نعمه العبادي ||
حظي خليل الله عليه السلام وكل ما يتصل به بمكانة عظيمة ومنزلة رفيعة في الرؤية الاسلامية، وقد كانت صورته تساوي صورة الحبيب المصطفى سلام الله عليه إلا في بعض خصوصيات النبي محمد صلوات الله عليه وعلى أهل بيته الكرام، وهكذا أرتكز في الذهن العام، كونه أب الانبياء، ومسمي المسلمين، ويتفرد القرآن الكريم بهذه النظرة الواضحة والشاملة والدقيقة لشخصية الخليل ومكانته في مسيرة التوحيد والموحدين، وعلاقته الصميمية بالأسلام، وقد جاءت السنة المطهرة لتؤكد هذه الحقيقة، خصوصاً وإن النبي وأهل بيته الكرام يعود نسبهم إلى الخليل عليه السلام.
تعرض العهد القديم (التوراة) لشخصية إبراهيم بطريقة لا يمكن مقارنتها من حيث الوضوح والنسبة بما ذكره القرآن، ولم يذكره العهد الجديد مطلقاً إلا أن المسيحية وبعد أعتبار العهد القديم جزءاً صميمياً من رسالة المسيح عليه السلام بقرار متأخر، أعتمدت في نظرتها على ما ورد في العهد القديم، وصار ذكره وارداً في صلواتها وقداسها، وحري بالذكر، أن مصطلح الديانات الابراهيمية لا وجود له في النصوص الدينية الموحاة، وان الاسلام صحح الكثير من هذه التوجهات عبر نصوص دقيقة غير قابلة للتأويل.
ان حق هذا البحث كتاباً ضخماً بل أكثر من ذلك، وهو أحد المشاريع التي أسأل الله سبحان وتعالى، أن يوفقني لإنجازها يوماً ما، لذا فإن ما يذكر في هذا المقال يتناسب وقصره، ولغرض تسلسل الافكار وضبطها، أسلسلها من خلال الآتي:
١- ورد أسم أبراهيم عليه السلام (٦٩) مرة في القرآن الكريم في جميع صيغ رسمه، وأول ذكر له كان في سورة البقرة، وآخره في سورة الأعلى.
٢- وردت قصة النبي ابراهيم عليه السلام بعروض مختلفة في اكثر من سورة، فقد تناولتها سورة مريم والانعام والشعراء والذاريات والعنكبوت والاحزاب والصافات وص والشورى والنجم والحديد والممتحنة والاعلى، فضلاً عن سورة البقرة، وقد تم عرض تفاصيل كاملة عن كل ما يتعلق به.
٣- تعرضت سورة البقرة لقصته في الآيات من (١٢٤-١٤١) ثم عاودت الحديث عنه في خاتمتها (٢٥٨-٢٦٠)، وقد اشارت إلى منحه عهد الإمامة الذي دعى الله أن يمنحه لذريته، فكان الجواب الإلهي، أنه ممنوع عن الظالمين، وكانت هذه الآية أحد أدلة وجوب العصمة المطلقة للإمام (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)، وألزم المسلمين الصلاة إلى مقامه (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)، وقد احتج القرآن الكريم في أكثر من آية على من يصف أبراهيم باليهودية أو النصرانية، وقال بأنه حنيفاً مسلماً ولم يكن مشركاً (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)، كما اشار في خاتمة السورة إلى احد كراماته في مشاهدة حقيقة الحياة والموت وإعادة الحياة إلى الطيور الأربعة.
٤- تضمنت سورة آل عمران محاججة صارمة وشديدة لأهل الكتاب تجاه إدعاء نسبة إبراهيم عليه السلام إليهم، وقطعت الخلاف بوضوح عبر آيات بينات (يا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).
٥- تناولت الكثير من الآيات قصة حصوله على الذرية، وكراماته في البيت الحرام وفي محاججته لقومه، وكانت كلها، تعرض لمقامه العظيم، ومكانته الإلهية الكبيرة، وتربطه بشكل جوهري بالإسلام والمسلمين فهو (ملة ابيكم أبراهيم هو سماكم المسلمين).
٦- أورت الآيات في سورة النحل وصفاً عظيماً لخليل الله عليه السلام لم يوصف به أحد من قبله ولا من بعده، فقد جعله القرآن أمة كاملة، وهذا التعبير ليس وصفاً مجازياً، بل ان القيمة العبادية والإنابة والتسليم الابراهيمي يعادل أمة موحدة (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121)وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
٧- تعرضت سورة الإنبياء الى قصته مع النمرود الطاغية، وقذفه ليحرق بالنار، ومحور الجدل الذي كان سبباً لهذا الخلاف، وهو مجاهرته بالتوحيد ومواجهة الطغيان والصنمية، وقد كرمه الله سبحانه وتعالى بالحماية والأمان، وأمره بالهجرة بعيداً عن محيط الكفر حماية له ( ولقد آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ(52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ)، ومن عظيم شأنه وتسليمه، أنه ورد في الرواية، أن الله سبحانه وتعالى أرسل جبرائيل العظيم إليه في اللحظة التي تم بها رميه بالمنجنيق وكان يقذف سريعاً بإتجاه النار، فقال له، ما حاجتك يا خليل الله؟ فكان جوابه العظيم : ( علمه بحالي، يغنه عن سؤالي)، فكانت النار مثل الثلج عليه، حتى كانت اسنانه تصطك من شدة البرد.
٨- لقد قرنت الصلاة على محمد وآل محمد والدعاء لهم بالصلاة والدعاء لإبراهيم وآله، فكانت الصلاة التامة الكاملة، أن تقول : (اللهم صلي على محمد وآل محمد وبارك وترحم وتحنن على محمد وآله كما صليت وباركت وترحمت وتحننت على إبراهيم وآل أبراهيم).
وخلاصة القول، ان القرآن الكريم أوضح العلاقة الصميمية الحصرية بين ابراهيم عليه السلام والاسلام، فكان هو الذي سماه، ووجب التعبد على وفق ملته الحنفية السمحاء، والصلاة إلى كعبته ومقامه، والإمامة من خلال دعائه المبارك، والذي جعلها باقية في عقبه، وهي صورة واضحة لا تقبل اللبس او التاويل او التصرف والتلاعب من اي طرف أو جهة.
https://telegram.me/buratha