"وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لَمَّا عَزَمَ عَلَي الْخُرُوجِ إلَي الْعِرَاقِ قَامَ خَطِيباً ، فَقَال :
" الْحَمْدُ لِلَّهِ ؛ مَاشَاءَ اللَهُ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللَهِ ؛ وَصَلَّي اللَهُ عَلَي رَسُولِهِ .
خُطَّ الْمَوْتُ عَلَي وُلْدِ آدَمَ مَخَطَّ الْقِلاَدَةِ عَلَي جِيدِ الْفَتَاةِ . وَمَا أَوْلَهَنِي إلَي أَسْلاَفِي اشْتِيَاقَ يَعْقُوبَ إلَي يُوسُفَ . وَخُيِّرَ لِي مَصْرَعٌ أَنَا لاَقِيهِ ؛ كَأَنِّي بَأَوْصَالِي تَتَقَطَّعُهَا عُسْلاَنُ الْفَلَوَاتِ بَيْنَ النَّوَاوِيسِ وَكَرْبَلاَءَ ؛ فَيَمْلاَنَ مِنِّي أَكْرَاشاً جُوفاً ، وَأَجْرِبَةً سُغْباً .
لاَ مَحِيصَ عَنْ يَوْمٍ خُطَّ بِالْقَلَمِ . رِضَا اللَهِ رِضَانَا أَهْلَ الْبَيْتِ ؛ نَصْبِرُ عَلَي بَلاَئِهِ ، وَيُوَفِّينَا أُجُورَ الصَّابِرِينَ.
لَنْ تَشُذَّ عَنْ رَسُولِ اللَهِ صَلَّي اللَهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ لُحْمَتُهُ ، وَهِيَ مَجْمُوعَةٌ لَهُ فِي حَظِيرَةِ الْقُدْسِ ، تَقِرُّ بِهِمْ عَيْنُهُ ، وَيُنْجَزُ لَهُمْ وَعْدُهُ .
مَنْ كَانَ فِينَا بَاذِلاً مُهْجَتَهُ ، وَمُوَطِّناً عَلَي لِقَاءِ اللَهِ نَفْسَهُ ، فَلْيَرْحَلْ مَعَنَا ؛ فَإنَّنِي رَاحِلٌ مُصْبِحاً إنْ شَاءَ اللَهُ تَعَالَي".(1)
وقد جسد هذه الصورة في بداية من التشبيه الرائع جسد فيها الإمام الحسين شوقه إلى الموت الذي سوف يجمعه بأسلافه الماضين، ويمكن أن نلمح في هذا التركيب ظلالاً من المعاني التي تشير إلى رغبة الإمام الحسين في الموت الكريم، وزهده في هذه الدنيا الفانية. وقد شبه هذا الاشتياق باشتياق يعقوب على يوسف وهو تشبيه بلاغي رائع واشتياقه للقاء ربه وجده وأبيه وأمه وأخيه وهو خطاب يؤكد أن الموت حق وخط على ولد آدم منذ الخليقة.
لينتقل إلى كيف سيكون حاله بعد الموت ووحشية العدو أي معسكر يزيد المجرمين(لعنهم الله) مجسداً الحقيقة التي آمن بها يقول: «كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء فيملأن مني أكراشاً جوفاً وأجربة سغباً» لقد رسم الإمام في هذه التراكيب عدداً من الصور تنبض بالحياة وكأن السامع يراها أمامه «أوصال مقطعة، ذئاب شرسة تنهش تلك الأوصال، مكان محدد، بطون يصرخ فيها الجوع».لقد كانت صورة متكاملة الأبعاد تجسد الحدث بصورة دقيقة لقد صور الإمام وحشية الأعداء وشراستهم من خلال الرمز الموحي بهذه الوحشية، صورة ذئاب متوحشة، بطونها فارغة ينهشها الجوع بكل قوة فتجد أمامها ما تفترسه لتملأ منه بطونها، هكذا هي الصورة التي رسمها الإمام لجيش الأعداء وحاجة أفراده إلى التزود من حطام الدنيا، يقول أحد الباحثين:«ويبدو أن الصورة الاستعارية في الخطاب لا تعني بحقيقة الجوع وفراغ البطون، بقدر ما تصور الحاجة الدنيوية لهذا الجيش بأكراش هذه الحيوانات الجائعة».(2)وهو يمثل جيش يزيد المجرمين من أنهم حيوانات شرسة جائعة ووحشية تفوق حتى الحيوانات في وحشيتها وهمجيتها.
وهنا نفهم بأن الأمام الحسين كان راضي بقضاء الله ومستسلم لأرادته وهذا هو حال الأنبياء والأوصياء والأئمة والذين بهذا الرضا والتسليم لأمره أعطاهم هذه المنزلة العظيمة وقربهم الله سبحانه إليه وكان الحسين منزلته منزلة عاليه وأختصه الله بهذه المنزلة وأمره بالصبر على البلاء ليريهم من هو الحسين ولماذا أختاره الله ليكون مصباح الهدى وسفينة النجاة وقرن رضا الله برضا أهل البيت وهذا ما أكده في خطبته وليكون أهل البيت هم سفن النجاة في لجج البحار الغامرة ولتصبح سفينة الحسين أسرعها وهذا ما أكده الأمام جعفر الصادق حيث لمّـا سئل مولانا لسان الله الناطق جعفر بن محمّد الإمام الصادق (عليه السلام)عن حديث « إنّ الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة » : ألستم أنتم سفن النجاة ؟ فقال (عليه السلام) : كلنا سفن نجاة وسفينة جدي الحسين أوسع وفي لجج البحار أسرع).(3)
وقد وفى الله جل وعلا أجره للأمام الحسين وأعطاه منزلة لم يعطيها لأي من الأولين والآخرين بعد جده وأبيه وأمه وأخيه (صلوات الله عليهم أجمعين) والتي وصلت هذه المنزلة لأن يقول الرسول الأعظم محمد(ص) { حسين مني وأنا من الحسين ، أحب الله من أحب حسيناه} وهو حديث مسند من قبل كل الفرق والطوائف ليكون الحسين جزء من الرسول الأعظم(ص) وليكون الرسول جزء من الحسين لأنهم أصبحا هم من حمل الرسالة وأعبائها وتصحيحها ووضعها على الطريق الصحيح. وهو ماض في طريق الشهادة والخلود امتثالاً لأمر ربه ورسوله ولن يشذ عن طريقه مهما بلغت التضحيات ليقر بها عين جده لأنهم في حظيرة القدس وهي أعلى منازل الجنة وأقربهم إلى الله سبحانه وتعالى.
وحركة الحسين وتحلله من الحج أوجدت حالة من التفكير وهذا ما يصفه العلامة هبة الله الشهرستاني فيقول : "ولهذا بادر الحسين (عليه السلام) بمسيره قبل أن يبادر العدو إلى صدّه وإحصاره واغتياله، وألجأته الضرورة إلى حركة غير منتظرة وخارجة عن الحسبان، وأوجد بمسيره هذا ثورة فكرية أوجبت انتشار خبره بسرعة البرق. وحقاً أقول: إنّ الحسين (عليه السلام) مجتهد في نيّته ومستفرغ كل ما في وسعه لنشر دعوته في كل عصر ومصر شحت وسائل النشر فيها، فكان لخروجه في غير أوانه دوي يرن صداه في الداخل والخارج والناس يتساءلون عن نبأه العظيم وعن أنّ الحسين هل حج وخرج؟ ولماذا؟ ومتى؟ وكيف؟ والى أين؟.
هذا والحسين (عليه السلام) يسير بموكبه الفخم وحوله أهله كهالة حول القمر كأنّ موكبه داعية من دعاته، فإنّ الخارج يومئذ من أرض الحج والناس متوجّهون الى الحج لابد أن يستلفت إلى نفسه الأنظار وإن كان راكباً واحداً فكيف بركب وموكب... إنّه لأمر مريب وغريب يستوقف الناظر ويستجوب كل عابر.
وهذه أيضاً عملية من شأنها شهرة أمر الإمام وانتشار خبره الهام".(4)
ولو رأينا هذا الخطاب فأنه يخالف خطاب الثائرين وطالبي الإصلاح فهو خطاب يشرح فيه منيته وكيف ستكون في صحراء كربلاء وهو يخالف خطاب الثائرين والذين عادة يمنون جماعتهم بالسلطان والإغراءات المادية وتسلم المناصب بينا نجد هنا أن الحسين هنا ينعي نفسه ويرسم نهايته ويمني من يتبعه بالشهادة ولقاء الله، لأن طريقه هو طريق الشهادة، يقول الشيخ الآصفي: «هذه الخطبة عجيبة في لهجتها، عجيبة في مضامينها ودعوتها، وهي تتضمن الاستنصار والترغيب والتزهيد والدعوة والرفض» .(5)
هل يتناقض الإمام الحسين عليه السلام في خطابه هذا؟
"ويبدو لأول نظرة إلى نص هذا الخطاب أن تراكيبه تزدحم بالمتناقضات فهو يدعو الناس إلى نصرته، وينعى نفسه في الوقت نفسه. ويدعو إلى الزهد في الدنيا ويرغب من يلحق به بالشهادة.وقد يبرز سؤال في الذهن عن السبب الذي دفع الإمام إلى بناء أسلوب خطابه بهذه الطريقة وهو يدعو الناس إلى تأييد مسعاه في استعادة الحق المغتصب، وفي هذا الوقت الذي أعلن فيه ثورته على الظلم والظالمين وعزم على الخروج إلى العراق.
إن الجواب عن هذا التساؤل: هو أن الإمام أراد أن يكون صادقاً مع نفسه أولاً وصادقاً مع من يتبعه، فهو يعرف المصير الذي يسير إليه، ويعلم أنه ماضٍ في طريق الشهادة، وعد وعده به الله ورسوله، ولا يمكن لإمام مثل الحسين أن يستعمل غير هذا الأسلوب الذي بنى عليه تراكيب خطابه عشية خروجه من مكة.
الإمام الحسين عليه السلام يودع مدينة جده للمرة الاخيرة
لقد مثل هذا الخطاب بمفرداته وتراكيبه وأسلوب صياغته الوداع الأخير لمدينة جده رسول الله وبيت الله الحرام، وهو يمثل أيضاً الإنذار الأخير للمسلمين، لكي يحسموا خيارهم بين الفناء والخلود، بين الحق والباطل بين الظالم والمظلوم".(6)
ونأتي إلى الفقرة الأخيرة من هذا الخطاب العظيم والذي يقصد به أصحاب الحسين المنتجبين فهم إنهم رجال وفتية آمنوا بربهم وبرسوله ووصيه وإمامهم سيد الشهداء (ع) وزدناهم هدى وحقيقة قضيته العادلة فوطنوا أنفسهم على الموت وكانوا مصاديقاً لقول سيدهم الإمام الحسين: (من كان باذلاً فينا مهجته موطناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا) فهو أشترط عليهم شرطين مهمين أن يكون باذلاً ومضحياً بنفسه حيث قالوا إن الجود بالنفس أقصى غاية الجود، والجود بالنفس هي التضحية بها وهي رتبة عالية من الإيثار يقف في قمتها أولئك الذين يضحون بأرواحهم في سبيل إن يعيش الآخرون، ويمنعون عنهم الموت والأذى.
وكان هذا قرار أنصار أبي عبد الله في أنهم دافعوا وبذلوا مهجهم في سبيل الدفاع عن حرم رسول وأهل بيته وكانوا يستحقون إن يكونوا في أعلى منازل الفردوس وفي عليين وأعلى منزلة من أصحاب رسول الله نبينا الأكرم محمد(ص) والذين كتب قرآننا الكريم الآيات العديدة في خذلانهم وتقاعسهم والتاريخ والأحداث تشهد بذلك.
وآثروا الموت من أجلها على الحياة مع الظالمين وتيقنوا قول إمامهم الحسين (ع): (ليرغب المؤمن في لقاء الله محقاً، فإني لا أرى الموت سعادة، والحياة مع الظالمين الا برماً).
فبلغ هؤلاء الشهداء العظماء أعلى درجات الإباء والتضحية وهم يقدمون أنفسهم في سبيل الله بين يدي سيدهم الإمام الحسين (ع) ويجسدون أروع القيم السامية والمواقف العظيمة المشرفة في سبيل المبدأ والإخلاص للعقيدة. فكانوا أروع ما يكون عليه الشهيد من إرادة وتصميم وبصيرة مستجيبين لنداء الإمام (ع) بإدراك ووعي ومعرفة تحت لواء الحق فسجل لهم التاريخ كلمات خالدة من فم الإمام الحسين (ع) حين وصفهم بقوله: (إني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي) . وما أروع هذه الأبيات التي قيلت في حقهم وكانوا كما قيل لأحد الشعراء وهم يقاتلون بين يدي الإمام الحسين(ع):
قوم إذا نودوا لدفع ملمة *** و الخيل بين مدعس و مكردس
لبسوا القلوب على الدروع كأنهم *** يتهافتون إلى ذهاب الأنفس
عافوا الحياة فيا لهم من فتيةٍ*** سكنوا الجنان وأُلبسوا من سندسِ
فقد صمم هؤلاء الأفذاذ على القتال مع الحسين (ع)، والموت دونه رغم قلتهم وكثرة عدوهم فأدهشوا العقول وحيروا الألباب بشجاعتهم وبطولاتهم حتى شهد لهم عدوهم بذلك عندما قتلوا الصناديد وجندلوا الأبطال فصاح عمرو بن الحجاج الزبيدي وكان على ميمنة الجيش الأموي يوم الطف في أصحابه: (أتدرون من تقاتلون ؟ تقاتلون فرسان المصر وأهل البصائر وقوماً مستميتين لا يبرز إليهم أحدٌ منكم إلا قتلوه على قلتهم لو لم ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم)، فأيده اللعين عمر بن سعد بن أبي وقاص بقوله: (أرسل في الناس من يعزم عليهم أن لا يبارزهم رجل منكم ولو خرجتم إليهم وحداناً لأتوا عليكم)، فقد عرف هذان العنصران المنحرفان إن الدوافع التي يقاتل من أجلها هؤلاء الأبطال لم تكن من نوع الدوافع التي يقاتلان هما وأشباههما من كلاب بني أمية من أجلها. وقد وصف الكاتب المصري عباس العقاد معسكر الحسين بمعسكر النور ومعسكر الظلام وأنها كانت حرب بين النور والظلام بكل معانيه السامية والعظيمة. وقد وصف العقاد المعسكرين إذ يقول " ولو كانوا يحاربون عقيدة بعقيدة،لما لصقت بهم وصمة النفاق ومسبة الأخلاق..فعداوتهم ما علموا أنه الحق وشعروا أنه الواجب أقبح بهم من عداوة المرء ما هو جاهله بعقله ومعرض عنه بشعوره،لأنهم يحاربون الحق وهم يعلمون.ومن ثم كانوا في موقفهم ظلاماً مطبقاً،ليس فيه من شعور الواجب بصيص من عالم النور والفداء..فكانوا حقاً في يوم كربلاء قوة من عالم الظلام تكافح قوة من عالم النور".(7)
مع الفرزدق
مع الفرزدق :. سـار الإمام الحسين (ع ) حتى انتهى إلى الصفاح فلقيه الفرزدق بن غالب الشاعر فقال للإمام : بابي أنت وأمي يا ابن رسول اللّه ما أعجلك عن الحج فقال : لو لم أعجل لأخذت .
ثـم سـال الـفـرزدق عـن نبا الناس خلفه فقال له الفرزدق : قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني أمية والقضاء ينزل من السماء.
فـقـال له الحسين : صدقت , للّه الامر, واللّه يفعل ما يشاء, وكل يوم ربنا في شان إن نزل القضاء بما نحب فنحمد اللّه على نعمائه , وهو المستعان على أداء الشكر وان حال القضاء دون الرجاء فلم يعتد من كان الحق نيته , والتقوى سريرته , ثم حرك الحسين راحلته فقال : السلام عليك.(8)
وكان موكب الحسين (عليه السلام) يسير في بطون الفيافي والمفاوز وقوافل القلوب تشايعه من بعد بعيد وخفيف اللحاق من عشاقه مصمم على الالتحاق بموكبه بعد أداء فريضة الحج بأقرب ساعة، لكن الإمام يجد في مسراه والقمر دليل الركب ورفيقه ولما بلغ بطن عقبة لقيه شيخ من بني عكرمة فسأله:
«أين تريد؟» فقال الإمام: «الكوفة». فقال الشيخ: «أنشدك الله لما انصرفت، فو الله ما تقدم إلاّ على الأسنة وحدّة السيوف، وأن هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤونة القتال ووطأوا لك الأشياء فقمت عليهم كان ذلك رأياً».
فقال له الإمام: «ليس يخفى عليّ الرأي ولكن الله تعالى لا يغلب على أمره» ثم قال (عليه السلام): «والله لا يدعونني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي، فإذا فعلوا سلّط الله عليهم من يذلّهم حتى يكونوا أذل فرق الأمم».(9)
وهذا ما ذهب إليه العلامة الشهرستاني إذ يقول"بلى جرّب آل النبي غدر بني أمية عدّة مرات ولم ينجحوا، إذ تصالح الحكمان في دومة الجندل، وغدر ابن العاص مندوب معاوبة بأبي موسى الأشعري مندوب الإمام (عليه السلام) وصالح سيدنا الحسن معاوية فغدره هذا في وعوده وعهوده وأخيراً دس إليه السم فقتله، ثم جردوا ابن عمه مسلماً من سلاحه بالأيمان والعهود وسرعان ما حنثوا ونكثوا وقتلوه. أفبعد هذا كله يثق حسين العلاء بوعود هؤلاء أو نظن في صلحهم السلامه؟ ومن جرّب المجرّب حلّت به الندامة. نعم علم الحسين (عليه السلام) أنّه مقتول إذا بايع ومقتول إذا لم يبايع. وفي حالة خطرة كهذه لا يسوّغ شرع أو عقل اختيار قتلة خسيسة على قتلة شريفة «فقتل امرىء في جانب الله أفضل» لا سيما وفي إعلانه الخلاف ظن النصرة والنجدة ومظنة إرجاع مجده وإحياء شعائر شرع جدّه (صلى الله عليه وآله)".(10)
وهنا ندرج المنازل والمواضع التي مر بها الامام الحسين (عليه السلام) من مكة حتى كربلاء حسب التسلسل التأريخي :
1ـ بستان بني عامر : ويقال انه لقي فيه الشاعر الفرزدق في روايات ضعيفة أن الفرزدق قد التقى الأمام الحسين(ع) مرتين.
