المقالات

الليبرالية والدين... معطيات الفرد والأخلاق

965 13:26:00 2008-12-13

( بقلم : حسن الهاشمي )

من منا لا يرغب في النزاهة وحفظ المال العام من عبث العابثين؟! ومن منا لا يسعى بأن يعيش في أجواء الأخلاق السمحة في مجتمع تسوده الفضيلة والعيش الكريم للفرد وتكافؤ الفرص بين أبناء المجتمع من دون تمييز طبقي أو اثني أو ديني؟! ومن منا لا يتعايش مع مبادئ الحرية والاختيار التي هي مربط الخيل لجميع الأفكار الدينية والوضعية، بيد أن الوسائل الموصلة إلى هذين المبدأين هي التي يعتريها الغموض والضبابية في الوضعية التي تؤكد على أن الغاية تبرر الوسيلة، بينما الدينية تؤكد على أن الغاية الشريفة تبررها الوسيلة الشريفة؟!

الليبرالية لا تعني أكثر من حق الفرد ـ الإنسان أن يحيا حراً كامل الاختيار في عالم الشهادة، أما عالم الغيب فأمره متروك في النهاية إلى عالِم الغيب والشهادة، الحرية والاختيار هما حجر الزاوية في الفلسفة الليبرالية، ولا نجد تناقضاً هنا بين مختلفي منظريها مهما اختلفت نتائجهم من بعد ذلك الحجر، سواء كنا نتحدث عن (هوبز) أو (لوك) أو (بنثام) أو غيرهم.  واشتقت كلمة ليبرالية من ليبر (liber) وهي كلمة لاتينية تعني الحر وهي حاليا مذهب أو حركة وعي اجتماعي سياسي داخل المجتمع، تهدف لتحرير الإنسان كفرد وكجماعة من القيود السلطوية الثلاثة (السياسية والاقتصادية والثقافية)، وقد تتحرك وفق أخلاق وقيم المجتمع الذي يتبناها، تتكيف الليبرالية حسب ظروف كل مجتمع، وتختلف من مجتمع غربي متحرر إلى مجتمع شرقي محافظ، والليبرالية أيضا مذهب سياسي واقتصادي معاً ففي السياسة تعني تلك الفلسفة التي تقوم على استقلال الفرد والتزام الحريات الشخصية وحماية الحريات السياسية والمدنية وتأييد النظم الديمقراطية البرلمانية والإصلاحات الاجتماعية.

المنطلق الرئيسي في الفلسفة الليبرالية هو أن الفرد هو الأساس، بصفته الكائن الملموس للإنسان، بعيداً عن التجريدات والتنظيرات، ومن هذا الفرد وحوله تدور فلسفة الحياة برمتها، وتنبع القيم التي تحدد الفكر والسلوك معاً، فالإنسان يخرج إلى هذه الحياة فرداً حراً له الحق في الحياة أولاً، ومن حق الحياة والحرية هذا تنبع بقية الحقوق المرتبطة: حق الاختيار، بمعنى حق الحياة كما يشاء الفرد، لا كما يُشاء له، وحق التعبير عن الذات بمختلف الوسائل، وحق البحث عن معنى الحياة وفق قناعاته لا وفق ما يُملى أو يُفرض عليه.

نقف عند جملتي (لا كما يُشاء له) و (لا وفق ما يُملى أو يُفرض عليه) من الذي يملي على الفرد؟ إن كان فردا مثله فنحن مع الليبرالي نرفض هذه الوصاية، وإن كان الله سبحانه وهو خالق الأفراد وأعلم باحتياجاتهم من غيره من المخلوقات فالإملاء في هذه الحالة يكون مقوما للأفراد وليس محبطا لهم، وإن جميع الأحكام التي يحسبها الليبرالي مقيدة للأفراد إنما فيها منافع دنيوية لهم ناهيك عن المنافع الأخروية، فالشرع عندما يقول (قم عن الطعام وأنت تشتهيه) إنما يؤسس لصحة الإنسان حيث أن المعدة بيت الداء، وفي مقام آخر نجد أنه قد ضرب أروع الأمثلة في التواصل الاجتماعي ونزع الغل والحقد والإحن من القلوب بقوله (صل من قطعك)، أما قوله تعالى (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) [الإسراء : 24] فإنه يكرس حالة المبالغة في احترام الوالدين لما لهما من عظيم الشأن والمقام في دورهما برعايته وتربيته وتحملهما المشاق في مسيرة حياته المليئة بالمخاطر، والأمثلة في ذلك لا تعد ولا تحصى كلها تصب في خدمة الفرد ومصلحته الدنيوية قبل الأخروية حيث فيها البركة والرحمة والنماء والعافية.

