د. نعمه العبادي ||
في كتاب التاريخ للصف الخامس الابتدائي (ايام زمان) قصة المبعث النبوي، والتي ملخصها ان السيدة الارملة الاربعينية خديجة بنت خويلد، وهي سيدة ثرية ورثت مالا من زوجها المتوفى، اختارت الشاب القريشي اليتيم محمد بن عبد الله ذا الثامني عشر سنة ليذهب في تجارتها الى الشام، ولمست امانته وصدقه فقررت الزواج منه، وبعد ان بلغ محمد الاربعين، وكان يذهب للتعبد في غار حراء نزل عليه الوحي في ما يسمى بالمبعث النبوي، اي ليلة 27 من رجب للعام 13 قبل الهجرة النبوية، وطلب منه جبرائيل الملك العظيم ان يقرأ، فكان رده ثلاثة مرات (ما انا بقاريء)، لانه امي لا يجيد القراءة والكتابة، ثم انه اصيب بالرجفة والخوف والقلق، وعاد الى خديجة في حالة مزرية فاخذته الى قريبها ورقة بن نوفل والذي ثبته وقال له انك رسول مبتعث.
منذ طفولتي، وانا اقرأ هذا النص وقلبي يسألني الف سؤال عنه، وقناعتي لا تقر ولا تقبل ان تذعن لمفرداته، وكنت في ذلك الوقت لا اشعر بأنه يليق بمحمد العظيم ( ص)، وتدريجيا تزلزلت هذه الرواية بكل ما فيها، لتصل الحقيقة جرعات، وتكتمل عندي وفي قلبي وروحي قبل ان تكتمل معرفيا وعلميا، ولانه المبعث اهديكم فيه هذه السطور المهمة التي اتمنى ان تشق طريقها في غابة الوهم والتضليل التي خلقتها ايادي قاصدة منذ زمن سحيق.
الانبياء عليهم ألف تحية وسلام عموما والرسل منهم على وجه الخصوص، واهل العزم بصورة اكثر تخصيصا، وسيد الانبياء والمرسلين محمد الامين صلوات الله عليه وعلى آله اجمعين بوضع اخص جدا، هو رأس سنام الخلق، وهو الوجود الاول من حيث تراتبية المكانة والكرامة والخصوصية والكمال، فهو التنزل الاول بعد الخالق، وهو في تفوق عظيم فوق جميع الخلق، وقد جسدت عبارة الامين جبرائيل (ع) في حديث الاسراء والمعراج عندما قال له تقدم يا محمد، فقال له: أفي مثل هذا الموضوع تتركني؟ ، فأجابه: هذا مقام من القرب لم ولن ينبغي لاحد من قبلك، ولا من بعدك، انه مقامك انت وحسب لا غير، وهنا لا نتحدث عن مقام جغرافي، بل كمال خلقي وخلقي ورقي ايماني وروحي وبلوغ تصاعدي في القرب من الله عز وجل، لذلك فهو الحبيب، ولا احد في هذه الدنيا يقول بان هناك صفة للقرب اقرب من الحبيب.
ولأن محمدا صلى الله عليه واله وسلم بهذه الرتبة وبهذه الدرجة من الكمال، فإن كمال وتصاعده وخصوصية شخصيته لم تكن قد جاءت فجئة في لحظة بلوغه سن الاربعين الذي بشره الله بالبعثة فيه، كما انه لم يكن شخصية اعتيادية بكل ما تعني هذه الكلمة ثم تحول فجئة الى نبي ورسول، بل كان محمد منذ ان اختاره الله، نوره الاول، والصادر الاول، والعقل الاكبر، ومحور الخلق وعلته، ومحط فيض الكمال والجمال، والفاتح لما سبق، والخاتم لما استقبل والمهيمن على ذلك كله، والمخصوص بالخاتمية، والمتصدي لاكبر واعظم معاناة في الوجود، تتمثل بحمل الرسالة والتبليغ بها، هذا المكانة وهذا الدور، اقتضى ان يكون اوحديا في كل شيء، لذلك فإن صوت الرسالة وهواجس الوحي، وصوت الله عز وجل يسمعه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) منذ لحظة ولادته، بل قبلها، وهو غذائه وانسه وطمأنينته، وإن مناجاته القلبية والروحية التي تدرك جيدا خالقها وربها وحبيبها هي مستمرة منذ لحظة الخلق الاول، بل ان الصوت الاول الذي اصدره محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كوليد جديد، لم يكن كاصوات باقي البشر وصرخاتهم، فهو نداء تلبية، واعتراف لربه وشكرا لنعمته.
لم تكن لحظة من عمر محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا وكان فيها موحدا مؤمنا، عارفا بالدين والرسالات، وملتزما بخط ايماني عميق، ولانه في غاية الكمال والجمال، فقد كان يقرأ ويكتب، ويدرك هذه المعرفة الكمالية التي كان يعرفها الكثير من الناس، وإن توصيف أمي لا يشير الى عدم القدرة على القراءة مطلقا، كما ان جدل ما انا بقارئ لا وجود له ولا صحة له، وإن أمية النبي، لم تضيف له شيئاً في صحة بعثته، ولا قراءته تنقص من مكانته شيئاً، لذلك فقد كان سؤاله ماذا اقرأ؟ وليس ما انا بقارئ.
لم تكن خديجة رضوان الله عليها ارملة، وهي بكر غير متزوجة، ومن عمر رسول الله وأترابه، ولم يكن لها اي اولاد غير فاطمة الزهراء سلام الله عليها، وكل ما يقال في هذا المجال لا صحة له.
سمع محمد صلى الله عليه وآله وسلمالوحي، وكان قد سمعه في روحه وقلبه منذ لحظة خلقه الاولى، وكان له طمأنينة وسلام وامان، ولم يكن رعبا او خوفا او قلقا كما تريد وصفه الرواية القاصدة للتحريف، وكانت كلمات الله تنساب في روحه سلسبيلا وطمأنينة وسلام، وتثبت ما كان في نفسه من اول خلقه لاوحديته وتميزه، ولم ينقطع النبي الأكرم عن عبادة ربه لحظة من عمره، لذلك بعد ان بشره جبرائيل بالرسالة والبعثة وطمأنه بالسداد والنصر، كان الحجر والمدر يسلم عليه بتحية
" السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته"، وقد عاد لبيته رسولا مسددا مطمئنا ثابتا، فهو الذي يشيع الامان الى من حوله، لذلك لا وجود لشخص اسمه ورقة بن نوفل في التأريخ، ولم ترسله خديجة له ولا حقيقة لكل هذه التراهات الزائفة، فمحمد صلى الله عليه وآله وسلم يعرف صلته بالله، ويدرك بعثته ورسالته منذ بدايات خلقه، وهو يتحرك بخط واثق وثابت، وبينه وبين ربه سرا خاصا عاش ومات معه.
أكتب هذه الحقيقة، وهناك حقائق كثيرة ينبغي ان تقال في مواطن تتعلق بحياة النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لتصحح شبهات واشتباهات تم صياغتها من قبل اعداء الله على مر التاريخ وبغايات مختلفة، واتمنى على قلوبكم وعقولكم ان تنظر بعمق وتجرد، وتستشعر اي الاحاديث يليق بمحمد العظيم صلى الله عليه واله وسلم.
مبارك للخلق اجمعين بعثة النبي العظيم متمم الايمان ومكارم الاخلاق.
https://telegram.me/buratha