2ـ التنعيم : موضع في حل مكة ويبعد عنها فرسخين او اكثر وفي هذا الموضع اخذ الامام الحسين (عليهم السلام) لاصحابه جمال تحمل مسافة الطريق (11)
3ـ الصفاح : هو موضع بين حنين وانصاب الحرم على يسرة الداخل من الحرم وروي ان الفرزدق لقيه في هذا الموضع أيضاً (12). وقد أوردنا آنفاً مقابلة الفرزدق للأمام الحسين في هذا المنزل.
4ـ ذات عرق : بكسر العين وإسكان الراء المهملة، منزل معروف من منازل الحج ، يحرم أهل العراق ، وفارس ، وخراسان ، ومن وراءهم بالحج منه، سمّى بذلك لأن فيه عرقا ، وهو الجبل الصغير يشرف على وادي العقيق(13)
5ـ الحاجر من بطن الرمة : منزل لاهل البصرة إذا أرادوا المدينة وفيه يجتمع أهل الكوفة والبصرة ويقع شمال نجد(14) ومنه بعث الإمام الحسين (عليه السلام) (قيس بن مسهر الصيداوي إلى الكوفة وكتب معه:{ بسم الرحمن الرحيم من الحسين إلى إخوانه المؤمنين سلام عليكم فأنى أحمد إليكم الله الذي لا اله هو أما بعد فإن كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبرني بحسن رأيكم واجتماع ملاكم على نصرتنا والطلب بحقنا فسالت الله ان يحسن لنا الصنيع وان يثيبكم ذلك أعظم الاجر وقد شخصت إليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية فإذا قدم عليكم رسولي فالتمسوا أمركم وجدوا فأنى قادم عليكم في أيامي هذه شاء الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
فاقبل قيس بن مسهر الصيداوي حتى انتهى إلى القادسية فاخذه الحصين بن تميم وبعث به إلى عبيد الله بن زياد فاخرج الكتاب ومزقه فلما حضر بين يدي عبيد الله قال من أنت قال رجل من شيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) قال فلماذا مزقت الكتاب قال لئلا تعلم ما فيه قال ممن الكتاب والى من قال من الحسين (عليه السلام) إلى قوم من أهل الكوفة لا اعرف أسمائهم فغضب ابن زياد قال اصعد فسب الكذاب ابن الكذاب الحسين بن علي بن أبي طالب فصعد قيس القصر فحمد الله وأثنى عليه وقال أيها الناس إن هذا الحسين بن علي خير خلق الله ابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وإنا رسوله وقد فارقته الحاجز فأجيبوه ثم لعن عبيد الله بن زياد وأباه واستغفر لعلي بن أبي طالب فأمر عبيد الله فالقي من فوق القصر فمات)(15)
6ـ الخزيمية : بضم أوله ، وفتح ثانيه ، تصغير خزيمة ، منسوبة إلى خزيمة بن خازم فيما أحسب : وهو منزل من منازل الحاج بعد الثعلبية من الكوفة وقبل الأجفر(16) ولما نزل الحسين (عليه السلام) الخزيمية أقام بها يوما وليلة ثم سار حتى نزل الثعلبية (17)
7ـ زرود : موضع بطريق مكة بعد الرمل(18) ثم سار حتى انتهى إلى زرود فنظر إلى فسطاط مضروب ، فسأل عنه ،فقيل له : هو لزهير بن القين وكان حاجا أقبل من مكة يريد الكوفة فأرسل إليه الحسين وكان زهير يتجنب الالتقاء بالحسين فتثاقل في إجابته، وكانت مع زهير زوجته ، فقالت له : سبحان الله ، يبعث إليك ابن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فلا تجيبه فقام يمشي إلى الحسين عليه السلام ، فلم يلبث أن انصرف ، وقد أشرق وجهه، فأمر بفسطاطه فقلع ، وضرب إلى لزق فسطاط الحسين ثم قال لامرأته : أنت طالق ، فتقدمي مع أخيك حتى تصلي إلى منزلك ،فإني قد وطنت نفسي على الموت مع الحسين عليه السلام ثم قال لمن كان معه من أصحابه : من أحب منكم الشهادة فليقم ، ومن كرهها فليتقدم.(19)
