د. نعمه العبادي ||
حين يكون المرثي أكبر من التاريخ يغدو الحديث عن سرديات الوقائع سباحة في المياه الضحلة عند شاطئ منسي من محيط لا متناهي.
حملت عشقها هوية، وكانت تطوف به إنتظاراً، تراقب في كل ليلة وجه السماء ملتمسة نجمها المتفرد، عارضة عن ألف صوت وصوت يضعون بين أيديها بضاعتهم الخائبة.
في كل يوم تجلس على صخرتها بجوار بحيرة الوله وهي تندب: (محمد.. محمد.. محمد.. أينك يا محمد)..
تورط الزيف في كذبة كبيرة، أراد لها أن تستر عورته القبيحة، فجعلها كبيرة مسنة، تزوجت مرة أو مرتين، وولدت أبنتين، ولتكتمل سردية الزيف، تم اختراع احاديث من مثل: (لماذا تذكرها عجوز، فقد أبدلك الله خيراً منها)، لتصحح بكلمة عجوز ونظائرها سردية الزيف التي أصرت على حجب صورتها المتألقة عن عيون العامة، وتصعد على اكتاف شرفها العظيم لنيل مراتب غير مستحقة.
نعم، أنها خديجة نقية الثوب، الطاهرة المطهرة التي كانت من عمر رسول الله ومن اترابه، والتي حملت عشق محمد في قلبها هوية وجود، وكانت تطوف به، تبحث في الوجوه حتى شاء الله ان ينجمعا في لحظة لم تستطع ملائكة السماء ادراك كنه طعمها جراء ما وصل من عبق إلهي عم الكون بأسره.
وحيدة هي الخديجة بمحمدها وبفاطمتها وبعشقها وبسيرتها ومكانتها وحزنها وكل شيء يتصل بها، فقد كانت في حياتها فرحة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي يتجاوز بها كل محن الدنيا التي عبر عنها بقوله المتوجع: (ما أوذي نبي مثلما أوذيت)، وبعد مماتها، كانت الذكرى التي تمس كل وجع في روحه، والقضية التي يجد الوفاء لها أعلى درجات نبل الرسالة، لذلك كان يديم العطاء والوصل على كل عطاء ووصل سبق لخديجة وفاءً لها، ونحو من العشق بطريقة خاصة.
خديجة أكبر من مساندة، وأعظم من شاهدة، وأخلص من ملبية، وأهم من زوجة، فهي رئة الاسلام التي كان محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يتنفس بها.
رحلت خديجة عن دنيا محمد، ومعها أبو طالب، فكاد الأفق يطبق على نوافذ النور لولا وهج الايمان وعطر علي وفاطمة في الوجود.
كلما قرأت هذه الرواية، وجدت كلي يصرخ بصوت مفجوع، يخاطب هذه الأوحدية واخديجتاه، فقد جاء في المنتقى : ان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم عند ما اُمِرَ بأن يصدع بالرسالة صعد على الصفا، وأخبر الناس بما أمره اللّه به فرماه أبو جهل قبحه اللّه بحجر فشجّ بين عينيه، وتبعه المشركون بالحجارة فهرب حتّى أتى الجبل، فسمع عليّ و خديجةٌ بذلك فراحا يلتمسانه صلى الله عليه وآله وسلم وهو جائع عطشان مرهق، ومضت خديجة تبحث عنه في كل مكان في الوادي وهي تناديه بحرقة وألم، وتبكي وتنحب، فنظر جبرئيل إلى خديجة تجول في الوادي فقال : يا رسول اللّه الا ترى إلى خديجة فقد أبكت لبكائها ملائكة السماء؟ اُدعُها اليك فاقرأها مني السلام وقل لها : إن اللّه يقرئك السلامَ، ويبشّرها أن لها في الجنةِ بيتاً من قصب لا نصَبَ فيه ولا صخَب فدعاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم والدماء تسيلُ من وجههِ على الارض وهو يمسحها ويردّها، وبقي رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ، وعلي وخديجة هناك حتّى جَنَّ الليلُ فانْصرفوا جميعاً ودخلت به خديجةُ منزلها، فأقعدَتْه على الموضع الّذي فيه الصخرة واظلّته بصخرة من فوق رأسه، وقامت في وجهِه تستره ببُردها وأقبلَ المشركون يرمونه بالحجارة، فاذا جاءتْ من فوق رأسه صخرة وقته الصخرة، وإذا رمَوْهُ مِن تحته وقتْهُ الجدرانُ الحُيّط، وإذا رُميَ من بين يديه وقتْهُ خديجة رضي اللّه عنها بنفسها، وجعَلتْ تنادي يا معشر قريش ترمى الحُرّةُ في منزلها ؟ فلَمّا سمِعوا ذلك انصرفُوا عنه، وأصبَحَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، وغدا إلى المسجد يُصلّي.
اللهم أرزقنا معرفة خديجة وحب خديجة وبركة مقام خديجة عندك وعند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha