقد والمشاكل ولم أذكر منها إلا القليل، ولهذا حينما نتحدث عن قائد علينا ان نضع كل هذه المشاكل في الحسبان، ومن ثم لنعرف حقيقة الشعارات التي ترفع وطبيعة الأهداف المتوخاة وسط هذه الأزمات.
وقبل أن ندخل في الاجابة على سؤال المقالة الرئيسي، لابد من توضيح حقيقة جوهرية في أنظمة الحكم ومضوعنا في العراق يجعلنا نقتصر على نمطين من الحكم، احدهما سقط بسقوط الصنم وهو النظام الديكتاتوري والآخر نريد ان نقيمه وفق متبنيات الدستور وهو النظام الديمقراطي، ومن غير شك إن لكل نظام خصائصه وآلياته والتزاماته ومزاياه ومضاره، وحينما اختار الشعب العراقي خيار النظام الديمقراطي من خلال تصويته على الدستور لا بد لنا من ان نركّز الحديث عن هذا النظام لنستطيع ان نحصل على جواب دقيق على سؤالنا الباحث عن إمكانية تحويل المالكي لقائد للعراق ام من عدمه؟
هناك آليتين تنظمان عملية القيادة في النظامين الديكتاتوري والديمقراطي، فالأول ينظم صعوده في تسلم القرار من خلال الاستفادة من التناقضات التي تصنع امامه أو يصنعها هو، للصعود من خلال الموجة العالية التي تنطلق في لحظات حاسمة من صراع هذه المتناقضات ليقفز منها لساحة جديدة ينظم فيها تراكمات قوة جديدة، ولهذا يتسم هذا النظام وسلوكيات أصحابه بالغدر والنفاق السياسي الواسع ونكث العهود والمواثيق، وسرعة التبدل في المواقف والتأرجح بين أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، والعدائية في الاستهداف، والاتهام في الدفاع، فيما يتسم النظام الديمقراطي بآليات مختلفة، إذ تعمد القيادات في هذا الاتجاه إلى فتح آفاق جديدة لها من خلال تنظيم قواعد السلوك في الساحة من خلال التحالفات وتمتينها وعدم تفعيل المتناقضات بل العمل على وضع الحلول التي تهدف إلى ترحيل المتناقض لفترة زمانية لاحقة او لايجاد حل لجوهر التناقض، فالتناقض لا يأتي من فراغ، وبالتالي فهو يحمل معه الحل بطريقة ما، وإن بدا متناقضا وعسيرا في أول انطلاقة المشكلة، وبالتالي فإن هذه القيادات عادة ما تمتاز بسعيها لتمتين العلاقات الوطنية بغية الوصول بها إلى ساحة اوسع مما كانت عليه، وهكذا تتقدم في بناء مشروعها القيادي لتنطلق من الذات إلى الوطني على عكس النظام الديكتاتوري والذي ينطلق من الذات باسم الوطني ليعود إلى الذات، ولا شك إن النظام الديكتاتوري يمتاز دائما بتحطيم الرقباء السياسيين بكل وسائل التحطيم وأقلها الحرمان والتهميش، بينما النظام الثاني يعمل على تقدم المشروع القيادي ليتقدم ويتقدم معه الآخرون.