8ـ الثعلبية : من منازل طريق مكة من الكوفة بعد الشقوق وقبل الخزيمية(20)وروى عبد الله بن سليمان والمنذر بن المشمعل الأسديان قالا، لما قضينا حجنا لم تكن لنا همة إلا اللحاق بالحسين عليه السلام في الطريق، لننظر ما يكون من أمره ، فأقبلنا ترقل بنا نياقنا مسرعين حتى لحقنا بزرود، فلما دنونا منه إذا نحن برجل من أهل الكوفة قد عدل عن الطريق حين رأى الحسين عليه السلام ، فوقف الحسين كأنه يريده ثم تركه ومضى ، ومضينا نحوه ، فقال أحدنا لصاحبه : اذهب بنا إلى هذا لنسأله فإن عنده خبر الكوفة، فمضينا حتى انتهينا إليه فقلنا : السلام عليك ، فقال، وعليكم السلام ، قلنا، ممن الرجل ؟ قال، أسدي، قلت : ونحن أسديان، فمن أنت ؟ قال : أنا بكر بن فلان، وانتسبنا له ثم قلنا له، أخبرنا عن الناس وراءك، قال، نعم لم أخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة ، ورأيتهما يجران بأرجلهما في السوق فأقبلنا حتى لحقنا الحسين صلوات الله عليه فسايرناه حتى نزل الثعلبية ممسيا ، فجئناه حين نزل فسلمنا عليه فرد علينا السلام ، فقلنا له : رحمك الله ، إن عندنا خبرا إن شئت حدثناك علانية ، وإن شئت سرا ، فنظر إلينا وإلى أصحابه ثم قال : (ما دون هؤلاء ستر) فقلنا له، رأيت الراكب الذي استقبلته عشي أمس ؟ قال : ( نعم ، وقد أردت مسألته) فقلنا : قد والله استبرأنا لك خبره، وكفيناك مسألته ، وهو امرؤ منا ذو رأي وصدق وعقل ، وإنه حدثنا أنه لم يخرج من الكوفة حتى قتل مسلم وهانئ ، ورآهما يجران في السوق بأرجلهما : فقال : " إنا لله وإنا إليه راجعون ، رحمة الله عليهما " يكرر ذلك مرارا ، فقلنا له : ننشدك الله في نفسك وأهل بيتك إلا انصرفت من مكانك هذا ، فإنه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة ، بل نتخوف أن يكونوا عليك . فنظر إلى بني عقيل فقال : (ما ترون فقد قتل مسلم ) فقالوا : والله لا نرجع حتى نصيب ثأرنا أو نذوق ما ذاق، فأقبل علينا الحسين عليه السلام وقال : (لا خير في العيش بعد هؤلاء) فعلمنا أنه قد عزم رأيه على المسير(21)
9ـ الشقوق: منزل بطريق مكة بعد واقصة من الكوفة ، وقيل إن الحسين (عليه السلام) التقى بالفرزدق هنا.(22)
10ـ زبالة : وساروا حتى انتهوا إلى زبالة ( قال أبو مخنف ) حدثني أبو علي الأنصاري عن
بكر بن مصعب المزني قال كان الحسين لا يمر بأهل ماء إلا اتبعوه حتى انتهى إلى زبالة سقط إليه مقتل أخيه من الرضاعة مقتل عبد الله بن بقطر وكان سرحه إلى مسلم بن عقيل من الطريق وهو لا يدرى أنه قد أصيب فتلقاه خيل الحصين بن نمير بالقادسية فسرح به إلى عبيد الله بن زياد فقال اصعد فوق القصر فالعن الكذاب ابن الكذاب ثم انزل حتى أرى فيك رأيي قال فصعد فلما أشرف على الناس قال أيها الناس إني رسول الحسين ابن فاطمة بن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لتنصروه وتوازروه على ابن مرجانة ابن سمية الدعي فأمر به عبيد الله فألقى من فوق القصر إلى الأرض فكسرت عظامه(23) فأخرج إلى الناس كتابا قرأ عليهم وفيه :
