كثيراً ما نسمع باحتدام الجدل بين فريقين سياسيين فبعضهم يريد جدولة أنسحاب القوات الأجنبية من العراق وينضم لهذا البعض فرقاء متباينون التوجه ولربما متحاربون تكتيكياً إلا إنهم يقفون موقفاً واحداً من مسألة جدولة الانسحاب بمعنى أن توضع لعملية انسحاب القوات الأجنبية جدولة زمنية محددة بانتهائها ينتهي الوجود الأجنبي في العراق، وهذا الموقف يشمل جميع المعادين للعملية السياسية الجارية ويختلف عنهم التيار الصدري الذي يؤمن بهذه العملية ولكنه يشدد على إيمانه بمسألة الجدولة.
ومع كثير من حسن الظن الافتراضي فإن هذا الفريق يبني نظريته هذه على أساس أن الاحتلال لن يخرج من العراق إلا من خلال قوة قاهرة له، وبالنتيجة فإن كل المبررات التي تطرح في هذا الصدد تحاول في واقع الأمر التغطية على الرغبة الجادة للإحتلال في البقاء في العراق واستمرار انتهاكه للسيادة الوطنية.
ويقف في الصف المقابل الذين يرفضون فكرة الجدولة بل يطرحون بديلاً عنها جدولة بناء القوات الأمنية العراقية، ويرون أن فكرة الجدولة هي خطر كبير على العراق وإلزام له بما لا يلزم، وهذا الفريق هو الفريق الملتزم بالعملية السياسية وله التزامات ومسؤوليات على الأرض بشكل جدي، وهذا الفريق يجب ان لا يصنّف بانه راض عن وجود هؤلاء، ولكنه يتعامل مع واقع فرض عليه ولا يجد خيارا لتخليص العراق منهم إلا بسلوك هذا الطريق.
ورغم إن من البديهي أن نلحظ أن كل فريق يحشد بين يديه جملة من المبررات التي يريد أن يلتزم بموجبها بهذا الرأي او ذاك، ولكن ثمة امور يجب ان تلحظ في معايير تبني هذا الرأي او ذاك، ومن هذه المعايير أذكر ما يلي:
أولاً: ربما لا يوجد نقاش موضوعي لدى جزء كبير من الطرف الأول في ان انسحاباً عاجلاً من دون بناء القوة الأمنية العراقية التي تمسك بزمام العملية الأمنية يغدو مغامرة قد تري العراق ويلات أكبر من وجود القوات المتعددة الجنسية.
وهنا نلحظ إن هذا النقاش حينما يمتد إلى الالتزامات المترتبة على ذلك يغدو مجرد نقاش فوضوي، فمن يفكر بأن بناء القوة الأمنية العراقية أمراً حاسماً في مسيرة سحب القوة الاجنبية من العراق عليه ان يلتزم بقاعدتين واحدة استراتيجية والثانية تكتيكية، ففي الأولى عليه ان يلتزم بمبدأ تطوير القوة الأمنية وتجهيزها بما يفرغ هذا المبرر من محتواها، وفي الثانية عليه أن يسند عمليا عملية البناء لهذه القوة ويساعدها من خلال المساعدة على بسط الأمن وأن يكون معيناً لها على ان تكون بديلاً.
وفيما تفشل الكثير من القوى المعاندة للعملية السياسية في هذا المضمار وتبدي عجزاً حقيقياً، لأن غالبيتها يقاتل القوة الأمنية العراقية أكثر من مقاتلته للأمريكيين، هذا فضلاً عن تبني القسم الأكبر منها لنظرية منع تطوير القوة الأمنية من خلال منع الانتساب لها وما إلى ذلك من ممارسات نشاهدها بشكل ملموس ميدانياً.
غير إن الصنف الثاني من هذا الفريق ربما يفشل فشلا ميدانيا كبيراً من خلال علاقته السيئة مع القوى الأمنية ومع الحكومة محلية كانت او اتحادية بغض النظر عن ظروف هذه العلاقة وهل انه محق في ذلك او مبطل، مما لا يعطي قيمة حقيقية لمناداته هذه وبالنتيجة يكون النقاش بلا جدوى، لأن النقاش إنما يراد حتى نتفق على بلورة موقف نلتزم بكل ما يترتب عليه.
فيما نلحظ إن الفريق الثاني له نقاش موضوعي هنا، من خلال اندفاعه لتبني فكرة جدولة بناء القوة الأمنية، وهو يعتقد إن الحديث عن الانسحاب من دون بناء هذه القوة سيكون حديثاً عاطفياً وحماسياً أكثر من كونه حديثاً مسؤولاً يعرف ماذا سيترتب على الخطوة الثانية، وهو بالنتيجة ملتزم بنتائج ما يترتب على ذلك استراتيجيا وتكتيكيا.
