حينما أقرأ مقالات الأخوة القراء وتعليقاتهم حين يبدر حدث ما ياخذني شعور متناقض، فمن جهة أحس بحرارة هذه التعليقات الخارجة عن غضب عميق يتأجج في الدواخل ويتلجلج في الجوانح حتى تكاد تنسكب حمرة الوداج المنتفخة في محيا أخوتنا الأعزة لتتشكل على صفحة التعليق أو الكتابة نتيجة لما يروه من الابتذال والتهاون في التعاطي مع مسألة الدماء الناسفة والخير المهدور في العراق، إذ لا يطالع المرء في لافتات الأخبار إلا كل ما يبعث على السقم، وما بين التضخيم والتهويل والتذمر المبرر وغير المبرر تتجه غالبية التعليقات إلى نقطة تقترب من اليأس والإحباط.
ومن جهة ثانية أشعر بضجر كبير لأن التصويب في سهام الأخوة يخطأ الهدف، فغالبية السهام تصبّها التعليقات على الذات وتطلقها على النفس قبل ان تفكر في موضوعين أساسين:
أولهما: ماذا فعل الآخر؟ وهذا الآخر هو الذي يتسبب في كل هذه المآسي أو له ضلعه الأكبر في ذلك.
وثانيهما: ماذا فعلنا نحن؟ وهنا تدخل الإمكانات المتاحة بين أيدينا، واقصد بهذه الإمكانات كل ما يدخل في القدرة المستطاع إخراجها لا تلك القدرة التي لا تستطيع أن تطلقها وتخرجها، ويدخل في هذه الإمكانات أيضاً ماذا قدمنا نحن للتقليل من الرزايا التي تلحق بنا، وهذه لا تتعلق بالحكومة وإنما تتعلق بنا كشعب وكأفراد امتلكنا قدراً من الوعي وقدراً من الإمكانات ولم تقيدنا الكثير من الضغوط المرتبطة بوضع الحكومات، ويدخل هنا أيضاً: ماذا لو كنا في مواقع المسؤولية هل سنأتي بأفضل مما يأتي به المسؤول الحالي ضمن الظروف التي تكتنف عمله وتضع كوابحها على عجلة سيره؟
أحد التعليقات كانت تخاطب الأستاذ المالكي بهذا النص: لو كنت مكانك لفعلت الذي لم يُفعل، ولعملت ضمن سلسلة طويلة من الافتراضات التي يسمح بها خيال من جلس في بيت منعزل عن ضغوط الواقع، وكثير من التعليقات تتسم بروح تبرز من ثناياها افتراضات أني أنا الأفضل، بل ربما تجد البعض يتصور إن المسؤول لا قدرة له على التحليل ولا ينظر كما ننظر نحن إلى الأمور حينما ننظر إلى الحادثة الفلانية أو المسألة الفلانية.
بطبيعة الحال لست في صدد تغليب وجهة على أخرى، كما إنني لست في صدد الدفاع عن أحد، ولكن دعوني اضرب مثالاً في التعليقات التي حصلت على حادثة الطائفي الدليمي، إذ إن سمة الكثير من التعليقات التي نشرت أو التي لم تنشر كانت تصب جام غضبها على المالكي والائتلاف بأنهم متهاونون ومتخلفون وهذه ضريبة المصالحة مع اشخاص لم يعرفهم السياسيون ونحن كنا نعرفهم!! وهؤلاء هم شركاء العملية السياسية و.وووو... إلخ فيما راحت الأخرى تطالب بإعدامه فوراً وعلى المالكي والائتلاف ان يكون أكثر حزماً ولا يتهاون ووووو.. الخ.
ولكن لم يأت تعليق واحد يتحدث عن منطلق أساسي هل يستطيعون أن يفعلوا ذلك أو لا يستطيعون؟ بمعنى حينما نقول أنهم متهاونون أو متخلفون أو ما شابه هذه الأحكام من أين نشرع في اطلاق هذه الاحكام؟
هل نشرع من افتراض ان لدينا حكماً ديكتاتورياً يمارس الأعمال على طريقة نفّذ ثم ناقش، ومن يناقش من بعد ذلك تعلق رقبته في ساحة التحرير؟
أم أن لديناً حكماً نشترك فيه مع آخرين دوليين ومحليين وهؤلاء نختلف معهم ونتفق احيانا، ولكن حكم الشراكة يقتضي أن قرارك لن يكون مستقلاً، وإنما هو قرار شراكة.
أم أن لدينا آليات في تسيير العملية الحكومية سلسة جداً بحيث أن الحاكم هو المشرع وهو القاضي وهو المنفّذ، ولا ندّعي أن لدينا سلطات ثلاث مستقلة عن بعضها؟ أم العكس؟
من الواضح إن غالبية الأحكام تستصحب صورة النظام الحاكم بلا دستور ولا قانون ولا شراكة حقيقية، فلقد اعتدنا طوال مئات السنين على نمط حكم من هذا القبيل، فالأحكام تأتينا جاهزة إما بواسطة خيول وسيوف، وإما بواسطة دبابات وبيانات رقم واحد، ولم نعتد بعد على طبيعة الأنظمة الدستورية المقيدة بقائمة طويلة عريضة من اللوائح والقوانين.
قد تقول إن هذا لا يناسب هذه المرحلة وقد اوافقك الرأي جدلاً، ولكن فعلا تداول السلطة الحالية يتم بهذه الطريقة ونحن قبلنا بها شوقاً ورغبة، وهو رأي حكماؤنا وقادتنا بدءاً من مراجعنا العظام وانتهاء بمن نثق به من السياسيين والقادة، وقد تحدينا الكثير من الأهوال من أجل ان نصل إلى طبيعة هذا النظام الذي نعتبر أن تحققه يمثل إنجازاً كبيراً في معركة اسقاط الديكتاتورية.
وهذه السلطة حينما تثبت أنها قادرة أن يتم تداولها سلمياً إذن لابد من أن نحافظ على هذا النمط لأنه الأرقى من نوعه في العالم، تعاقبت حكومات متعددة وقد نرضى عنها او لا نرضى، ولكن حسنتها الكبرى أن السابق سلمها اختياراً لمن لحق به وهكذا بلا حركة انقلابات ولا بيانات رقم واحد تضع الجمهور على فوهة الدبابة وتخطب باسمه!!
بقاء مثل هذه السلطات يعني أن السلطة لها شعب ثلاثة مستقلة عن بعضها البعض الآخر، فالقوة القضائية مستقلة عن التشريعية والاثنان مستقلتان عن السلطة التنفيذية، وعلى الجميع أن يراعي بعضه البعض الآخر، فلا يخرج أحداً عن مسار الآخر.
وعوداً على بدء لمثالنا عن الطائفي عدنان الدليمي ابتدأ الأمر بشكاوى مظلومي حي العدل عند السلطة التنفيذية (حكومة واجهزة المالكي) التي وجدت أن الأدلة بين يديها حول هذا المخلوق كافية لكي تضعه بين يدي القوة القضائية وهكذا كان فلقد تكاتبت الأجهزة التحقيقية لوزارة الدفاع مع الأجهزة المعنية في السلطة القضائية وأبلغتها بوجود ما تعتقد انه خرق للقانون، ولكن هذه الأجهزة لا تمتلك صلاحية الحكم على الدليمي، والقضاء وحده هو الذي له مثل هذه الصلاحية، ولكن القضاء حتى يشرع في تنفيذ واجباته أمامه عقبة اسمها الحصانة البرلمانية للعضو البرلماني، وهذه تعطى في كل العالم والدستور العراقي ليس بدعاً من دساتير العالم التي نصّت على ذلك، ولهذا أدّت مقدماتها الأولى بعد أن رتبت ملف الدعوى طلبت من البرلمان أن يرفع الحصانة البرلمانية الممنوحة لعدنان الدليمي بعنوانه عضوا في البرلمان، وهي لما تزل تنتظر هذا الأمر.