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد :{ فإنه قد أتانا خبر فظيع قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبد الله بن يقطر ، وقد خذلنا شيعتنا ، فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف في غير حرج ليس معه ذمام}، فتفرق الناس عنه ، وأخذوا يمينا وشمالا حتى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من المدينة ونفر يسير ممن انضموا إليه ، وإنما فعل ذلك لأنه (عليه السلام) علم أن الأعراب الذين اتبعوه إنما اتبعوه لأنهم ظنوا أنه يأتي بلدا استقامت له طاعة أهله ، فكره أن يسيروا معه إلا وهم يعلمون على ما يقدمون.(24)
العقبة
بمعنى الجبل الممتد، وهو اسم لأحد المنازل على طريق الكوفة نزل فيه الإمام الحسين عليه السلام، والتقى فيه بشيخ اسمه عمر بن لوذان وسأله عن أوضاع الكوفة. حاول الرجل ثني الإمام عن المسير صوب الرماح والسيوف لكن الإمام واصل مسيره إلى كربلاء
شـراف
ومعناه الموضع المرتفع، وهو أحد المنازل التي نزلها الإمام الحسين عليه السلام عند مسيره من مكة الى الكوفة، وهي منطقة يكثر فيها الماء والأشجار، وتبعد عن واقصة. وفي هذا الموضع أغلق الحرّ الطريق على الحسين، فبات فيه هو و أصحابه، وعند الفجر أمر شبّان القافلة بحمل ما يستطيعون من الماء؛ فملئوا القرب والأواني وساروا، وفي الطريق لقيهم جيش الحرّ وقد أنهكه العطش فأمر عليه السلام أن يسقوهم هم ودوابهم.
فسرنا معه ساعة ، فخفق (ع) وهو على ظهر فرسه خفقة ثم انتبه وهو يقول : إنا لله وإنا إليه راجعون والحمد لله رب العالمين .
ففعل ذلك مرتين أو ثلاثا ، فأقبل إليه ابنه علي بن الحسين فقال : ممَ حمدت الله واسترجعت ؟.. قال :
يا بني !.. إني خفقت خفقة فعنّ لي فارس على فرس وهو يقول : القوم يسيرون ، والمنايا تسير إليهم ، فعلمت أنها أنفسنا نعيت إلينا ، فقال له :
يا أبت لا أراك الله سوءا ، ألسنا على الحق ؟.. قال :
بلى ، والله الذي مرجع العباد إليه ، فقال : فإننا إذاً لا نبالي أن نموت محقّين ، فقال له الحسين (ع) : جزاك الله من ولد خير ما جزى ولدا عن والده.(25)
وهذا هو شأن الثائرين في سبيل تثبيت الأفكار والمبادئ التي يؤمنون بها يجب أن تخط بالدم ولتكون شاهد على تسطير وخط هذه الأفكار وكيف بأمامنا روحي له الفداء وهو أبو الأحرار وسيد الثائرين وأمامهم الذين يتعلمون منه الثائرين مبادئهم وعلى مدى التاريخ وهو يطلب الإصلاح في أمة جده التي بدأت تنحى منحى الجاهلية الأولى والتي أراد أن يسيروها بنو أمية ومن قبل كل أئمة الكفر والشرك والطاغوت وهناك كان لا بد من وجود أمام وقائد يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويقم حدود الله التي عطلها يزيد وأبيه وجده وبنو أمية (لعنة الله عليهم أجمعين) .
فسار للشهادة بنفس مقدامة كرار غير فرار كأبيه وبكل إباء وشموخ لا يهادن مع الباطل وليسطر بأحرف من نور تلك الملاحم الخالدة في سفر واقعة الطف ضد كل الأقزام الذين كل معاني الحقد والظلم والغدر والكره لآل بيت النبوة.
فهذه أخلاق أولاد علي وشمائل أهل بيت النبوة وسقط هذا البطل وفي الرمق الأخير سلم على والده وقال له بعد أن غلب به العطش أن جدي رسول الله قد سقاني شربة من حوضه الكوثر ويسلم عليك والذي قال عنه أبوه(ع) : {اللهم لقد خرج إليهم أشبه الناس خَلقاً وخُلَّقاً برسول وكنا إذا أن نشتاق إلى رؤية رسول الله فننظر إلى وجهه}فما أعظم الجرم الذي أرتكبوة هؤلاء الكفرة الطواغيت.
