خطبة النعمان :
وأعطى النعمان للشيعة قوة في ترتيب الثورة وتنظيما، وهيا لهم الفرص في إحكام قواعدها مما ساء الحزب الأموي، فأنكروا عليه ذلك ، وحرضوه على ضرب الشيعة فخرج النعمان، وصعد المنبر فاعلن للناس سياسته المتسمة بالرفق، فقال بعد حمد الله والثناء عليه .
" أما بعد :
فاتقوا الله عباد الله، ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة فان فيها تهلك الرجال وتسفك الدماء، وتغضب الأموال.
إني لم اقائل من لم يقاتلني، ولا أثب على من لا يثب علي، ولا اشاتمكم، ولا اتحرش بكم، ولا آخذ بالقرف (1)ولا الظنة ولا التهمة، ولكنكم إن أبديتم صفحتكم لي، ونكثتم بيعتكم، وخالفتم إمامكم فو الله الذي لا إله إلا هو لاضربنكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن منكم ناصر ، أما إني أرجو أن يكون من يعرف الحق منكم اكثر ممن يرديه الباطل ".(2)
وليس في هذا الخطاب أي ركون إلى وسائل العنف والشدة، وانما كان فيه تحذير من مغبة الفتنة وحب للعافية، وعدم التعرض لمن لا يثب على السلطة، وعدم أخذ الناس بالظنة والتهمة كما كان يفعل زياد بن أبيه والي العراق، وعلق انيس زكريا على خطاب النعمان بقوله :
" ولنا من خطبه - أي خطب النعمان - في الكوفة برهان آخر على أنه كان يرى الفتنة يقظى، ولا بد أن تشتعل، وانه لن يهاجم القائمين بها قبل أن يهاجموه، فجعل لأنصارها قوة وطيدة الأركان، ويدا فعالة في ترتيب المؤامرة وتنظيمها على الاسس المتينة ".(3)
وهذا دليل أن النعمان بن بشير كان ناقم على يزيد ولا يقبل بأمارته بالرغم أنه مبغض لآل علي وهو يعطي الدليل تلو الآخر في أن بيعة يزيد بيعة غير شرعية وإنما تمت تحت الأسلوب الماكر لمعاوية(لعنه الله) وتحت أسلوب الترغيب والترهيب وحتى سم الخصوم ومقولته المشهورة عندما يسم خصومه يقول(أن لله جنوداً من عسل).
ومن هنا بدأ الحزب الأموي بالتحرك ولم يقبل بهذا الوضع ودعوة الطاغية يزيد بالتحرك لأعادة الأمور نصابها في الكوفة وكتبوا برسالة إلى يزيد(لعنه الله) فحواها :
" أما بعد :
فان مسلم بن عقيل، قدم الكوفة، وبايعته الشيعة للحسين بن علي، فان كان لك بالكوفة حاجة فابعث إليها رجلا قويا ينفذ أمرك، ويعمل مثل عملك في عدوك فان النعمان بن بشير رجل ضعيف أو هو يتضعف."
وتدعو هذه الرسالة الى إقصاء النعمان عن مركزه، واستعمال شخص آخر مكانه قوي البطش ليتمكن من القضاء على الثورة، فان النعمان لا يصلح للقضاء عليها، كتب إليه بمثل ذلك عمارة بن الوليد بن عقبة وعمر ابن سعد .
وفزع يزيد من هذا الأمر ويظل يفكر بالأمر حتى جفاه النوم والذي يعني ضياع ملكه وهو يعلم أن في الكوفة يكرهون أبيه والكره الأكثر له وهذا يعني استقلال العراق والخلاص من تبعته وضياع أهم أمصاره درة التاج الأموي والتي بأمنها تستتب باقي الأمصار كما انه على يقين إن الأغلبية الساحقة في العالم الإسلامي تتعطش لحكم الامام الحسين لانه المثل الشرعي لجده وأبيه، ولا يرضون بغيره بديلا .
استشارته لسرجون :
وأحاطت الهواجس بيزيد، وشعر بالخطر الذي يهدد ملكه فاستدعى سرجون الرومي، وكان مستودع أسرار أبيه، ومن إدهى الناس، فعرض عليه الأمر، وقال له :
" ما رايك ان حسينا قد توجه إلى الكوفة، ومسلم بن عقيل بالكوفة يبايع للحسين، وقد بلغني عن النعمان ضعف وقول سئ، فما ترى من استعمل على الكوفة ؟ " .
وتامل سرجون، واخذ يطيل التفكير فقال له :
" أرايت أن معاوية لو نشر أكنت آخذا رأيه ؟ " فقال يزيد :
نعم .
فاخرج سرجون عهد معاوية لعبيد الله بن زياد على الكوفة، وقال :
" هذا راي معاوية وقد مات، وقد أمر بهذا الكتاب " أما دوافع سرجون في ترشيح ابن زياد لولاية الكوفة فهي لا تخلو من أمرين :
1 - إنه يعرف قسوة ابن زياد وبطشه وأنه لا يقوى أحد على إخضاع العراق غيره فهو الذي يتمكن من القضاء على الثورة بما يملك من وسائل الارهاب والعنف .
2 - انه قد دفعته العصبية القومية لهذا الترشيح فان ابن زياد رومي.(4)
ولغرض عدم الأطالة وبيان المهم أخذ يزيد برأي مستشاره سرجون وبالرغم من بغضه إليه لأنه كان من المعارضين لتولية يزيد الحكم في زمن معاوية وقد كتب إليه برسالة يوليه فيها الكوفة والبصرة ليصبح بيده حكم العراق كله وهذا نصها :
"أمّا بعد ، فإنّه كتب إليّ شيعتي مِنْ أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابن عقيل بالكوفة يجمع الجموع لشقّ عصا المسلمين ، فسرْ حين تقرأ كتابي هذا حتّى تأتي الكوفة فتطلب ابن عقيل كطلب الخرزة حتّى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه ، والسّلام".(5)
وأشارت هذه الرسالة إلى مدى قلق السلطة في دمشق وفزعها مِنْ مسلم بن عقيل ، وقد شدّدت على ابن زياد في الإسراع بالسفر إلى الكوفة لإلقاء القبض عليه .
وتنصّ بعض المصادر أنّ يزيد كتب إلى ابن زياد : إنْ كان لك جناحان فطر إلى الكوفة(6)، وهذا ممّا ينبئ عن الخوف الذي ألمّ بيزيد مِنْ الثورة في العراق . وحمل مسلم بن عمرو الباهلي العهد لابن زياد بولاية الكوفة مع تلك الرسالة .
ويقول المؤرّخون : إنّ الباهلي كان مِنْ عيون بني اُميّة في الكوفة ومِنْ أهمّ عملائهم ، كما كان مِنْ أجلاف العرب ، وهو الذي ضنّ على مسلم أنْ يشرب جرعة مِن الماء حينما جيء به أسيراً إلى ابن زياد .
ولنرى ماذا يقول المرحوم العلامة باقر القرشي حول هذه الشخصية المجرمة :
"وتسلّم ابن زياد مِن الباهلي العهد له بولاية الكوفة وقد طار فرحاً ؛ فقد تمّ له الحكم على جميع أنحاء العراق بعد ما كان مهدّداً بالعزل عن ولاية البصرة ، وقد سرّ ما خولته دمشق مِن الحكم المطلق على العراق .
وبما سوّغت له مِن استعمال الشدّة والقسوة وسفك الدماء لكلّ مَنْ لا يدخل في طاعة يزيد أو يشترك بأيّة مؤامرة ضدّه ، وكان هذا التفويض المطلق في استعمال القسوة على الناس ممّا يتّفق مع رغبات ابن زياد وميوله ؛ فقد كان مِنْ عوامل استمتاعاته النفسية حبّ الجريمة والإساءة إلى الناس ، وعدم التردّد في سفك الدماء".
وهو مجرم من الدرجة الأولى وأبن بغي أي أبن زنا وهو معروف لأن أبيه كان يكنى زياد أبن أبيه للدلالة على نسبه الحرام حيث جدته سمية وهي من الرايات الحمر وقد واقعها أبو سفيان(لعنه الله) وواقعها عدة رجال لتنجب زياد الذي أدعت أنه من أبو سفيان وهذه عادة بنو أمية في أنهم يلحقون غلمانهم وأبناء الحرام إليهم. وحتى مرجانة هي :
" مرجانة بنت نوف وهي امة لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت كان يصلها سفاحا العديد من الرجال من بينهم زياد ابن أبيه فباعها عبد الرحمن وهي حامل من الزنا , فولدت عبدين هما عباد وعبيد الله ابنا مرجانة لا يعرف لهما أب , فاستدعاهما زياد واستلحقهما به . فكان عباد والي سجستان زمن معاوية و عبيد الله بن زياد واليا على البصرة, حيث يبدو إن امة العرب قد خلت من الإشراف لتنصيبهم في هكذا مناصب, فلم يبق إلا أولاد الزنا ولكن الطيور على إشكالها تقع فرجل كمعاوية لا يمكنه استعمال رجل ذو فضيلة. وبعد ان كان عبيد الله ابن زياد واليا على البصرة زمن معاوية ولاه يزيد الكوفة حيث قاتل الإمام الحسين (ر)حفيد نبي الأمة, حيث خاطبه الإمام بالدعي ابن الدعي .
وقيل للحسن البصري : يا ابا سعيد قتل الحسين بن علي, فبكى حتى اختلج جنباه ثم قال ( واذلاه لامة قتل ابن دعيها ابن بنت نبيها )..(7)
فأذن تولى أبن مرجانة حكم الكوفة وهو أبن زنى وكل من شاركوا في واقعة الطف هم على نفس الشاكلة وأسرع في الذهاب إلى الكوفة ليحكم قبضته وكان في الكوفة أربعة الاف شامي استلحقهم إليه من كما يعبرون عنه كتاب السلاطين والهوى الأموي هم من جند الله والذين لايعرفون الناقة من الجمل. وقد أسرع في السير إلى الكوفة قبل وصول الأمام الحسين ودخوله إليها وقبل الدخول إلى الكوفة وفي القادسية ونزل الطاغية فلبس ثياباً يمانية وعمامة سوداء وتلثّم ؛ ليوهم مَنْ رآه أنّه الحُسين ، وسار وحده فدخل الكوفة ممّا يلي النجف(8)، وكان قلبه كجناح طائر مِنْ شدّة الخوف ، ولو كانت عنده مسكة مِن البسالة والشجاعة لما تنكّر وغيّر بزّته وأوهم على الناس أنّه الحُسين .
وقد تذرّع الجبان بهذه الوسائل لحماية نفسه ، وتنصّ بعض المصادر أنّه حبس نفسه عن الكلام خوفاً مِنْ أنْ يعرفه الناس فتأخذه سيوفهم.
وأستبد الفزع بابن مرجانة وذهب فرراً إلى قصر الأمارة وكان مغلقاً بوجه أهل الكوفة خوفاً من احتلاله وللنكتة نقرأ مايقوله المرحوم العلامة باقر القرشي والتي تمثل أول بدايات النكوص عن الأمام الحسين(ع) وخيانته من قبل أهل الكوفة حيث يقول :
"ومِن الغريب أنّ ذلك المجتمع لمْ يُميّز بين الإمام الحُسين وبين ابن مرجانة ، مع أنّ كلاً منهما قد عاش فترة في ديارهم ؛ ولعلّ الذي أوقعهم في ذلك تغيير ابن زياد لبزّته ولبسه للعمامة السوداء .
وعلى أيّ حالٍ ، فإنّ الناس حينما علموا إنّه ابن زياد جفلوا وخفّوا مسرعين إلى دورهم وهم يتحدّثون عمّا عانوه مِن الظلم والجور أيّام أبيه ، وقد أوجسوا مِنْ عبيد الله الشرّ .
وبادر ابن زياد في ليلته فاستولى على المال والسّلاح ، وأنفق ليله ساهراً قد جمع حوله عملاء الحكم الاُموي ، فأخذوا يحدّثونه عن الثورة ويعرّفونه بأعضائها البارزين ، ويضعون معه المخططات للقضاء عليها".(9)
وبدأ أبن زياد بنشر الإرهاب في أهل الكوفة فعمد إلى القتل في أهل الكوفة لأخافتهم ونشر الرعب بينهم وصال وأرعد ويهدد ويتوعد وصرف الناس عن نهضة الحسين وسد منافذ الكوفة بالأربعة الاف من جند الشام لمنع أهل الكوفة من الالتحاق بركب الحسين وفي اليوم الثاني أمر بجمع الناس في المسجد وخرج إليهم بزي غير ما كان يخرج به ، فخطب فيهم خطاباً عنيفاً تهدّد فيه وتوعّد ، فقد قال بعد حمد الله والثناء عليه : أمّا بعد ، فإنّه لا يصلح هذا الأمر إلاّ في شدّة مِنْ غير عنف ولين مِنْ غير ضعف ، وأنْ أخذ البريء بالسقيم , والشاهد بالغائب , والولي بالولي .
فانبرى إليه رجل مِنْ أهل الكوفة يُقال له : أسد بن عبد الله المرّي فردّ عليه : أيّها الأمير ، إنّ الله تبارك وتعالى يقول : ( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) ، إنّما المرء بجدّه ، والسيف بحدّه , والفرس بشدّه ، وعليك أنْ تقول وعلينا أنْ نسمع ، فلا تقدّم فينا السيئة قبل الحسنة .
وأُفحم ابن زياد فنزل عن المنبر ودخل قصر الإمارة.(10)
المهم ولعدم الإطالة بدأت بوادر الجبن والخذلان من أهل الكوفة وأخذ أبن زياد بجمع رجاله من الحزب الأموي والخونة من أمثال المجرمين الشمر بن ذي الجوشن وحجار بن والأشعث بن قيس وغيرهم ممن ذكرناهم في رسالتهم التي أرسلوها إلى الأمام الحسين(ع) بالقدوم إليهم وأنهم جنود مجندة ولكن هذا هو حال الناس والخونة وأنهم والذين وصفهم الأمام الحسين يوم عاشوراء بقوله { إنّ الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم ، يحوطونه ما درّت معائشهم ، فإذا مُحّصوا بالبلاء قلّ الدّيّانون }.(11)
ووقام مسلم بن عقيل بالانتقال من دار المختار الثقفي إلى دار هانئ بن عروة وهانئ بن عروة المرادي هو زعيم هذا المصر وعندما يسير كان يسير معه أربعة الاف دارع ومع من تحالفوا معه ليصبح العدد ثلاثين ألف وكان سيد قومه والكوفة ونزل عنده وقد لقى كل الترحاب والحفاوة مع العلم أن بعض مزوري التاريخ يقولون غير ذلك ولكن لننظر ماذا يقول العلامة المرحوم الشيخ باقر القرشي :
" والذي نراه أنّه لا صحة لذلك ؛ فإنّ مسلماً لو شعر منه عدم الرضا والقبول لما ركن إليه ، وتحرّج كأشدّ ما يكون التحرّج من دخول داره ؛ وذلك لما توفّرت في مسلم مِن الطاقات التربوية الدينية ، وما عُرِفَ به مِن الشمم والإباء الذي يبعده كلّ البعد من سلوك أيّ طريق فيه حرج أو تكلّف على الناس .وبالإضافة إلى ذلك ، فإنّ مسلماً لو لمْ يحرز منه التجاوب التام والإيمان الخالص بدعوته لما التجأ إليه في تلك الفترة العصبية التي تحيط به .إنّ مِن المؤكد أنّ هانياً لمْ يستجب لحماية مسلم والدفاع عنه على كره أو حياء ، وإنّما استجاب له عن رضى وإيمان يوحي مِنْ دينه وعقيدته .وعلى أيّ حالٍ فقد استقر مسلم في دار هانئ واتّخذها مقرّاً للثورة ، وقد أحنف(12) به هانئ ودعا القبائل لمبايعته ، فبايعه في منزله ثمانية عشر ألفاً ،وقد عرف مسلم هانئاً بشؤون الثورة وأحاطه علماً بدُعاتها وأعضائها البارزين.(13)
وقد كانت أول بادرة من الطاغية أبن مرجانة له هي التجسس على مسلم بن عقيل وقد قام بها مولاه من الشام وأسمه معقل وكان بارعاً في الجاسوسية وقد ادعى أنه من الموالي والصفة المعروفة عن الموالي حب أهل البيت وقد تزلف وتقرب من قادة الثورة ومنهم مسلم بن عوسجة ليصل إلى مسلم بن عقيل وقد نجح وصار العين الرقيبة لأبن مرجانة وكان معقل ـ فيما يقول المؤرّخون ـ أوّل مَنْ يدخل على مسلم وآخر مَنْ يخرج منه ، وجميع البوادر والأحداث التي تصدر ينقلها بتحفّظ في المساء إلى ابن زياد(14)حتى وقف على جميع أسرار الثورة.
