د. نعمه العبادي ||
يحيي المسلمون (بعناية) الليالي الفردية من الثلث الأخير من شهر رمضان المبارك رجاء الفوز بثواب الليلة العظيمة المسماة بليلة القدر، ويرتكز في أذهان معظمهم أنها ليلة إنزال القرآن الكريم، كما يذهب البعض إلى أنها ليلة شهادة أمير المؤمنين علي عليه السلام، ويجمع آخرون بينهما، ويميل أهل السنة إلى أن الليلة المقصودة مرددة بين ليالي (٢٥-٢٧)، فيما يرجح معظم الشيعة الليالي (٢١-٢٣)، ومن أجل رسم صورة كاملة عن الليلة وشؤونها، نثير مجموعة اسئلة تشكل بمجملها الصورة الكلية للتساؤلات المطروحة والمفترضة وهي الآتي:
- هل ان الليلة العظيمة المسماة بليلة القدر تساوي في دلالتها ليلة إنزال القرآن، بمعنى ان القدر يساوي نزول القرآن؟
- هل ان للقرآن نزول واحد أم نزولات متعددة، وما الفرق بينها؟
- هل تتضمن ليلة القدر أموراً غير نزول القرآن، وما هي؟
- هل أن الليلة واحدة أو متعددة، وهل أنها ثابتة أو متغيرة في كل سنة؟
- ما هي أهمية الليلة وسرها وخصوصيتها، ولماذا أعطيت هذه المكانة؟
- ما هو أفضل الإحياء لها؟
يرسم القرآن الكريم عبر مواضع متفرقة حدود ليلة القدر، ففي سورة الدخان الآية ٣ يقول تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ)، ثم حدد الليلة في سورة القدر في الآية ١: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)، وذكر في موضع آخر ان هذا الإنزال كان في شهر رمضان : (شهر رمضان الذي إنزل فيه القرآن..)، ويظهر من مجموع الآيات ان إنزال القرآن وقع في ليلة مباركة، وهذه الليلة تسمى بليلة القدر، ومحلها في شهر رمضان المبارك، لكن السؤال المهم، هل أن ليلة القدر تساوي ليلة إنزال القرآن؟
بالعودة الى سورة الدخان، يشير المولى إلى حقيقة هذه الليلة في الآيات (٤-٨) : ( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8))، إذ يتضح منها أنها ليلة مباركة بسبب انها (ليلة الفرق لكل أمر حكيم)، فهي ليلة أحكام وإفراق، وهذه العملية مستمرة متواصلة بدلالة الفعل المضارع (يفرق)، وهذا الإفراق يتصل بمقولة (الأمر)، وهو أحد مظاهر الرحمة الإلهية (رحمة من ربك)، وتشير الآيات في سورة القدر إلى المعنى ذاته: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5))، فهذه الليلة التي هي خير من ألف شهر بسبب (التنزل)، وهو فعل مستمر متواصل يحدث ما دامت الأرض باقية، ويشرح القرآن نوع التنزل بأنه (من كل أمر)، ويجري عبر الملائكة والروح فيه، وهي ما يشار إليه في قوله تعالى (قل الروح من أمر ربي)، ومحصلة القول في هذا الأمر، ان هذه الليلة هي ليلة أحكام وفرق كل الامور والحوادث النازلة والارزاق والبلايا والمنايا، حيث يخطها قلم القدر في كل سنة مع إبقاء البداء لله جل وعلا، فله الأمر من قبل ومن بعد، وإن هذا التقدير والإبرام للأمور لا يساوي الحتمية وإلزام الله به، فبيده تغيره متى يشاء وكيفما يشاء إلا ان هذه المشيئة ليست جزافية إشتهائية عبثية، تنزه المولى عن ذلك، بل تتبدل بموجب سنن إلهية اخرى لها احكامها وضوابطها، لذا يسأل الانسان ربه ان يستبدله خيراً في أمره في كل حين، وحري بالذكر ان التنزل المشار إليه يفترض منطقاً ثلاثة اطراف (مُنزِل) و(مُنزَل) و(منزل عليه)، ومع ثبوت دوام التنزيل في كل سنة، فلا بد من (منزل عليه) يستقبل هذا التنزيل ويتولاه وإلا إذا كان الأمر منحصراً بذاته المقدسة فما الداعي للتنزيل والفرق والإحكام في كل سنة!!؟
وأما ما يتعلق بإنزال القرآن الكريم في الليلة المشار إليها، فمما لا شك فيه، أنه لا يعني تنزيل السور والآيات بصورتها التفصيلية والمقترن معظمها بحوادث ودلالات زمنية ومكانية واعتبارية، فهذا التنزيل تم على مكث، واستمر ثلاثة وعشرين سنة، حيث كانت تنزل الآية والآيات إلى ان اكتمل القرآن الذي بين أيدينا، والمحفوظ بأمر الله من التحريف والتزوير والإشتباه، وأما ذاك التنزيل في ليلة القدر فهو إنزال للقرآن جملة واحدة عبر آياته المحكمة التي فصلت في التنزيل المعهود، ويمكن فهم او تقريب صورة التنزيل الاجمالي بأنه وحي إلهي للخاتم المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم تم في إطلاعه معرفياً وقلبياً على كامل حقائق القرآن العليا ومسار حركته ومضمون وحيه ورسالته وخصوص أسراره وعلاماته، وهو بمثابة التعليم الخاص للنبي بدورة مكثفة استمرت لساعات من ليلة مباركة، وأما التنزيل المتفرق فهو سنة نبوية يقتضيها تعليم الناس ونقلهم التدريجي من مرحلة إلى اخرى، وربط كل تنزيل بشأن معين من حياتهم الروحية والعملية لتستقر الآيات ومضامينها في نفوسهم، وبهذا الفهم ندرك أن ليلة إنزال القرآن الكريم التي وافقت ليلة القدر هي ليلة واحدة محددة حدثت في زمن ما من الشهر الكريم، وقد خص الله سبحانه وتعالى خاصة أوليائه بسرها وموعدها، ودعى المؤمنين لتحري وقتها في آخر شهر رمضان للدفع بإتجاه زخم مكثف من العبادة والتأمل.
وأما ليلة الاحكام والفرق التي تساوي ليلة القدر فهي متحركة في توقيتها من حيث أشهر رمضان، ومستمرة المجيء في كل سنة، فقد تكون في السنة الماضية وافقت الليلة الحادية والعشرين لكن ذلك لا يعني انها تبقى في ليلة الحادية والعشرين في كل سنة، بل من الراجح تبدلها، وهو أحد الاسرار الإلهية الكبرى التي خص به خاصة أوليائه، وعلى المؤمنين النظر إلى الليالي الفردية من الثلث الاخير من شهر رمضان على انها الحيز المحتمل لليلة الاحكام والإفراق مع الالتفات الى بعض التخصيصات التي اشارت إليها الروايات المعتبرة.
وختاماً فإن أفضل احياء لهذه الليلة يكون في التفكر والتدبر والتأمل في عظمة المنزِل وخطورة المنزَل وكرامة المنزل عليه، وفي أهمية ما يخطه قلم القدر من شأن الدنيا وأهلها، وأن يسأل العبد ربه ان يبدل ما خطه بشأنه إلى خير بلطف منه ورحمة وليس بإستحقاق وعمل، وأن لا يكتبه في قائمة المطرودين من رحمة الله.
أسأل الله جل وعلا ان يتقبل أعمال الجميع وأسالكم الدعاء.
https://telegram.me/buratha