وهنا لا أريد أن ارسم صورة وردية ولكنها الصورة الأقرب لواقعنا العراقي المعاصر وهنا تعالوا لنرى صورة المالكي من خلال حركة تحالفاته المنظورة، فغير المنظور يبقى في دائرة التخمين والتحليل الذي ربما يكون خاطئا أو ظالماً تماماً، فمن المعلوم إن المالكي إنما غدا رئيساً للوزراء بناء على عدم القبول برئاسة وزراء الدكتور الجعفري من قبل ما يقرب من نصف الائتلاف (بفارق صوت واحد) ورفض الشركاء الوطنيين (الأكراد والسنة)، وما كان للدكتور الجعفري ان يكون رئيساً للوزراء لولا جهد التيار الصدري وهو جهد كان المالكي احد بناته الرئيسيين، فالصدريون نالوا حصة اكبر من الدعوة في ائتلاف ال555 لأن المالكي تنازل لهم عن 3 مقاعد من حزبه ومقعدين من تنظيم العراق ليعطيهم 5 مقاعد اضافية، وكان الصدريون قد بروا بحزب الدعوة حينما أعطوه أصواتهم في تنصيب الجعفري ثم المالكي رئيساً للوزراء، وسرعان ما افترق الطرفان عن بعضهما نتيجة لظروف الأزمة مع الصدريين والتي كان احد أسبابها ان الصدريين تنازلوا عن ستة وزرائهم وطالبوه بان يأتي ب6 مستقلين ومن الكفاءات وتركوا أمر ذلك له، وهذه ظاهرة نادرة في زمننا هذا، ولكنه على الرغم من ذلك لم يبر بوعده لهم وجاء وزير الصحة والسياحة والنقل من طرفه مباشرة، مما ازم الوضع معهم، وتورط الصدريون في العنف المسلح وكان الحق مع المالكي في فرض القانون عليهم وكان الصدريون مع احساس بعض قياداتهم بخطا ما تصرفت به بعض مجاميعهم ولكنهم كانوا يشعرون بغصة في داخلهم نتيجة لن القانون يطبق عليهم ويستثني غيرهم، وبدأ الطلاق جدياً بينهما، وسط الكثير من الأزمات التي كان تمر ويتم القاء الفتنة فيها بين الصدريين والمجلس الأعلى من قبل فريق عمل بحرص على ايجاد فتنة دائمة بين المجلس الأعلى والصدريين، ولهذا كان المقربين من المالكي يحرصون على تقديم معلومات الى الطرفين كي يتم اذكاء الفتنة وتفعيل تناقضات سابقة بين الطرفين، وكان الغانم الأكبر هو المالكي وحزبه، فيما كان الطرف الخاسر هو الطرفين.
وقد كانت لمواقف المجلس الأعلى والأكراد والحزب الإسلامي وحتى أياد علاوي وكل بحسبه أعظم الاثر في انقاذ حكومة المالكي ومساندتها في ظروف عرفت بشدتها وبضعف المالكي لو تم التخلي عنه، ولكن رغم جراحات الجميع وقفوا لصالح المالكي، وكان معركة المالكي مع هذه الأطراف بالتتابع بطريقة تم فيه خسرانه لجميع التحالفات رغم شعور مبالغ لديه بانه قد كسب المعارك كلها وتحول إلى البطل المنقذ، ولكنه ما درى ولربما بوعي منه بأنه قد غير نظام اللعبة ولكنه بهذا سجّل على نفسه أخطاء قاتلة، فهو كمن كان يلعب كرة القدم، حتى اذا ما حاصرته الظروف أو واتته الظروف انقلب إلى كرة اليد فغدا تحريم مسك الكرة باليد في كرة القدم مباحاً لأنه تصوّر إن اللعبة قد انقلبت لكرة اليد، ولهذا استباح القانون والتحالفات بشكل مأساوي خلال الفترة بين الحملة الانتخابية للمحافظات إلى يومنا هذا، أمام خصوم افزعهم اداءه الذي اظهر نمطاً من الاستفراد الطاغي، وهكذا ضيّع الإئتلاف بعد ان حسب أن عمله على اختصار انجازات الائتلاف لنفسه وتحميل المجلس الأعلى كل أخطاء الحكومة وتعثرها بحيث حتى أن وزاراته المؤيدة له وضعت اوزارها وبتزوير كبير على المجلس الأعلى فكسب الانتخابات المحلية وقد تصور ان ذلك سيؤدي إلى مكاسب استراتيجية نتيجة لما حسبه بالتفوق الخاص به!! وسط ضخ أعلامي متعمد بانه هو الأقوى وهو الأعلى وهو الكبر وبقية أفعال التفضيل المناسبة، ولم يكن يعلم إنه فرّط بأهم حلفائه، بشكل جعله خلياً من أي إسناد، ولعل من حسن حظه ان الانتخابات غدت قريبة فزهدت جميع الاطراف بالتفكير بعزله عن مكانه وهو امر متوفر في البرلمان لو أرادت هذه القوى تنفيذه لنفذته بسرعة!
