المقالات

موقع الشيعة في الشرق الأوسط الأمريكي الجديد: الجزء الأول

1844 21:41:00 2006-09-10

( بقلم: د. حامد العطية )

امتدت أيدي التحريف والطمس والعبث لنسخة التوراة المتداولة لدى اليهود، فأخفت منها قراطيس وحورت أسفاراً، ومن السفاهات الواردة فيها القول بأن البشر مخلوقون على صورة رب اليهود، أي على صفاته الجسمانية، تعالى الله عما يصفون، وعندما تصرح حكومة أمريكا بعزمها على إعادة هندسة أو خلق العالم على صورتها، فإنها تعلن جهاراً، بأنها الرب الأعلى، وبالتالي تقترف أعظم خطيئة في عرف البشر، وهي التشبه بالله، وإدعاء الربوبية والقدرة على الخلق وإعادة التكوين، وكان الرومان والأغريق القدماء يؤمنون بأن هذا التطاول أو الكفر الصريح hubris  مدعاة لنزول السخط الرباني على مقترفه، الذي غالباً ما يمسخ إلى مخلوق منحط، كمسخ الله بعض اليهود قردة وخنازير. 

تدعي أمريكا بأنها تطمح إلى إقامة شرق أوسط جديد على أنقاض الشرق الأوسط الحالي الذي يشمل معظم الدول العربية وإيران الإسلامية، ويرسم الساسة الأمريكان صورة براقة للنظام المراد تكوينه، إنه نموذج مثالي آخر، شانكريلا أرضية يبتدعونها بعد أن سأمت البشرية من نماذج الأرض الموعودة وانصرفت عن اللهاث وراء الجنات الأرضية، ولكن الأمريكان يعانون من عقم فكري مزمن، ومن تخلف ثقافي يعيقهم من اللحاق بالركب الفكري المتقدم لبني البشر، مما يجعلهم مقلدين وتابعين دائماً، يقفون آخر المصطفين في سجل الفكر الإنساني، لذا ابتدعوا جمهوريتهم المثالية الموعودة بعد ما ينيف على عشرين قرناً من جمهورية أفلاطون وعشرة قرون من المدينة الفاضلة للفارابي, وبعد أن تهاوى الفردوس الأممي الشيوعي ليكتشف الناس  بأنه خاو فيما عدا جدار مرتفع وأسلاك شائكة، فألحقوه بالرايخ الآري الذي كان النازيون يأملون بأن يعمر ألف سنة، ولم يكن نظام موسوليني "المثالي" في فاشيته أفضل حظاً منه في البقاء.

من منا لا يرغب بالعيش في فيء التعددية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والتطور الاقتصادي، ولكن بشرط عدم التفريط بالهوية الحضارية والدينية والثقافية التي نتميز بها،  فهل الأمريكان مخلصون وجادون فعلاً في مسعاهم لاصلاح البشرية أم إنها مجرد ستار من الشعارات الزائفة يخفون وراءه مكرهم القديم الهادف للحفاظ على مصالحهم وسعيهم المحموم لإخضاع المتمردين على هيمنتهم العالمية في المنطقة، بعد أن أذعن الجميع لمشيئتهم في إعادة تشكيل المجتمعات والنظم البشرية على صورة الطريقة الأمريكية، وهم أساساً لم يتركوا للآخرين سوى خياران: أما أن تكون مع أمريكا أو ضدها.

يجمع الساسة وخبراء العلاقات الدولية في الغرب بأن الهدف الأساسي للسياسات الخارجية هو تحقيق المصالح الوطنية، وكل ما عدا ذلك من أغراض يصب بصورة مباشرة أو غير مباشرة في الهدف الأساس، أو أنه محض ترويج وواجهات براقة للمصالح والأطماع، واستنتاجاً على ذلك يكون هدف أمريكا من إنشاء شرق أوسط جديد هو تحقيق مصالحها، والسؤال المنطقي الذي ينبغي طرحه هنا: هل يمكن أن تتطابق مصالحها مع مصالحنا؟ وبالتالي فلو شاركنا بإخلاص وحماس في تطبيق مشروعها فستجني هي ثماره النفطية سهلة القطاف وبثمن معقول، ونحصد نحن خيرات الديمقراطية ومحاصيل حقوق الإنسان وأعذاق التنمية المستديمة، وقد شهدنا في السنوات القليلة الماضية تنامي أعداد المؤيدين لهذا الفكر وإمكانية تطبيقه في مجتمعاتنا، وهؤلاء "البراغماتيون"، كما يحلو لهم وصف أنفسهم، يؤكدون بأن ثمن التغيير بخس، ولن يخرج خاسراً منه سوى الطبقات المستغلة والمستأثرة بالسلطة، التي سيفرض عليها اقتسام السلطة والمنافع مع كافة شرائح المجتمع، وبالأخص الأقليات أو الأكثريات المهمشة، فلما إذا لا ننهي معارضتنا وننضم إلى صفوفهم لتبدأ عمليات التحول  المبارك؟ لا أنكر بأن ثمار هذا العرض الموعودة مغرية، تبدأ بالسلام والاستقرار ولا تنتهي بالتنمية المستديمة، ومع الكثير من التفاؤل قد يكون بالإمكان تحقيق بعض ما يمنونا به، ولكن هل الشانكريلا أو الأرض الأمريكية الموعودة هي ما نطمح إليه؟ وهل سنستطيع التكيف مع متطلباتها والعيش برضا فيها أم ترانا سنردد: نار أهلي ولا جنة أمريكا؟