وفي البرلمان كنا قد اوضحنا سابقاً أن هناك آلية محددة لرفع الحصانة تعتمد على مقدار محدد من الأصوات وهنا هل يستطيع الائتلاف ان يحصل على هذا العدد المحدد؟
من الواضح إن الائتلاف وحده لا يتمكن من ذلك، ولا يستطيع ولا يقدر ولا يتمكن من دون الحصول على هذا العدد أن يرفع الحصانة، ولهذا لابد له من اجراء تحالفات معينة ليكسب الموضوع، أو يتجه للتصويت من دون هذه التحالفات ليبرأ ذمته امام الشعب بأنه فعل الذي عليه حتى لو لم يحرز موقفه النصاب الكافي المطلوب.
ولكن هذه العملية حتى تحصل تحتاج إلى أن يطرح الموضوع بشكل رسمي على البرلمان من قبل هيئة الرئاسة، فما لم يطرح بهذه الطريقة لن تجري أية عملية تصويت..
عندئذ هل يمكن ان نقول بأن قومنا تهاونوا؟
أو تخلفوا؟
أو ان لدينا قدرة أفضل منهم؟
وهل يعقل أننا اعرف منهم بعدنان الدليمي وزمرته وهم الذين يرون الكواليس أكثر مما يرون اي شيء آخر؟
أم ان المطلوب أن نقول بأنهم فعلوا ما عليهم في هذه المرحلة، وعليهم أن يتموا ما بدأوه من أجل تحصين القضاء وابقائه مستقلاً، ومن أجل تحصين الدستور والحفاظ عليه من ان يكون بعيداً عن الحكمية على جميع العراقيين، ومن أجل تحصين مجلس النواب وسمعته التي حرصت اتجاهات عدة أن تجعلها إلى الحضيض وسط كثير من البرقع الوطني والشعارات المنمقة على طريقة المشهداني وغيره الذين ما زادوا المجلس إلا خبالا!!
ولو عكسنا المثال لمثال آخر هو ملف المجرم صدام، فلاشك أن اخوتنا في السلطة التنفيذية عانوا الأمرين من حكم الطاغية شخصياً وسياسياً ووطنياً، ولكن حين كان الأمر بيد القضاء هل كانوا يستطيعون ان ينزلوا فيه من القصاص العادل ما كانوا يعتبرونه من أولى أولوياتهم؟
ولكن حين قال القضاء كلمته ورغم الضغوط الهائلة التي كانت مسلطة عليهم والتهديدات التي ملأت الآفاق مرّوا بعملية اعدام المجرم صدام بطريقة فاقت التصورات فمن المفارقات أن تهديدات البعثيين وموقفهم الشديد من هذه العملية قوبل من قبل السلطة التنفيذية بإزراء ملفت النظر بحيث إن منع التجول الذي اعتدناه في كل قضية، لم يفرض في يوم اعدام الطاغية.
وما بين المثال الأول والثاني تطرح مسألة القدرة وعدمها، ليبقى الموقف واحداً غاية ما هنالك إنهم في الموقف الأول أرجعوا الأمر إلى مرجعيته الحقيقية ولا زالوا ينتظرون، وفي الثاني حين رجع الأمر إليهم لم يتوانوا من أن يرجعوا عاشق الحفر إلى حفرته
الله سبحانه وتعالى قال: لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فلماذا نكلّف اخوتنا ما لا يطيقون ولا تتسع له مقدرتهم؟
واعداؤنا اجتهدوا على أن يبثوا اليأس والاحباط فينا فلماذا نشتري منهم ما فيه مقتلنا ونجاح اعدائنا..
هذه ملاحظات سريعة في لحظة غضب متعددة الاتجاهات آمل أن تكون مفيدة لمعالجة لحظات غضب أحادية الجانب.
محسن الجابري
وكالة أنباء براثا
https://telegram.me/buratha