الكثير من التعليقات التي تصلنا وكثير من الأقاويل في الساحة السياسية تتنادى إلى ضرورة دخول احزابنا متفرقين بهدف معرفة كل حزب بحجمه، وبقدر ما يبدو البعض بريئاً في طرحه لمثل هذه الأفكار فإن البعض لا يخفي خبثاً دفيناً في طرح نفس هذه الأفكار.
وفي مقابله ثمة طرح يتم تداوله ببراءة حيناً وسذاجة ثانية وبخبث دفين ودقيق حيناً آخر، وهو ان تدخل الأحزاب عبر ائتلافين حتى إذا ما تنكر المرء لائتلاف، يمكن أن يصوّت للإئتلاف الآخر.
وفي مقابل هذا النمط من التفكير ثمة توجه عريض وهو الأغلب في الشارع إلى ضرورة أن يتوحد الجميع ويدخلوا في إئتلاف واحد، لأن الائتلاف الواحد لا يفرق الناس بل يوحدهم، ولا تلمس ما يمكن ان يدخل عدو هذه الأحزاب في مثل هذا التفكير، لأن العداء لهذه الأحزاب تحت أي مسمى كان وتحت أي مبرر (وهو في الغالب يدخل من اليافطة البعثية وأعداء العملية السياسية والمتضررين من وجود هذه الأحزاب كالخط الأمريكي وأمثاله)[1] كان لا يتيح للمعادين نفوذا في ساحة هذه الأحزاب.
ترى أين يجدر بالمرء أن يقف لو حكّم المصالح العليا وتحرر من النوازع الفردية، وهذه النوازع لا يحكم عليها بالضرورة بأنها باطلة او انها مدانة، فقد تكون هذه النوازع تنطلق من مظلومية كبيرة، ولكن حين تحتدم المصالح لا بد لنا من معايير سليمة نقيس بها حركة الأولويات، أي لا بد للمرء أن تكون لديه رؤية ثاقبة لما يعتبره أولوية كبرى في قبال أولويات تتنازع في ذهنه.
ولاشك أن التفكير الأول أي معرفة الحجوم الخاصة بالأحزاب من خلال دخولها المنفرد ينطوي على أقل التقادير على أن أصحاب هذا التفكير يعانون من مشكلة كبيرة في التقدير لهذه الأولويات، مع التسالم افتراضا على براءة أصحابه، فهل المعركة في العراق تتمثل في أن نعرف لكل حزب حجمه؟ ومع معرفتنا لهذا الحجم سنحل مشاكلنا الرئيسية؟ لا أعتقد أن أحداً يعتبر ذلك أولوية كبيرة حتى، فإذا عرفنا ما هو الحجم مالذي سيحصل؟ وماذا سنحصل عندئذ؟ وما هي النتيجة العملية التي تترتب على معرفة الحجوم، فلو قلنا إن حزب الدعوة حصل على الأكثر او المجلس الأعلى أو التيار الصدري، هل ستجد إن المجلس النيابي القادم سيهتم لمثل هذه النتائج او انها ستكون مؤثرة لو قرأنا الصورة الحقيقية للمشهد السياسي؟ لا شك إن هذا الأمر لن يكون ذا مغزى اساسي في صورة المشهد السياسي، فالبرلمان سيهتم لحجم التأثير لا لحجم الأسماء، والدستور اعتنى أساساً بنسب التأثير لا بحجم الأسماء، نعم يمكن من خلال الصفحة اللاحقة للتأثير الأبرز في البرلمان أن نجد أعداد البرلمانيين مؤثرة في لعبة وضع هذا القانون أو ذاك، ولكن ما من ريب إن هذا الأمر ليس هو الأساسي في المعركة النيابية القادمة.
