( بقلم قاسم حسين )
عندما تقرأ تاريخ العرب في الجاهلية، ستقف على مجلداتٍ من الأشعار في التفاخر بالأنساب والأخذ بالثارات، ومعارف بسيطةٍ في طرق التداوي بالأعشاب، وقصص طويلة من الحروب التي لا تنتهي من أجل ناقةٍ أو بئر ماء! طريقةُ حياةٍ فرضتها عليهم تلك البيئة القاحلة، التي لا ترى فيها غير الامتداد الواسع للصحراء، والارتفاع الشاهق للسماء، فكانوا يتخيلون حبيباتهن كواكب ونجوماً معلقة في الفضاء، ويتصوّرون أنفسهم فرساناً يطيرون في الهواء! مثل هذا الأفق الضيق والحياة البسيطة والتفكير الغارق في الخيال، كان يدفعهم إلى حب تقليد الآخرين حين يزورون المناطق الحضرية في الشمال والجنوب، ومن هنا «استورد» أحدهم شحنةً من الأصنام من الشام، على ظهور الجمال، لينصبوها حول الكعبة، حتى بلغ عددها مئات، لكل قبيلةٍ أو عشيرةٍ أو فخذٍ صنمٌ تعكف على عبادته. واحتاجت هذه العقلية الوثنية إلى أربعة آلاف سنة حتى تزال، بدخول الجيش الإسلامي إلى مكة فاتحاً، فحطّم الأصنام والأوثان ودفن حطامها تحت الأبواب ليطأها الناس بأرجلهم عند دخول البيت الحرام. بعد هذه الخطوة انطلقت الدعوة المحمدية لتفتح نصف العالم القديم وتخضعه للدين الجديد في أقل من قرن واحد.ليس من الصحيح طبعاً حصر ما حدث بالجانب العسكري، فما شهده العالم هو انبثاق حضارةٍ جديدةٍ ذات تطلعاتٍ إنسانيةٍ كبرى من عمق الصحراء، ظلت تؤثر على مسار البشرية قرونــــاً حتى زمن الردة هذا.كان ذلك زمن الانعتاق والتحرّر من إغلال الجاهلية، أما في هذا الزمان، فنشهد عودةً جماعيةً طوعيةً إلى تلك القيود والأغلال! والحدث التاريخي هذه المرّة هو تجمعٌ للقبائل العربية الجديدة حول جثمان طاغية أعدم في بغداد على جرائم ارتكبها بحق العراقيين وغيرهم من شعوب المنطقة.هذه الموجة العارمة من الصخب والضوضاء، تضعنا أمام مأزقٍ وجودي، ومفارقةٍ حضارية، ففي الوقت الذي تتخطّى الأقوام والشعوب الأخرى طغاتها وحكامها المستبدين انطلاقاً للمستقبل، فإن قومنا يعكفون على الطغاة ويتوّجونهم لحظة سقوطهم «شهداء»! هذه الضوضاء العالية لن تخفي حقيقة ان هذا الطاغية هو أسوأ حاكم عربي في العصر الحديث، قد يبزّ أنور السادات، من حيث كلفة نظامه على شعبه والشعوب المجاورة وعموم المنطقة. هنا في البحرين يمكننا الحديث عن 12 عائلة تم اغتيال أبنائها من طلبة العلم في زمن صدام بدمٍ بارد، وظل مصيرهم مجهولاً حتى سقوطه، إذ كشفت معلومات عن تصفيتهم ودفنهم في إحدى المقابر الجماعية. هذه الحقائق وغيرها من فظاعات العهد السابق الممتدة 35 عاماً، تبخّرت في لحظة إعدام الطاغية، الذي تحوّل فجأةً إلى «سيد شهداء القرن»! على مستوى الدول، سُجّلت حالات «تقزّز» و«تقيّؤ» و«اشمئزاز»، لما حصل من ظلمٍ فظيع! وعلى مستوى الشارع، هناك 200 مليون عربي يتفجرون غضباً في حمأة الحماسة الطارئة للدم العراقي المراق منذ سنوات.وتعالت أصوات الندب على صوت العقل والمنطق، حتى قارنته كاتبةٌ عروبيةٌ مثقفةٌ مقيمةٌ في باريس بالمجاهد عمر المختار، مستذكرةً قصيدة أحمد شوقي فيه! بل إن دولة المختار، الجماهيرية العربية الإسلامية الديمقراطية الاشتراكية العظمى، أعلنت الحداد الرسمي ثلاثة أيام، وقررت لجانها «الثورية» إقامة تمثال للرئيس المظلوم وهو على منصة الشنق، بينما قالت وكالة الأنباء الليبية إن التمثال سيقام إلى جانب تمثال «عمر المختارشيخ الشهداء» (القديم طبعاً بعد أن غطّت على بطولاته بطولات صدام!) . القبائل العربية القديمة كانت تخلق أصناماً من التمر تأكلها عندما تجوع، أما القبائل العربية المعاصرة، «ذات الرسالة الخالدة»، فتقتات على أجساد طغاتها في معارك التحرير الزاخرة بالدماء! وبينما تصنع الأمم الأخرى الصواريخ وتفجّر الذرة وتغزو الفضاء، تغزو الدول العربية بعضها بعضاً، ويفجّر «مجاهدوها » السيارات المفخّخة في الأسواق، ويبدع مثقفوها في «تصنيع» تماثيل وأصنام الطغاة! الوسط البحرانيةاشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
https://telegram.me/buratha