وأنا أرقب الفرات وهي تنقل أحاديث قادة المجلس الأعلى الإسلامي العراقي أثناء زيارتهم لسماحة حجة الإسلام والمسلمين السيد عبد العزيز الحكيم (البسه الله لباس العافية) بعد خروجه من المستشفى هزتني كلمة لسماحة الشيخ الصغير حينما قال وهو يتحدث عن إصرار سماحة السيد الحكيم على الرجوع إلى العراق في أقرب فرصة وضغطه على أطبائه لهذا الغرض: كان بإمكانه أن يرتاح ريثما يتماثل بالشفاء ولكنه ابى إلا ان يلتحق بمسيرة الصُبّر من هذا الشعب المظلوم، وأبى إلا ان يكون وفياً لعهده معهم رغم قسوة المرض وثقل الدواء.
لم أمتلك نفسي وأنا اسمع هذه الكلمات حتى انسابت دموعي وأنا أرقب هذا الرجل الذي ناهز على الستين.. وبدأت اتساءل: لماذا لا يرتاح هذا الرجل؟
ولماذا يختار مسيرة الآلام والصعاب؟
من أجل ماذا؟
مئات الحجج الشرعية وغيرها بإمكانه ان يتلفع بها لكي يمضي أياماً اكثر في النقاهة، لا يمتلك عوزاً في أن يعيش حياة مترفة للغاية بعيداً عن متاعب السياسة وآلام السياسيين، ولكنه ترك الترف والراحة وأصر للجلوس بين يدي محنة هذا الشعب المظلوم لعله لا يفوّت شيئاً يمكنه ان يقدّمه لهم.
مالذي يدعوه لكي يعود بهذه السرعة؟
المناصب تأتيه فيوزعها ويتعفف من تولي اي شيء منها.
الخيارات السهلة كلها راكعة بين يديه فيصر إلا إنتخاب الخيارات الصعبة ويكون وفياً للالتزام بها!!
بامراض اقل وطأة وجدنا الكثير من الذين سموا أنفسهم قادة يعطون لآنفسهم الاجازات الطويلة لكي يمتوا عهد النقاهة، وهو بأثقل الأمراض يطلق النقاهة سعيا وراء مهمة العذاب.
والادهى أنه لم ينتخب الطريق السهلة... كان بإمكانه أن يتخذ طريق التطرف إلى اليمين واليسار وهي من اسهل الأعمال السياسية ولا يحتاج المتطرف إلى كثير عناء لاتقان لعبة التطرف واللامسؤولية، ولكنه اصر على أن يخوض في الطريق الوسطى ويتحمل كل ضغوط اليمين واليسار وضغوط المحلي والاقليمي والدولي وهي من أصعب الطرق السياسية، وما سمح لنفسه ان تنحدر وسط استحقاقات كبرى لمغامرات المتطرفين غير المحسوبة ومن ثم ليضع شعبه امام مستقبل مجهول.
قيل عنه الكثير ودبجت مقالات الافتراء عليه بما لم تدبج على أحد غيره، واشتركت فيها جميع التيارات اليمينية واليسارية والصديقة والعدوة، ولكنه لم يستسلم فالأمانة باهضة جداً!!
وتعرض لمهاول الارهاب الذي لم يكتف بالتهديد والوعيد وإنما لاحقته محاولات الاغتيال الكبرى في عدة مرات وكان أبرزها ما نعرفه في محاولة تفجير مقره في الجادرية، ولكنه لم يذعن فالمسيرة تستحق!!.
وتناوشته ضغوطاً هائلة من العمل وسط نسيج متشابك ومتناقض الاهواء والمصالح والتي تتحرك في أجواء فيها الكثير من فقدان الثقة وسوء الظن، وأبى أن يسستسلم لكل ذلك فقلد كانت عيناه تراقب تارة مسيرة الآلام المقدسة لهذا الشعب، وتارة تراقب المرجعية في استشرافاتها للمستقبل وطبيعة ما تريده لهذا الشعب، وكان هدفه إن قالت المرجعية قلنا وإن سكتت سكتنا وما نحن إلا خداماً في هذا الطريق، ولهذا لم يرضخ فالدرب فيه الكثير مما يغري بالصمود والثبات.
ولم لا؟
وهو الذي ما إن فتح عيناه حتى وجد مرجعية الوالد المقدس الإمام الراحل السيد الحكيم (قدس الله سره)، وما كادت هذه المرجعية تسلم الراية للمرجعية التي لحقتها حتى وجدته شعلة بيد المرجع الشهيد الصدر (رضوان الله عليه)، وحين تحركت مسيرة الصابرين من هذا الشعب نحو دور الهجرة حتى وجدته بين يدي شهيد المحراب آية الله السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) يتنقل بين جبهات الجهاد لا يفتر له ساعد ولا ينضب له جهد ولا يستقر عند أريكة ولا يستكن إلى فراش حتى كللت هذه المسيرة بدماء كل هؤلاء الأبرياء والضحايا من أبناء هذا الشعب..
عائلة بكامل قوامها ما بين شهيد ومفقود وسجين وهو لا يستسلم بل يمضي بشعار: هيهات منا الذلة.
ومستقبل زاهر بالرفاه والدعة له ولمثله فيركله برجله لينتخب مستقبله بين أتراح وآلام دريق المحرومين من هذا الشعب في هجمة الارهاب البربرية عليهم.
احتمالات تربص أحزمة الموت الغادر في زيارة الأربعين كانت كبيرة جدا وهو لا يبالي فتراه ينتقل ما بين موكب حسيني وآخر يقبل هذا ويحنو على ذاك وهو يعرف إن امل المحرومين معلّق بالحسين ونوال آمالهم منوط بالحسينيين.
مثل هذا الرجل حينما لا يريد الراحة فإنه يضرب لنا جميعا المثل الذي نحتاجه بعيداً عن الشعارات وبعيدا عن اللافتات والبروفات الاعلامية وهرطقات المزايدات الاعلانية، وهو أين نضع أقدامنا حينما تتاح لنا خيارات الفنادق وخيارات الخنادق؟
أنضع أقدامنا عند الفراش الوثير في الفنادق لنتنكر لهذا الشعب الصبور؟
أم نضع أقدامنا ما بين أقدام الحفاة والمحرومين من هذا الشعب لنزاحمهم في تحمل مسؤوليتهم؟
الكلمات ما عادت لتجدي نفعا مع شعب أثقلته المحن، والألفاظ المنمقة ما عادت لتكون قادرة لتحنو على رأس مظلوم مسحوق من أبناء هذا الشعب الصبور.
الأعمال وحدها هي التي يحتاجها هذا الشعب، وحينما لا يعطي أبو عمار أهمية لخيارت الفنادق وهو على فراش المرض الثقيل إنما يبرق لهذه الأمة بأنها مع وجود أمثاله لن تقهر مهما عتى الزمن.
اللهم احفظه بحفظك للصالحين، وألبسه رداء العافية ولبوس الشفاء كما ألبسته لأيوب إنك ولي الصالحين ومتعنا بدوما بقائه وطول عمره.
محسن الجابري
وكالة انباء براثا
https://telegram.me/buratha