فالمعركة النيابية تجري في صورتها الأبرز خلف المادة الدستورية التي تتحدث عن الكتلة الأكبر التي تشكّل الحكومة، فبقارق صوت واحد يمكن أن تتخلف قائمة كبيرة عن مهمة الإمساك بعجلة تشكيل الحكومة، عندئذ ستخضع لكل استحقاقات هذا الأمر، إذن فالأصل ليس هو حجم ما تدخل به، وإنما هو حسم ما تدخل به للبرلمان، ولهذا فإن مهمة هذه الأحزاب أن لا تدخل منفردة مهما كان السبب، لأن أي واحدة مهما أوتيت من قدرة على حسم شان صناديق الاقتراع (نزاهة او غيرها) ستبقى متخلفة عن نيل الاستحقاق المتعلق بتشكيل الحكومة، وهو أمر له أهميته القصوى، خصوصاً لو تراءى لنا من هو الطرف الند لذلك؟
فالساحة ستتنازعها تيارات أساسية سيجري التحشيد لها، وهي غير الائتلاف العراقي الحالي وأحزابه، التحالف الكردستاني وحلفائه، وقائمة أياد علاوي وتحالفاتها، وقائمة البعثيين وحلفائهم الطائفيين وغيرهم كأسامة النجيفي وصالح المطلك وخلف العليان وأضرابهم بالاضافة إلى مجاميع جبهة التوافق، فأين ستثمر لعبة الأحجام يا سادتنا الكرام؟
ومن الصحيح جداً إن الائتلاف واحزابه لم تعط المثل الذي كان يتمناه نفس المخلصين من قادته، وصحيح أيضا أن بعضهم تورط في أمور هي في الأقل لا تعكس حمله للامانة التي توخيناها منه حينما خضنا معركة الانتخابات وسط امواج الموت، ولكن ما هو الصحيح في المقابل الذي سيأتي لو جاءت الأنداد بقضها وقضيضها؟ وما هو الذي سيحصل لو تنظم الجمع في تحالف ترعاه السعودية او أمريكا؟
ونحن نعتقد إن الائتلاف من كل هذه الأحزاب المنشغلة بالتشكل الجديد تحت اسم (الائتلاف الوطني العراقي) مسؤول في أن يقدم صورة جديدة شكلا ومضموناً تعيد لنا الأمل بأن ما نترقبه بدأ يتحقق، رغم معرفتنا سلفا بأن المرور بعربة العملية السياسية وسط محاولات الاجهاض المستمرة من قبل تحالف البدو العرب وأصحاب النجوم السداسية فضلا عن العم سام المعروف بطراوة يده وخبث فعله لن يكون سهلاً، حتى يمكن لنا ان نترقب في احزابه ما يمكن أن يؤمن لنا التوحد بعد أن أفرزت تجربة السنوات الأربعة الكثير من المرارات، ولكن حرصنا على أن لا نقع في الأمرّ مما مرّ هو الذي يجعلنا نصر على عملية تغيير جادة على كل الصعد، خصوصاً إننا رأينا خلال الفترة المنصرمة ورات هذه الأحزاب فيما بينها ولعلها اكثر منا لأنها في ساحة المشهد الحقيقي بكواليسه وخباياه من الذي استفرد؟ ومن الذي أساء؟ ومن الذي خان؟ ومن الذي ظل امينا؟ ومن الذي وفى؟ ومن؟ ومن؟ ومن؟.
وبالنسبة للتفكير الثاني فإني أعتقد إن التجربة السياسية لو كانت مستقرة فإن هذا النمط من التفكير سيكون لو الأولوية في أن يكون محبّذا، أي تنقسم الساحة إلى ائتلافين أو اكثر حتى وتتنافس فيما بينها على آراء الناس، وهي الصورة الطبيعية للعملية الديمقراطية، ولكن هل يا ترى يمكن أن نقول بأن الساحة السياسية استقرت بالفعل لنتعامل مع الأمور ببراءة؟
مما لا ريب فيه إن احداً لا يمكن له أن يتحدث عن هذا الاستقرار بل الصورة المعاكسة هي الأقرب للواقع، ولهذا كيف سيكون الاطمئنان بالحصول على موقع الكتلة الأكبر برلمانيا؟ لقد أظهرت صورة الانتخابات المحلية تداعيات هذا المشهد في مناطقنا إذ وجدنا تيارات ثلاثة تنافست هي ائتلاف دولة القانون وشهيد المحراب والتيار الصدري بالاضافة إلى بعض الأحزاب كتيار الاصلاح الوطني، ولكن هذه التيارات رغم ما تحدثت به عن تحالفات سرعان ما رأيناها اختلفت مع نفسها فضلا عن غيرها، واكثر من اختلفوا هم ائتلاف دولة القانون، ثم عادت نفس أحزاب ائتلاف دولة القانون ان انشقت وهاهي صورة الانشقاق في حزب الدعوة ـ تنظيم العراق وهو الأكثر جماهيرية من كل صور حزب الدعوة[2] تعطينا دلالة إنه ما من ضمان للمجازفة بتشكل من بعد الانتخابات؟ صحيح انني قد أوالي هذا الطرف ولا أوالي ذاك، وجاري يوالي من لا أواليه، وبالنتيجة يمكن للائتلافين ان ياتوا بكل الأصوات، كما حصل في مجالس المحافظات، إلا إن من الواضح إن انتخابات المحافظات تختلف في استحقاقاتها عن انتخابات البرلمان، فتلك مهما حصل فيها سيبقى محدوداً في محافظة لديها صلاحيات مهما تكون محدودة تشريعيا وماليا، بينما استحقاقات البرلمان تختلف بالمرة عن ذلك، وفي تلك خيارات التهميش إن جاءت كما حصل بالفعل نراها تكون للأحزاب وليس للمواطنين، بينما في معركة البرلمان فإن الخيارات ستعم الجميع، ولهذا فإن المثل العراقي يصلح في الأولى (مركنه على زياكنه) ولكن حينما يكون الند المقابل يحمل معه خيارت التهميش والاقصاء والالغاء بل والاستئصال في الثانية، فإن العقل يحتم ان اكون انا وابن عمي حتى لو كنا مختلفين على الغريب إن لم أقل العدو!!
ولنا من بعد هذا الحديث حديث آخر.
محسن علي الجابري
النجف الأشرف ـ ثلمة العمارة
https://telegram.me/buratha