شهد التاريخ البشري الحديث تجارب سابقة لإعادة الهندسة الاجتماعية، قادتها الدول المستعمرة الغربية في قارات أمريكا الجنوبية والشمالية وأفريقيا وأستراليا، وقد انتهت جميعها بالانقراض الحضاري أو حتى السكاني للشعوب الأصيلة لهذه المناطق، وما زالت الشعوب الأفريقية القاطنة جنوب الصحراء الكبرى تصارع من أجل بقاءها، بعد أن فتكت بها المشاريع الغربية الرامية إلى إعادة تشكيلها على العقائد والعادات الغربية، فهل يعقل أن نقتفي أثرها إلى الهاوية؟

 قد يرى البعض منا بأننا أذكى من هذه الشعوب وسيكون بمقدورنا وقاية أنفسنا من المصائب التي أردتهم، ولكن ما لدى أمريكا أشبه بوصفة دواء، ترياق – أو هكذا يدعون- ولا بد أن نتجرعه بحلوه ومره، وأكثره مر، وضرر بعض الأدوية أكثر من منافعها.

ولكن قبل أن نمد أيدينا المترددة للترياق الأمريكي لابد أن نقتنع بأن نواياهم حسنة بالفعل، وبأنهم جديرون بالألوهية التي يدعونها، أو على الأقل التفويض الآلهي الذي يضفي الشرعية على حكمهم المطلق لكل البشر، والله الذي هو آلهنا نحن المسلمين يزكي نفسه ليس فقط بالقدرات اللامتناهية في القوة والعظمة كالخلق من العدم وبعث الموتى، ولكن أيضاً بصفاته الحسنى وحكمه على نفسه بالعدل وغيرها من المثل الآلهية، وأدعياء الألوهية الأمريكان أبعد ما يكونوا من ذلك، ولنبدأ بصفات ربهم الذي يقيسون نفسهم عليه، ويريدون التشبه به، وكما هو معلوم لديهم كتابان مقدسان هما التوراة والإنجيل، ويميزعلماء اللاهوت بين رب الإنجيل ورب التوراة, إذ بينما يوصف رب الإنجيل بالرحمة والمغفرة وحب الناس أجمعين، نجد بأن رب التوراة، أي يهوة، على النقيض من ذلك، فهو كما يراه أحبارهم شديداً عنيفاً غاضباً منتقماً، وهو عنصري أيضاَ في تفضيله وتحيزه المطلق لليهود، حيث يروون في التوراة بأنه كان يسافر معهم متوارياً في غيمة، وكلما صادفهم عدو يخافون بطشه أو شعب يريدون سلب أرضه دعوه ليرسل شواظ من نار عليهم، فكأنهم هم الآله وهو العبد، وعندما حرفوا الأنجيل عاد هذا الآله العنصري البغيض، الأبعد ما يكون عن العدل والإنصاف والمساواة إلى الظهور في رواية مختلقة عن المسيح عبد الله عليه السلام، وتسرد الرواية واقعة طلب إمرأة كنعانية منالمسيح شفاء ولدها، فيرد عليها بأن هذا الخبز للسادة لا الكلاب، أي أن اليهود هم السادة المخصوصون بالهداية والمعجزات أما الكنعانيون وبقية البشر فهم أشبه بالكلاب، فكان أن ردت عليه المرأة بأن الكلاب يلتقطون فتات موائد أسيادهم فاستحى منها، وشفى ابنتها كما يدعون، تعالى الله عما يصفون وتنزه المسيح عما تقول عليه اليهود وأتباعهم.

 فإذا كان الأمريكان يتشبهون برب سادتهم اليهود، التي ترد صفاته في التوراة فإنهم لم يأتوا لإقامة مجتمع الديمقراطية والحرية والكرامة بل لتدمير وإبادة أعداء يهوة، وهذا بالفعل ما يحدث في منطقتنا منذ استعمار فلسطين من قبل العصابات الصهيونية، وجاءت حرب الصهاينة الأخيرة على لبنان وموقف الأمريكان المنحاز لهم بالمطلق لتبرهن مرة أخرى وبدون أدنى شك بأن الأمريكان، والمقصود هنا المؤسسة الأمريكية الحاكمة كلها وليس فقط حكومة بوش، على النقيض من العدل في منهجها وممارساتها، إذ رمت بكل ثقلها وراء دويلة الصهاينة، وناصبت العداء لكل من وقف مع عدالة القضيتين اللبنانية والفلسطينية، وكان من المحتم أن يقف الشيعة المؤمنين بالعدالة موقف المعارض من المخططات الأمريكية، حتى لو لم تمسهم هذه المخططات مباشرة، وأمريكا المتغولة قد ساوت بين الشيعة المطالبين بالعدالة وبين الإرهابيين الهمج حلفاء وأصدقاء أمريكا في السابق، وبعد إعلان أمريكا عدائها الصريح للشيعة في المنطقة، وبالتحديد جمهورية إيران الإسلامية وشيعة لبنان فإن من السذاجة والسخف الاعتقاد بإمكانية حصول أي توافق في المصالح بين الأمريكان وشيعة العراق، بل أن كل الشيعة على رأس قائمة الأعداء لدى الغول الأمريكي والسعلاة الصهيونية، وهم كما وصفهم القرآن الكريم لن يرضوا عن الشيعة حتى يتبعوا ملتهم، وهذا محال.    اللهم هل بلغت فاشهد

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك