نعمه العبادي ||
يناصف الأمام العباس أخيه الأمام الحسين (عليهما السلام)، الزمان والمكان والوجدان، مناصفة بلغت حد البداهة بعد واقعة الطف العظيمة، وهي مكانة لم يرق لها أحد من قبله ولا من بعده.
في حادثة وقعت يوم الفتح، منعت فيها أم هاني أخاها علي بن ابي طالب عليه السلام من الوصول إلى زوجها وشخص آخر أستجارا بها، وقد جاءت تشكو علياً لرسول الله، وحينما وصف علي قبضتها التي طوقته ومنعته من الحركة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " لو أن أبا طالب ولد الناس كلهم لولدهم شجعاناً"، شهادة لخصت حكاية قوم تفردوا بكل المكرمات، وتسيدوا الشجاعة على كل أهل الأرض من أول الوجود إلى آخر الدنيا.
منذ لحظات الولادة الأولى للأمام الحسين (ع)، كان مقاما المعرفة والعشق متلازمان فيه ومعه، حتى كان مظهر الاحتفال بولادته مخطوطاً بهذا الامتزاج العجيب، فكانت فرحة قدومه مخلوطة بغصة الوجع عليه ولإجله، وصار أمر مذبحه العظيم حكاية الزمان، وإقتراناً مع هذه الحكاية تساوقت قصة (السيف السقاء)، من خيار الرحم المميز، والذي ساوا فاطمة أسما، ولحق بها كرامة، فكانت (فاطمة/ أم البنين) الشرط الضروري بعد علي عليه السلام، لأهلية هذا المتفرد، الذي سيقاسم الحسين الأوحدي، صورة لم تتاح لنبي أو وصي.
يسرد التأريخ قصة القنطرة التي وضع العباس عليها لحمايتها في أحد معارك أمير المؤمين، وكان صغيراً، وبعدما أنجلت الغبرة، هرع إليه علي وهو في غاية الوجل عليه متوقعاً ان الخيل قد داسته بحوافرها، فوجده متبسماً قابضاً على سيفه، وقد جندل الرجال على رأس المعبر وجعلهم حطاماً.
يقدم مشهد خروج الحسين عليه السلام من المدينة متوجهاً إلى العراق، حيث منيته المحتومة، صورة درامية استثنائية، وبغض النظر عن الجدل في أي تفصيل منها، فقد أحتل العباس الجزء الأهم فيها، وتوج بلقب الكفيل الذي كان أحد أعمدة هويته التي ترسخت في الوجدان العام قبل ان تدونها مسودات التاريخ.
في مرويات الطف، يذكر، إن زينب أنفردت بالحسين ليلة العاشر من المحرم تسأله عن مصير الامور، وقد أخبرها بأن القتال واقع لا محال، وأن الجميع ميتون، وقد زاد حزنها لذلك، فوصول الخبر إلى زعيم الانصار شيبة المجد حبيب بن مظاهر، فجمع الانصار واستعرض بهم أمام خيمة زينب طمأنة لها، وحالما وصل الخبر إلى العباس ركض غاضباً تجاه خيمة زينب وقد سل سيفه، وخاطبها معاتباً، كيف تشعر بالقلق وما زال يتنفس الهواء وسيفه بيده، فهو الكافل وهذه مهمته.
رفض الحسين عليه السلام في يوم العاشر من محرم أكثر من طلب قدمه العباس لأجل البراز، ولذا كان آخر الشهداء من بني هاشم، وقد أرتبط أسمه بالسقاية، فكانت النساء تستغيثه " يا سقاء ادركنا"، وقد توج مسيرة حياته بيوم قال عنه أحد شعراء الطف، وقد تردد في عجز البيت لمشكل عقائدي، فأكمله له الحسين في المنام:
ويوم أبو الفضل أستجار به الهدى
والشمس من كدر العجاج لثامها
وهكذا، قاسم الحسين عاشره الذي خصه الله به، ورفض ان يحمل من موضع سقوطه بعد ان فقد كفيه على نهر العلقمي، فكان الحسين والانصار في مقسم وهو في المقسم الآخر، ثم تربع في الوجدان والاذهان، فكان اسطورة الوفاء.
العباس (قمر بني هاشم، سبع القنطرة، أبو راس الحار، الكافل، كفيل زينب، اللي تصفن بيه التفك، اللي يسطر، أخو زينب، ابن البدوية، السقاء، صاحب القربة، ساقي عطاشى كربلاء، باب زيارة الحسين، باب الحوائج،... الخ) ألقاب، تجاوزت حدود ألفاظها، لتستقر في صورة أوحدية، يختلط فيها الحب والرهبة والهيبة، والحنين والخوف، وينفرد هذا السيف الطالبي بشعور في نفوس الأمة يتجاوز كل امكانات علم النفس على تفسيره وفهمه.
عندما يتعلق الأمر بالعباس، لا مجال للحديث عن التدين من غيره، والالتزام من عدمه، بل وحتى بدون التشيع، فهذا الرجل (عباسٌ) في ضمير الأمة خاصها وعامها دون ان يكون ذلك مرتبطاً بأي شرائط ايمانية أخرى.
ومع كل صور التطور في الحياة، واختلاف اشكال التعبير، بل ومع كل الجهود المنظمة التي تشتغل على محاصرة مساحة المقدس في الوجدان العام إلا ان صورة العباس بتمظراتها المختلفة واضحة جلية، مستقرة متعالية، يتأبطها الجميع بشعور الفخر والهيبة، وهم يجدون إذعاناً في أعماقهم لحقيقة قيمتها المادية والمعنوية، يتعاظم مع مرور العصور والدهور.
السلام عليك يا أبا الفضل في يوم مولدك الميمون..
ـــــــــ
https://telegram.me/buratha