كنت اتابع يوم امس قناة الحرة وأحاول أن أرصد منهجها في الترويج للمشروع الأمريكي في الانتخابات، وكانت الفقرة المختارة هي برنامج بالعراقي والموضوع المطروح هو مناقشة قانون البنى التحتية والمتحاورين هم النواب سامي العسكري وليلى الخفاجي وحسن الشمري مهدي الحافظ وما ان بدأ حديثه حتى فتح سامي العسكري نيرانه على المجلس الأعلى تحديداً ثم من معه من قوى سياسية رفضت القانون واتهمه بانه يريد اسقاط حكومة المالكي! من خلال اسقاط هذا القانون، وبالرغم من إن المتحدثين الآخرين كان حديثهم فنياً واقتصاديا بحتاً إلا إن النائب سامي العسكري ظل يدق على نفس الوتر مهدداً في الأخير بأنهم (ولم يوضح من؟ بالرغم من إنه كان يتكلم عن ائتلاف الاستاذ المالكي) يعدون الأوراق والوثائق لفضح محاولات المجلس ومن معه لاسقاط حكومة المالكي!! مع سوق مجموعة لا تحصى من الأقاويل التي تفتقر إلى الدقة على أقل التقادير إن لم أقل بأنها كانت كذباً صريحاً كما سأبين لاحقاً.
وقد استوقفتني شخصية سامي العسكري وبدأت أستعرض جانباً مما أعرفه في تأريخه فرأيته هو الأكثر تشنيجاً للأجواء بين المجلس الأعلى وحزب الدعوة منذ الأيام الاولى لسقوط ففي بداية الأمر عمل وبشكل مكثف من أجل ايجاد فاصلة بين الجهتين من أيام الجعفري محامياً عن التيار الصدري وطاعناً في المجلس لأنه هو السبب في توتير أوضاع الحكومة مع التيار!! وبعد ان استقرت الأمور مع المالكي ظل الرجل يمارس عملية الطعن وبشكل مباشر بالمجلس خاصة في الفترة التي كانت حكومة المالكي تقدمه بعنوانه مستشاراً للمالكي وبالرغم من النفي الذي صدر ظل العسكري يقدم نفسه بهذا العنوان ويُقدم ايضاً بهذا العنوان، وقد اخذ يهاجم المجلس بمناسبة وبغيرها مستغلا اخلاقية قادة المجلس الذين عرف عنهم بأنهم يترفعون عن مثل ذلك، ولم يهدا لفترة إلا حينما أصدر المجلس بياناً صريحاً عرى فيها بعض ما نسبه سامي العسكري وباسم حزب الدعوة فالتزم فترة بالسكوت ولكن عاد هذه الأيام لتمرير نفس النغمة وتكرارها.
ولهذا انطلقت لدي جملة من التساؤلات: ترى مالذي يجعله بهذا الموقف؟ وما الذي يريده بالضبط؟
فالساحة متجهة كلها باتجاه التوحد فلماذا سامي العسكري يتجه باتجاه التوتير والتفرقة؟
هل ثمة عقدة في هذا المجال؟ صحيح إن المجلس الأعلى تصدى اكثر من مرة لمنعه من تولي منصب وزير النقل وغيره من المناصب التنفيذية التي أرادها له المالكي، ولكن هل ثمة ما يبرر الهجوم المتكرر ودفعه الأمور باتجاه تعكير الأجواء في وقت لا توجد ادنى شكوك في إن المؤامرة السعودية الأمريكية تتجه باتجاه تفرقة صف الائتلاف! فهل يا ترى دخل العسكري في سلك هذه المؤامرة؟ أم أنها سذاجة منه؟ أم إنه البحث عن المنصب اللعين وثاراته؟ أم إنه محاولة التعبير عن القلق من الموقع المستقبلي؟
لا احتاج إلى تذكير سامي العسكري بأن هراء سعي المجلس الأعلى لإسقاط المالكي لا يصدق به حتى اطفال السياسة فما بالك بمن هم في كواليسها؟ فالمجلس قادر ومنذ مدة على ان يسقط المالكي لو أراد، ولقد رأينا موقفه السابق في الموازنة ومن بعده موقفه من رئاسة مجلس النواب واستعادة مجلس النواب لدوره الرقابي، وهو الموقف الذي أعرب بشكل واضح عن قدرتهم على دفع الأمور لأكثر من ذلك لو كانوا في صدد الاسقاط، ولكننا لم نر منه هذا الموقف أبداً بل رأينا العكس رأينا موقف الحماية خصوصا في المواضع الشائكة والأوقات الصعبة التي تخلى فيها حتى أصدقاء المالكي من الحزب عنه كان المجلس الأعلى هو الحامي والمنافح والمدافع، ليس لأن المالكي أعجوبة الزمان في الحكم، فما سجّل عليه من امور اكبر بكثير مما سجّل على الجعفري وللأسف الشديد، ولكن أحسب ان سياسة المجلس الأعلى المحافظة هي التي دأبت ان تلتزم بحدودها، نعم المجلس الأعلى ينتقد ويسدد ويلاحظ شانه شأن أية قوة سياسية معنية بمسار الامور وقد يخطا في نقده وقد يصيب ولكن شتان بين الانتقاد والاسقاط!
ثم أين عملية الاسقاط من تصدي المجلس الأعلى لقانون ما والمجلس الأعلى لم يخف وقوفه ضد القانون؟ فلقد استمعنا ومعنا كل من تابع جلسات مجلس النواب يومها إلى المداخلة المثيرة التي ألقاها الشيخ الصغير حول القانون والتي قلبت النقاشات من بعدها بالاتجاه المعاكس للقانون لكثرة ما أرعبهم الشيخ الصغير من محتوى القانون وسأشير بعد ذلك إليها، وأيضا الشيخ الصغير أعلن يوم الجمعة الماضية في صلاة الجمعة بانه هو الذي أوقف القانون وأسقطه، فلقد كان صريحاً كما عهدناه ومن يريد التفكير بالتسقيط لا يتعكز على قانون اليس كذلك يا أخينا العسكري؟
انصافا التزمت الخفاجي ومعها حسن الشمري والحافظ بطريقة حوار فنية وقانونية يمدحون عليها وقد أوضحوا فيها جوانب كثيرة من مآسي هكذا قوانين، وبالرغم من تاكيدهم إن الرفض لا ينطوي على سياسة، مع مخالفة طفيفة من الحافظ الذي اكد وجود الجانب السياسي في اسقاط القانون، وأنا اعتقد إن الجانب السياسي موجود حتما، ولكن لا على الطريقة التي حاول العسكري ان يتهرب من الحديث الفني والمالي إلى حديث حكاية السعلاة وأم السعف التي تعنون اليوم بالمؤامرة لاسقاط المالكي!فلاشك إن للمجلس الأعلى سياسته المالية والاقتصادية وإذا كان هو بطل اطفاء ديون العراق عبر جهد الدكتور عادل عبد المهدي في حكومة اياد علاوي مع نادي باريس وهو الذي أسس للتفاصيل اللاحقة التي انتهت إلى اطفاء هذه الديون، فلماذا لا يعارض قانوناً فيه كل هذا الحجم من الديون؟
وحتى لا نبقي الموضوع بعيدا عن كل تفاصيله أشير إلى ما فهمته من متابعتي للنقاشات التي جرت، وأبتدا بما أشار إليه الشيخ الصغير في مداخلته الأولى، فلقد قال إن القانون يتحدث عن سبعين مليار دولارا تدفع بالدين الآجل، خلا خمسة سنوات من تمام المشروع مما يرتب على العراق ابتداءا من سنة 2013 او 2014 دفع هذه الديون بمقدار 14 مليار دولارا في كل سنة فّاذا اضفنا إليها الفوائد والشروط الجزائية وما يرتبط بهما وما ندفعه من تعويضا للكويت وما ندفعه من ديون أخرى لا سيما وأن الكويت والسعودية لوحدهما تريد مبالغ ديون قد تصل إلى خمسين مليار دولار وما يمكن ان تفتح علينا من بوابات التعويض على جرائم صدام ووحدها امريكا تتحدث عن تعويضات قد تقترب من تريليون (ألف مليار) دولار فإن الرقم المرصود سنوياً يجب أن يكون ما لا يقل عن 17 مليار دولار فماذا يبقى للخزينة ان تمول من مشاريع ورواتب وما إلى ذلك، وما سيبقى لتنفقوه على الناس؟
وهذه الأرقام المرعبة التي تحدث عنها الشيخ الصغير أكد من بعدها لقد قدمنا اكثر من مرة مبلغ سبعين مليار دولار للوزارات ولكنها لم تنتج شيئا مما تقولون بانكم تريدون ان تبنوه فمنذ سنة 2004 ونحن ندفع لوزارة الاعمار لكي تبني المجمعات السكنية وهي لحد الان لم تتم إلا مجمعا واحدا من بين العشرات التي أخذت اموالها وأحالتها إلى المقاولين ووزارة الصحة التي دفعت إليها أموالا طائلة لكي تبني المستشفيات لم تتمكن لحد الان من بناء مستشفى واحد، فهل تريدون ان نطمئن من إن المبالغ التي ستأخذونها والتي ستتحكم بها الوزارات مرة أخرى سنجد فيها ما يمكن أن يشجعنا للموافقة على انفاق هذه المبالغ؟
ثم أشار إلى قضية جوهرية تتعلق بكيفية تأمين المبالغ لهذه الديون، فقال بصراحة لا نثق بالارقام التي تقدمها إلينا الحكومة، فلقد اظهرت جولة التراخيص عن مشكلة كبيرة في ثقتنا بما تقدمه لنا وزارة النفط من أرقام، فلقد تحدثت عن أنها تخمن أن تكون حقل الرميلة قادرة على ضخ ما يقرب من مليون وسبعمائة وخمسين برميلا في وقت كانت شركة بريتش بتروليوم تتحدث عن مليونين وثمانمائة وخمسين برميلاً، فإذا كانت الوزارة غير قادرة على تشخيص ما يوجد لديها كيف يمكن لنا أن نطمئن بانها ستعطينا أرقاماً دقيقة؟ انتم تريدون استثماراً والأوضاع التي تنفذونها تفتقر إلى هذه الرغبة، وإلا كيف تم رفض ما تقدمت به شركة اكسون بالرغم من سعرها العالي، فهي قدمت 4 دولارات والوزارة رفضتها ولانها في نفس الوقت لم تكن تعلم بأن حرمان العراق من الاستثمار النفطي من عرض أكسون لوحدها يبلغ خسارته عشرة ملايين دولار يوميا، وهذا امر لا ينظر إليه الوزير.