ثانياً: جدولة الإنسحاب ستفترض اتفاقية أمنية يتم من خلالها النص على مراحل زمنية سيكون في نهايتها خروج للقوات المتعددة، وهذه الجدولة ستخضع لحسابات قد لا تتوافق مع الواقع الميداني، فالأمن واقع متحرك، ومعادلاته ليست ميكانيكية حتى يمكن القول بان الجدول الزمني سيتوافق مع المعطيات الأمنية، فقد تدخل بعض الأطراف الأقليمية على الخط الأمني إما بهدف إرباك الأمريكان أو بهدف رغبة الأمريكان لإرباك الوضع الأمني رغبة في إدامة التواجد، عندئذ سيفسح المجال لمغامرات مجهولة، وضمن آفاق مجهولة.
ثالثاً: جدولة الإنسحاب تعني الخضوع لإرادة من ألزم العراق نفسه باتفاقية معه طالما إن الوقت لم يحن لنهاية الإنسحاب، وبالتالي فإن الجدولة التي ستتم وفق حسابات زمنية تلائم المحتل حكماً، ستلزم الحكومة بجدولة البناء وفقاً لزمنية جدولة الانسحاب، بينما يمكن للحكومة أن تعمد للعكس وهو ان تتبنى طرح جدولة البناء أولاً، حتى إذا اتمته وفقاً لمعطياتها التي تستفز دائما بالرغبة من التحرر من تدخل الأجنبي في قرارها وسيادتها ووفقاً لإمكاناتها المستفزة دائما بالرغبة من التحرر من عبء إلتزامات مضافة عليها عندئذ يمكن أن تقول للأجنبي بان مهمتك انتهت في العراق وعليه يجب ان تغادر، ووفقاً للحسابات المنطقية الأولية يمكن لجدولة الانسحاب ان تمتد لما لا يقل عن خمسة سنوات، بينما يمكن عملياً الاتجاه إلى جدولة البناء بحيث تنتهي خلال عامين.
رابعاً: ماذا سيعني بالنسبة لحركات الارهاب والمترصدين بالعملية السياسية في ان يتم اتخاذ موعد محدد لخروج القوات الأجنبية من العراق؟
وماذا يمكن لحسابات المنطقة ان تتجه إليه؟
وما هي سيناريوهات الضغط العسكري والأمني الاقليمية والدولية التي ستتوقت وفقاً لحسابات تلك النقطة الزمانية التي تحددها الجدولة؟
بحسابات منظورة ووفق غياب الثقة بإمكانية ايجاد توافق حقيقي بين المكونات، فإن التوقيت لهذا التاريخ سيجعل حتى المستقر في أرضية التوافق عرضة للاهتزاز ناهيك عن المتزلزل أساساً.
وإذا كان مثل الضاري وغيره مما ألفنا عليه التمدد تحت أقدام أي دولة من أجل ان تعيد له القدرة في الساحة في مثل هذه الظروف، فكيف ستكون الاستجابة في تلك الظروف؟
اعتقد ان حساباً جاداً لن يخطئ صاحبه في أن التوقيت سيكون ميعاداً لفتح بوابات جهنم.
كل ذلك لا يعني اننا نبارك الوجود الحالي للقوات الأجنبية، فهذا من المحال، ولكن نحن تحت مطرقة وفوق سندان واقعي أفقنا في يوم من أيام الإجرام الصدامي لنجد العراق رهناً للإحتلال وفقاً لحسابات الأمم المتحدة وبشرعية مجلس الأمن الدولي، وحماقة الكثيرين في هذه الساحة وربما بتخطيط مسبق من المحتل سرعان ما حولت الاحتلال إلى ضرورة بحيث راح عدنان الدليمي ونظرائه من (أبتال المكاومة) الشريفة جدا جدا جدا!!! ينادون بضرورة وجوده حالياً. ولهذا مع هذا الواقع علينا ان نتصرف بعقلانية الحاكم وواقعيته، لا بشعارات المتظاهرين وعواطفهم، ونحكم خياراتنا بدقة ونلتزم بجدية بما يفضي إليه خيارنا، فإن اخترنا الطرف الأول فعلينا ان نساهم بإيجاد القوة الامنية أو نساعدها أو على الأقل لا نثير لها المتاعب ونخلق امامها المطبات، وإن اخترنا الثاني فما أوضح التزامنا في التمسك بركاب القانون رغم مرارة هذا الالتزام في بعض الاحيان.
انا اعتقد أن المنهج الذي تبنته العملية السياسية صحيح تمام في جعل عملية تمديد وجود القوات الأجنبية منوط بموافقة الحكومة العراقية بتوصية خاصة لمجلس الأمن الدولي، وهذه الموافقة التي تصاحبت دوماً مع ضغط باتجاه تحسين قدرات القوات الأمنية وجاهزيتها، يمكن أن يتحول إلى الموقف المعاكس تماماً، وهو أن يتم استكمال بناء القوات الأمنية وعندئذ ستنقلب الموافقة على تمديد القوات الأجنبية إلى عدم موافقة على وجودها.
اقول قولي هذا وأنا أذرف دمعة باتت تتجدد كل يوم وانا انظر إلى الأبرياء الذين تساقطوا اليوم في محافظة الناصرية في القتال العابث ضد قوات الامن هناك!!!!
لأقول: أين واقع الجدولة المطلوبة؟
والعاقل يفهم
محسن الجابري
وكالة أنباء براثا
https://telegram.me/buratha