وجاءت احداث مصرف الزوية والمؤتمر العام لحزب الدعوة والأربعاء الأسود لتنفض الكثير من الغبار عن تراكمات سياسية هائلة، وما كان تصريح البولاني بأنه حينما صرح في الجلسة الاستثنائية للبرلمان بأنه كان مدفوعا من قبل رئيس الوزراء لتسييس قضية الزوية مغافلاً للقوى السياسية، بل على العكس كان كاشفاً لحقيقة مرة كان الجميع يعلم بها ويتالم من طبيعة السلوك الاستعدائي الذي تم التعامل به مع هذه القضية، بدليل إن القوى السياسية مجتمعة لم ترضخ لعملية التسييس وإنما أدانته من خلال اصطفافها مع نزاهة الدكتور عال عبد المهدي ما خلا حزب الفضيلة المعروف بتوجهاته الارتزاقية الفوضوية، وانعكس ذلك بشكل سريع فجاء مؤتمر حزب الدعوة ليجد إن أي حزب سياسي غير المجلس الأعلى لم يلب دعوة الحزب وحضور الرئيس الطالباني وممثل البارزاني كان حضوراً رسمياً وليس مرتبطاً باحزابهما، وجاءت جريمة الأربعاء الأسود ليجد المالكي انه يتحمل المسؤولية كاملة فما من أحد انبرى للدفاع عنه، فاختبات تصريحاته البطولية منذ يوم التفجيرات إلى ان كشفت تصريحات هوشيار زيباري وهو عضو اللجنة الأمنية الوزارية للناس عن الحقيقة المرة: لا خطة امنية حقيقية، وكانت تصريحات وزيري الدفاع والداخلية في البرلمان ومن خلال ما خرج من خلف كواليس الجلسة السرية له أنها كانت تصريحات لخداع ممثلي الشعب والذين لم ينخدعوا فعلا!! لأنها كانت مفضوحة.
والان وقد أصبحنا على مشارف اعلان الائتلاف، يؤلمني جداً ان أرى أن المالكي لم يشاهد الموقف الحقيقي بعد، فراح يشترط من موقع الخاسر وهو يتصور بأنه الرابح، وطالب بحصة الغنيمة تحت واقع ما تصوره ضغطاً، ولا احتاج لمن يكشف بأنه لم يك يتصور أن القوى السياسية التي ائتلفت في الائتلاف ستجتمع من دونه وحزبه، وان اصرارهم على الاجتماع ثم الاعلان عنه بدونه سيوف يخلف الكثير من الروح التمردية لديه، وإن كان واقع الحال الحقيقي يفترض به أن يجلس جلسة المتعظ بين يدي الاحداث، فلم يك أحداً اكثر ديكتاورية من المجرم صدام، وقد انقلب ديكتاتوريته سما زعافاً عليه، صحيح ان الصحافة الأمريكية كانت تصور المالكي بأنه الديكتاتور العادل، مما يجعلها تثري مشاعر الرضا لدى المالكي، ولكن كن واثقاً يا أبا اسراء إن لعبة القفز على التناقضات والاستفراد قد تعطي شعور الرضى ولكنه لا تحفظ حكماً، وهي قد تكون سياسة ولكنها ليست سياسة الدستور العراقي، فحكم الدستور اطلق صفارته من زمان بأنك خالفت قواعد اللعبة.
انا اعرف أن كلامي سيسبب ازعاجاً لمناصري الأخ المالكي وانا كنت أحدهم، ولكن يا أخي يا أبا إسراء كفاك من تزويقات مجموعة الدشاديش وكفاك من تنميقات من لا يشير عليك بحكمة فالذي يرضيك ليس بالضرورة تاصحاً، ولكن في الكثير من ألم المرض فيه شفاء لأنه هو المنبّه الحقيقي لوجود المرض بعد الغفلة عنه أقولها لك وبكل صراحة وبكل اخلاص: أنت تلعب لعبة الديكتاتورية في زمن فيه دستور ديمقراطي ولكن باسم دولة القانون؟!
محسن علي الجابري
النجف الأشرف ـ ثلمة العمارة
https://telegram.me/buratha