ثم من الذي يطمئننا بأن الأمور ستاخذ جانب خدمة المواطن، فالحكومة افتتحت قبل أيام المبنى الجديد لوزارة البلديات، والتوجه العام في مجلس النواب هو باتجاه حل الوزارة وتوزيع دوائرها على المحافظات، وهنا لا أريد أن اتعجل القول لكي اتحدث عن مخاوفنا بشان نزاهة التوزيع وشفافية ذلك!!
ما لم يذكره الشيخ الصغير ولعل الوقت لم يسعفه هو ما سمعته من بعض النواب، إذا كان مجلس النواب يتحرج ف اعطاء رئيس الوزراء المنتخب من قبله الموازنة السنوية ومبلغها أقل من سبعين مليار دولارا وإنما يسلمها إلى الحكومة بموجب قانون يحدد فيه آليات الصرف، إذن كيف يمكن للحكومة ان تطلب تسيم هذا المبلغ الكبير إلى موظف لم يعين بشكل رسمي بعد؟! فهو معين بالوكالة ولم يعرض على مجلس النواب لحد الان حتى يكون تعيينه رسميا؟
وما لم يذكره الشيخ الصغير هو إن القانون إن كان المراد به الاستثمار فما علاقة الاستثمار بالديون؟ فالاستثمار يجلب الأموال للعراق وللمستثمر آلياته القانونية في استحصال امواله بعيدا عن الخزانة العراقية، بينما القانون يريد الاقتراض بالدفع الآجل، مما يثير تساؤلا أعتقد بصحته ولكن الكلام المتخصص يبقى للقانونيين: فما أعرفه إن الديون هي من اختصاص وزارة المالية والبنك المركزي، فكيف تعرض الحكومة الأمر من خلال هيئة الاستثمار؟
انا اعتقد ان مثل هذه الامور حتى لو كانت تخفي وراءها جانباً سياسياً ولكنها تبقى محقة، فأي نائب يتقي القسم الذي أقسمه أمام الشعب يمكن له ان يتقدم وسط هذه الأجواء ليوافق على مثل هذا القانون؟!
ويبدو لي واضحاً إن معارضة المجلس تخفي وراءها قصة إن القانون إما لم يعرض على قيادات الائتلاف، بحيث نرى معارضة المجلس له، وهذا خرق واضح لقواعد العمل فيما بينهم لأن مبلغ سبعين مليار دولارا ليس بالرقم السهل الذي يمكن أن يمرر هكذا؟ وإما مرر بدون موافقة المجلس الأعلى، ولهذا لا أصدق ما قاله العسكري بأن وزير المالية قد وافق على القانون أثناء عرضه على مجلس الوزراء، ولعل هذا هو الذي جعل تقديم القانون من قبل اللجنة الاقتصادية التي يرأسها حيدر العبادي يخلو من قائمة التواقيع الوزارية، لأن هكذا قوانين عادة يجب ان تحظى بموافقة وزير المالية والتخطيط على الأقل.
وبعيداً عن القانون وظروفه أريد أن أرجع لسامي العسكري في حديثه بأنهم (ولم يقل من!!) يعدون لكشف الأوراق في وقت الانتخابات؟ فهل هذا الكلام تاكيد لكلامنا السابق بأن حزب الدعوة لا يزال لا يريد الدخول بائتلاف مع بقية القوى ويريد الانفراد بنفسه؟ أم إنه يغرد خارج السرب؟
حزب الدعوة في تاكيداته الأخيرة يؤكد إنه يريد الدخول بالائتلاف، وقواعده تتحدث خلاف ذلك؟ فمن نصدق؟ العسكري أم حزب الدعوة؟
محسن علي الجابري
النجف الأشرف ـ ثلمة العمارة
https://telegram.me/buratha