مررنا بتجربة خطيرة كادت وما زالت تهدد البلاد بعاصفة مدمرة.. فالازمة خطيرة، على مستوى القوى والطروحات والنتائج. اذ برهنت قوى الضغط للراي العام والشارع ان لها دوراً تلعبه وحدوداً تقف عندها. وكشف المعتصمون عن وجود قوة لا يستهان بها.. ولولا ان للمواقف مبرراتها، لما اجتمعت قوى متناقضة كـ"الوطنية" و"جزء مهم من القانون" واعداد من كل كتلة.. ولما شاركهم "التيار" في البداية ثم تركهم، وان كان برؤى مستقلة.. بالمقابل كشف القائلون بشرعية الرئاسات، والتصويت على بعض الوزارات، انهم قادرون في الدفاع عن التمثيل الذي اعطى شرعية لمواقعهم.
لم يحقق اي طرف كل ما يريد، لكنه اقترب من بعض ما يريد.. ومن يعتقد انه يستطيع الحصول على كل ما يريد سيرتكب خطأً كبيراً بحق نفسه اولاً، قبل ارتكابه بحق البلاد والاخرين ايضاً. فالخلافات انتقلت من خلافات سياسية الى ميدانية وتعطيل المؤسسات والمصالح، واعتداء بالايدي والعصي واستقدام السلاح.. والتي تهدد، ما لم تعالج بسرعة، بتداعيات خطيرة، إن تحكم منطق العناد والرأي الواحد من جهة، والتهاون وعدم تحمل المسؤوليات من جهة اخرى. فاقتحام مجلس النواب، او تعطيل اعماله، والاعتداء على النواب وتهديدهم هو خطيئة سياسية كبرى لا يبررها اي منطق، والتي من شأنها تحويل اي تعاطف وتاييد الى غضب واستنكار.. وهو منهج "انقلابي" يبعدنا عن المناهج الديمقراطية، التي عندما تأخذ هذه المسارات، ستدمر كل شيء.
لا يكفي للنجاح وحدة الايديولوجيات، بل الاساس وحدة المناهج والتطبيقات. آن الاوان ان نتجاوز مشاريع الوحدة الشكلية التي لا تجيد سوى الصراع مع غيرها او فيما بينها، بينما تقف عاجزة في بناء مشاريع منتجة فاعلة لجماعاتها وللوطن. ونعتقد ان من مصلحة الجميع –رئاسات وقوى وتحالفات ومكونات- ان يراجع نفسه، وبهذا يراجع مواقفه من الاخرين. فالدولة ليست ملك شخصٍ او حزب او طائفة او قومية، انها ملك كل العراقيين. وأمر طبيعي ان نعتقد بصوابية ارائنا وسياساتنا، لكن منطق الوطن والدولة وصوابية القرارات النهائية، لا يمكن ان يبقى متأرجحاً بين الاجتهادات الخاصة.. فهذا يقود للتصادم او فرض الرأي، ولاخطاء كثيرة ونجاحات قليلة ومواقف لامسؤولة. لذلك برهنت تجارب الامم ومنطق العقلاء ان قرار الدولة هو شأن تقرره المؤسسات الدستورية واجراءاتها المقرة والمتفق عليها، وهذا يقود بالمحصلة لنجاحات كثيرة واخطاء قليلة ومواقف مسؤولة. وان التحجج بعقم الاجراءات يتطلب علاجها، مؤسساتياً ودستورياً، لا الخروج عليها، ودفع البلاد للهاوية.
المهمة الاهم اليوم هي امن المواطنين والمؤسسات والمصالح وعودة هيبة الدولة والنظام.. انها مقاتلة "داعش" وبقايا النظام السابق الذين يستغلون اخفاقات الحكومات في تشريعاتها وخدماتها، كما يستغلون خلافاتنا ووسائل التعبير الحرة لبث الكراهية والفتنة بيننا. وهناك وعي متزايد ان مرحلة كاملة انتهت. ولا يستطيع فريق ادعاء الايجابيات وتحميل الاخرين السلبيات. فالمحاصصة والفساد والطائفية والاثنية هي افرازات وضع كامل، عندما تتجاوز حدودها تتحول لنقيضها. فلقد افرزت الشراكة المحاصصة.. والاموال السهلة للنفط، الفساد.. والحماية المشروعة او المغالية للذات، الطائفية والاثنية.
الازمات وفترات الاحباط اوقات جيدة للمراجعة وعودة الانطلاق.. والوطنية الحقة تعني تسهيل الامور على الغير ايضاً، لا تعقيدها والسعي للتسقيط والالغاء.
فهذه هي قوى الساحة.. ونحن مضطرون –رغم الخلافات- على العيش والتعايش والعمل المشترك معها، بعيداً عن الاخضاع والاقصاء والتهميش، وبدون ابتزاز وتهديد وفرض. ولا بدائل امامنا. ويمكن ان نعي ذلك الان، او نكتشفه بعد جولات جديدة من الدمار والخسائر. ولنثق ان الجميع سيخرج رابحاً عندما نتعلم كيف نعمل، ليس للمكاسب الجزئية فقط بل للمكاسب الكلية اساساً.. وليس مع من نتفق معه فقط، بل اساساً مع من يختلف معنا.. ففرص المشتركات معهم، ليست اقل من اضرار الاختلاف فيما بيننا. ومن وسط الصعوبات والاحباطات نشق طريق النجاحات.. ومن وسط الحطام نبني وطننا.. ومن وسط الخلافات نحقق وحدة كلمتنا وعملنا المنتجة والفاعلة، وليست وحدة احقاد وكراهية، لا تبني نفوساً صالحة واوطاناً عامرة.
عادل عبد المهدي
https://telegram.me/buratha