وهذا الخطأ كان يحسب على قادة الثورة فهم عرفوا أن معقلاً شامياً وكان من المفروض الحذر منه وعدم الركون لأن أهل الشام ولائهم لبنو أمية وهو معروف لدى العرب ومامعنى المكوث الطويل في دار هانئ وهو حديث بيعة لهم والمفروض أن يدخل الريبة في أنصار مسلم والتوجس من هذا التصرف. وعلى أيّ حالٍ ، فإنّ ابن زياد قد استفاد مِنْ عملية التجسس لمعرفة أموراً بالغة الخطورة .
فقد عرف العناصر الفعالة في الثورة ، وعرف مواطن الضعف فيها ، وغير ذلك مِن الاُمور التي ساعدته على التغلّب على الأحداث .
رشوة الزعماء والوجوه :
ووقف ابن زياد على نبض الكوفة وعرف كيف يستدرج أهلها ، فبادر إلى إرشاء الوجوه والزعماء ، فبذل لهم المال بسخاء فاستمال ودّهم واستولى على قلوبهم ، فصارت ألسنتهم تكيل له المدح والثناء ، وكانوا ساعده القوي في تشتيت شمل الناس وتفريق جموعهم عن مسلم .
لقد استعبدهم ابن مرجانة بما بذله مِن الأموال فأخلصوا له ومنحوه النصيحة ، وخانوا بعهودهم ومواثيقهم التي أعطوها لمسلم ، وقد أخبر بعض أهل الكوفة الإمام عن هذه الظاهرة حينما التقى به في أثناء الطريق ، فقال له : أمّا أشراف الناس فقد عظمت رشوتهم ومُلئت غرائرهم ، يُستمال ودّهم ويُستخلص به نصيحتهم ، وأمّا سائر الناس فإنّ أفئدتهم تهوى إليك ، وسيوفهم غداً مشهورة عليك.(15)
لقد تناسى الكوفيّون كتبهم التي أرسلوها للإمام (عليه السّلام) وبيعتهم له على يد سفيره ؛ مِنْ أجل الأموال التي أغدقتها عليهم السلطة .
يقول بعض الكتّاب : إنّ الجماعات التي أقامها النكير على بني اُميّة وراسلت الحُسين ، وأكّدت له إخلاصها وذرفت أمام مسلم أعزّ دموعها ، هي الجماعات التي ابتاعها عبيد الله بن زياد بالدرهم والدينار ، وقد ابتاعها فيما بعد مصعب ابن الزّبير فتخلّوا عن المختار وتركوه وحيداً يلقى حتفه ، ثمّ اشتراها الخليفة الاُموي عبد الملك بن مروان فتخلّوا عن مصعب وتركوه يلقى مصيره على يد عبد الملك بن مروان.(16)
وبدأت عملية الخيانة ووبدأت كل هذه الجموع بالانسحاب الواحدة بعد الأخرى وعندما أعتقل هانيء بخيانة من وجوه الكوفة والذين أعطوه الأمان لمقابلة أبن زياد وذهب وهناك أعتقله ليعدمه مع مسلم المهم بعد اعتقال هانئ أعلن الثورة مسلم بن عقيل وقام معه بأربعة إلف فارس أو أربعون ألفاً(17)وهم ينادون بشعار المسلمين يوم البدر : يا منصور أمت.(18)
وأحاطوا بقصر الأمارة وكان اللعين أبن مرجانة يخطب على أعواد المنبر وما أتمّ الطاغية خطابه حتّى سمع الضجّة وأصوات الناس قد علت ، فسأل عن ذلك فقيل له : الحذر الحذر ، هذا مسلم بن عقيل قد أقبل في جميع مَنْ بايعه .
واختطف الرعب لونه وسرت الرعدة بجميع أوصاله ، فأسرع الجبان نحو القصر وهو يلهث مِنْ شدّة الخوف فدخل القصر وأغلق عليه أبوابه، وامتلأ المسجد والسوق مِن أصحاب مسلم وضاقت الدنيا على ابن زياد وأيقن بالهلاك ؛ إذ لمْ تكن عنده قوّة تحميه سوى ثلاثين رجلاً مِن الشرطة وعشرين رجلاً مِن الأشراف الذين هم مِنْ عملائه. وقد تزايد جيش مسلم حتّى بلغ فيما يقول بعض المؤرّخون ثمانية عشر ألفاً وقد نشروا الأعلام وشهروا السيوف ، وقد ارتفعت أصواتهم بقذف ابن زياد وشتمه وجرى بين إتباع ابن زياد وبين جيش مسلم قتال شديد ، كما نصّ على ذلك بعض المؤرّخين .