وهنا وصل الأمام الحسين(عليه السلام وركب المنايا إلى العراق ولقي الحر والذي بأمر يزيد وأبن مرجانة(عليهم لعائن الله) قد أمروه بأن يجعجع بالحسين وركبه إلى كربلاء وهذا ما سنتناوله في جزئنا القادم إن شاء الله إن كان لنا في العمر بقية.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر :
1 ـ وقد نُقلت هذه الخطبة في الكثير من الكتب ، ومن جملتها «اللهوف» ص 60 ، وكتاب «نفس المهموم» ص 100 ؛ كما وردت في «مقتل الخوارزميّ» ج 2 ، ص 5 و 6 ، ولكن ورد فيه : وما أولعني بالشوق إلي أسلافي ، وأيضاً : كأنّي أنظر إلي أوصالي تقطّعها وحوش الفلوات غُبْراً وعَفْراً ، ولم يرد في هذا النقل جملة مَنْ كَانَ فِينَا بَاذِلاً مُهْجَتَهُ إلي آخر الخطبة .
كما وردت في «كشف الغمّة» ص 184 طبقاً لعبارة «اللهوف» ؛ ورواها في «ملحقات إحقاق الحقّ» ج 11 ، ص 598 ، عن«مقتل الخوارزميّ» إلي جملة وَيُنْجَزُ لَهُمْ وَعْدُهُ ؛ كما أوردها عنالعلاّمة المدوخ في كتاب «العدل الشاهد» ص 95 طبقاً لعبارة «اللهوف»
2 ـ (التصوير الفني في خطب المسيرة الحسينية / 78).
3 ـ المواكب الحسينيّة وتوحيد المسيرات العزائيّة في العالم. تأليف : الشيخ مكّي فاضل حسن.شبكة الأمامين الحسنين(عليهما) للتراث والفكر والإسلامي.
4 ـ كتاب نهضة الحسين (عليه السلام) (لـ هبة الدين الحسيني الشهرستاني). ص 94.
5 ـ (تأملات في زيارة وارث / 157).
6 ـ تأملات بلاغية في خطب الإمام الحسين عليه السلام قبل خروجه من مكة.بحث للدكتور عبد الكاظم الياسري. على موقع العتبة الحسينية المقدسة.
7 ـ الحُسَين (ع) أبو الشّهداء .عبّاس محمود العقّاد. منشورات الشّريف الرّضي شبكة الأمامين الحسنين(عليهما السلام للفكر والتراث الإسلامي ص 137.
8 ـ ابن كثير في ج8 ص 180. الإرشاد ج 2 ص 67 ، بحار الأنوار ج40ب37ص365 الارشاد 218 ، نفس المهموم 91.
9 ـ كتاب نهضة الحسين (عليه السلام) (لـ هبة الدين الحسيني الشهرستاني) ص 94. الارشاد 223. بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ص 460.
10 ـ كتاب نهضة الحسين (عليه السلام) (لـ هبة الدين الحسيني الشهرستاني) ص 94.
11 ـ معجم البلدان - 2 : 49
12 ـ معجم البلدان :شهاب الدين ياقوت الحموي (626هـ) ط8، 2010م، دار صادر بيروت ـ لبنان، 3 / 412.
13 ـ معجم المصطلحات والالفاظ الفقهية: 2محمود عبد الرحمن عبد المنعم، دار الفضيلة للنشر والتوزيع، القاهرة ـ مصر / 99
14 ـ مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة :للشيخ محمد جواد الطبسي، ط4، 1433هـ، دار المرتضى، بيروت ـ لبنان 3 / 192
15 ـ مثير الاحزان : أبن نما الحلي، تحقيق معين الحيدري، ط1، 2012هـ، دار المنتظر، بيروت ـ لبنان، ص121
16 ـ معجم البلدان : الحموي ، 2 / 370
17 ـ أعيان الشيعة : السيد محسن الامين (1371هـ) تحقيق حسن الامين، دار التعارف للمطبوعات، بيروت ـ لبنان، 1 / 595
18 ـ البداية والنهاية : ابن كثير الدمشقي، 8 / 182
19 ـ ظ:الاخبار الطوال : لاحمد بن داود الدينوري (282هـ) ط2، 2012م، دار الكتب العلمية، بيروت ـ لبنان،247
20 ـ معجم البلدان : 2 / 78.
21 ـ الإرشاد : 2 / 74.
22 ـ ظ: الفتوح : احمد بن اعثم الكوفي، ط1، 1411هـ، دار الاضواء لطباعة والنشر، بيروت ـ لبنان، 4/ 30.
23 ـ تاريخ الامم والملوك: الطبري، 4 / 370.
24 ـ المجالس الفاخرة في مجالس العترة الطاهرة : السيد شرف الدين الموسوي،(1377هـ)ط1،1421هـ، المعارف الاسلامية قم ـ ابران ص 223.
25 ـ جواهر البحارص380 . والإرشاد ص209.
https://telegram.me/buratha