وأمعن الطاغية في أقرب الوسائل التي تمكّنه مِنْ إنقاذ حكومته مِن الثورة ، فرأى أنْ لا طريق له سوى حرب الأعصاب ودعايات الإرهاب فسلك ذلك .(19)
وحرب الإشاعات هذه والتي أبتكرها هذا الملعون أبن مرجانة لأن بنو أمية أول من ابتكروا الطرق في القتل وإخافة وبث الرعب بين الناس حيث من المعلوم أن صنيعتهم الطاغية الحجاج بن يوسف حيث يشهد له التاريخ هو أول من فرض حظر التجول على المدن حيث لم يكن معروفاً لدى العرب وكذلك إنشاء قوة من نظام العسس وجعل ارتباطها بالحجاج(لعنه الله) وللطرفة أن مجرمي داعش يسمون جواسيسهم الذين يراقبون الناس في المناطق التي يحتلونها بالعسس في وقتنا الحاضر وهذا يثبت أنهم وبلا منازع أحفاد أولئك المجرمين والطغاة من بنو أمية وبني العباس ومن لف لفهم.
وانطلق إتباع الطاغية من أمثال كثير بن شهاب وشمر بن ذي الجوشن وشبث بن ربعي إلى صفوف جيش مسلم فأخذوا يشيعون الخوف ويبثّون الأراجيف فيهم ، ويظهرون لهم الإخلاص والولاء خوفاً عليهم عن جيوش أهل الشام .
فكان ما قاله كثير بن شهاب : أيّها الناس ، الحقوا بأهاليكم ولا تعجلوا الشرّ ولا تعرّضوا أنفسكم للقتل ، فإنّ هذه جنود أمير المؤمنين ـ يعني يزيد ـ قد أقبلت ، وقد أعطى الله الأمير ـ يعني ابن زياد ـ العهد لئن أقمتم على حربه ولمْ تنصرفوا مِنْ عشيتكم أنْ يحرمَ ذريتكم العطاء ، ويفرّق مقاتلكم في مغازي أهل الشام مِنْ غير طمع ، وأنْ يأخذَ البريء بالسقيم والشاهد بالغائب حتّى لا تبقى فيكم بقيّة مِنْ أهل المعصية إلاّ ذاقها وبال ما جرت أيديها.(20)
وكان هذا التهديد كالصاعقة على رؤوس أهل الكوفة ؛ فقد كان يحمل ألواناً قاسية مِن الإرهاب ، وهي :
أ ـ التهديد بجيوش أهل الشام : فقد زحفت إليهم ، وهي ستشيع فيهم القتل والتنكيل إنْ بقوا مصرّين على المعصية والعناد .
ب ـ حرمانهم مِن العطاء : وقد كانت الكوفة حامية عسكرية تتلّقى جميع مواردها الاقتصادية مِن الدولة .
ج ـ تجميرهم في مغازي أهل الشام : وزجّهم في ساحات الحروب.
د ـ إنّهم إذا أصروا على التمرّد فإنّ ابن زياد سيعلن الأحكام العرفية ويسوسهم بسياسة أبيه التي تحمل شارات الموت والدمار حتّى يقضي على جميع ألوان الشغب والعصيان .
وقام بقيّة عملاء السلطة بنشر الإرهاب وإذاعة الذعر ، وكان مِنْ جملة ما أذاعوه بين الناس : يا أهل الكوفة ، اتّقوا الله ولا تستعجلوا الفتنة ولا تشقّوا عصا هذه الاُمّة، ولا توردوا على أنفسكم خيول الشام فقد ذقتموها وجربتم شوكتها.
وسرت أوبئة الخوف والفزع في نفوس الكوفيين وانهارت أعصابهم وكان الموت قد خيّم عليهم ، فجعل بعضهم يقول لبعض : ما نصنع بتعجيل الفتنة وغداً تأتينا جموع أهل الشام ، ينبغي لنا أنْ نقيم في منازلنا وندع هؤلاء القوم حتّى يصلح الله ذات بينهم.(21)
وكانت المرأة تأتي ابنها أو أخاها أو زوجها وهي مصفرّة الوجه مِن الخوف فتتوسّل إليه قائلة : الناس يكفونك.(22)
وكان الرجل يأتي إلى ولده وأخيه فيملأ قلبه رعباً وخوفاً ، وقد نجح ابن زياد في ذلك إلى حدّ بعيد ، فقد تغلّب على الأحداث وسيطر على الموقف سيطرة تامّة ، وقد خلع الكوفيون ما كانوا يرتدونه مِنْ ثياب التمرّد على بني اُميّة ولبسوا ثياب الذلّ والعبودية ؛ مِنْ جراء ذلك الإرهاب الهائل والقسوة في الحكم ، فكانت الدماء تنرقرق بين العمائم واللحى.(23)
وفي جزئنا القادم سوف نستكمل مسيرة الشهادة لسيدي ومولاي أبي عبد الله الحسين(عليه السلام) وبدأ تحرك ركب المنايا إلى أرض كربلاء أن شاء الله إن كان لنا في العمر بقية.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالمصادر :
1 ـ القرف : التهمة .
2 ـ تاريخ ابن الاثير 3 / 267.
3 ـ الدولة الاموية في الشام (ص 41) .
4ـ كتاب حياةُ الإمام الحُسين بن علي (عليهما السّلام)دراسة وتحليل ـ 2 ـ باقر شريف القرشي.2 :352 ،353
5 ـ كتاب حياةُ الإمام الحُسين بن علي (عليهما السّلام)دراسة وتحليل ـ 2 ـ باقر شريف القرشي.2 :355.
6 ـ سير أعلام النبلاء 3 / 201.
7 ـ مقال للكاتب المصري اسامة انور عكاشة لتعرفوا (ياعرب من هم أولاد الزنا ، ويستمر البغاء في إنتاج رجال الرذيلة ليكونوا سادةالعرب ). جريدة البينة الجديدة العراقية ذي العدد (1005) في (1/3/2010).
8 ـ مقتل الحُسين ـ المقرم / 165.
9 ـ كتاب حياةُ الإمام الحُسين بن علي (عليهما السّلام)دراسة وتحليل ـ 2 ـ باقر شريف القرشي.2 :358.
10 ـ الفتوح 5 / 67 .
11 ـ بحار الأنوار ( الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار ( عليهم السلام ) ) : 44 / 382 ، للعلامة الشيخ محمد باقر المجلسي . طبعة مؤسسة الوفاء ، بيروت / لبنان ، سنة : 1414 هجرية .جواهر البحار الجزء الخامس والسبعون كتاب الروضة باب مواعظ الحسين بن أمير المؤمنين صلوات الله عليهما ص117 التحف ص245
12 ـ هكذا وردت مفردة (أحنف) ، ولعلها (احتفّ) . (موقع معهد الإمامين الحسنين) .
13 ـ كتاب حياةُ الإمام الحُسين بن علي (عليهما السّلام)دراسة وتحليل ـ 2 ـ باقر شريف القرشي.2 :362.
14 ـ الأخبار الطوال / 215.
15 ـ تاريخ الطبري 6 / 233 .
16 ـ المختار الثقفي مرآة العصر الاُموي / 69 ـ 70.
17 ـ تهذيب التهذيب 2 / 351 ، تذهيب التهذيب 1 / 150 ـ الذهبي مِنْ مصوّرات مكتبة الإمام أمير المؤمنين .
18 ـ هذا الشعار فيه تحريض للجيش على الموت في الحرب للتغلب على الأعداء ، وفيه تفاؤل بالنصر
19 ـ كتاب حياةُ الإمام الحُسين بن علي (عليهما السّلام)دراسة وتحليل ـ 2 ـ باقر شريف القرشي.2 :382.
20 ـ تاريخ الطبري 6 / 208 .
21 ـ الفتوح 5 / 87 .
22 ـ تاريخ أبي الفداء 1 / 300 ، تاريخ ابن الأثير 3 / 272 .
23 ـ كتاب حياةُ الإمام الحُسين بن علي (عليهما السّلام)دراسة وتحليل ـ 2 ـ باقر شريف القرشي.2 :384.
https://telegram.me/buratha