المفترق بين الديني والليبرالي أن المنطلق الرئيسي عند الأول يتمثل في العقيدة بينما الفرد هو الأساس في الفلسفة المادية، والحال أننا نرى أن الإنسان يضحى إنسانا بإنسانيته وأخلاقه وكماله، وإلا ما هو الفرق بينه وبين الحيوان إذا ما جردناه من القيم والأخلاق؟! وما هو دور العقل في التحسين والتقبيح للأفعال والأقوال والسيرة والسلوك؟! فالحرية والاختيار إنما تكون حقيقية إذا ما تحركت في إطار الفضيلة، فمادامت بعيدة عنها فإنها بعيدة عن معطياتها التي سخرت من أجل سعادة الإنسان، وإلا تحولت الحرية المجردة إلى وبال على الإنسان ولا يجني مشرعها سوى الخيبة والهلاك، كيف بالإنسان الذي تقتله البقة وتنتنه العرقة أن يدرك محاسن الحرية والاختيار من دون وحي القيم والأحكام ولاسيما أنها وضعت من الذات الإلهية التي هي أقرب إليه من حبل الوريد ويعلم ما توسوس له نفسه وهي البلسم لاحتياجاته وتطلعاته، إنها معادلة كونية واضحة إذ أن الخالق أعرف بمخلوقاته من المخلوق المحتاج إليه، نظير المهندس الذي يعمل على تصليح الأجهزة الالكترونية وهو أفضل من غيره في هذا المجال.وفي العلاقة بين الليبرالية والأخلاق، أو الليبرالية والدين، فإن الليبرالية لا تأبه لسلوك الفرد طالما أنه لم يخرج عن دائرته الخاصة من الحقوق والحريات، ولكنها صارمة خارج ذلك الإطار، أن تكون متفسخاً أخلاقياً، فهذا شأنك، ولكن أن تؤذي بتفسخك الأخلاقي الآخرين، بأن تثمل وتقود السيارة، أو تعتدي على فتاة في الشارع مثلاً، فذاك لا يعود شأنك، وأن تكون متدينا أو ملحداً فهذا شأنك أيضا.

أما الدين والأخلاق وانطلاقا من مبدأ الخالقية فإنهما يقوّمان سلوك الفرد ليعيش عيشة راضية في الدنيا والآخرة بعيدة عن المنغصات الفردية والاجتماعية، وعندما يطرح الدين مبدأ (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) [الزلزلة : 7،8] فإنه يؤسس لقاعدة النزاهة قانونا وشرعا، ربما يتحايل الإنسان الجشع على القانون ويتطاول على المال العام، بيد أن المؤمن حتى إذا غفل عنه القانون فإن الضمير يؤنبه وخوف الله تعالى يردعه من ارتكاب المعاصي والإغارة على بيت المال، فالنزاهة هي مطلوبة في القوانين الإلهية والوضعية ولكن الزاميتها في الإلهية أقوى من المادية وهكذا في سائر الأمور التي يحسنها ويقبحها العقل.

صحيح أن مبدأ (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) [البقرة : 256] يؤسس على أن الإنسان مخير بين أن يكون متدينا أو ملحدا، ومثلما لا يحق للمؤمن إجبار الآخرين على الدخول في ربقة الإيمان بالله فإنه في الوقت نفسه لا يسمح بالإلحادي وغيره بانتهاك حرمة عقائد المؤمنين بذريعة الحرية، فالحرية الشخصية تنتهي عند حرية المجتمع، الذي يتكون من أفراد إن صلحوا صلح المجتمع وإن فسدوا فسد المجتمع وهذه هي الطامة الكبرى، والدين عندما يكون حاكما على الفرد فإنه يقومه نحو الصلاح أما إذا تجرد الإنسان عن الدين ليس يكون متفسخا أخلاقيا فحسب وإنما يكون بذرة فاسدة لمجتمع فاسد تضيع فيه القيم والفضيلة التي هي أغلى شيء في الوجود حتى أغلى من الفرد الذي هو الوسيلة لتحقيقها وتجليها وليس هو الهدف بذاته، ألا ترى أن المادة تموت بموت الإنسان وتفسخه في القبر بينما القيم والمعنويات والفضيلة باقية ما بقي الدهر.

حسبما ورد في أدبيات الليبرالي أنه يؤمن بالتزام الحريات الشخصية وحماية الحريات السياسية والمدنية وتأييد النظم الديمقراطية البرلمانية والإصلاحات الاجتماعية، ولا أظن أن دستورا ضمن الحريات الفردية والاجتماعية مثلما ضمنها الدين الإسلامي، فإنه وهب الفرد مئات الحريات التي تضمن سعادته وتحرره من كل القيود المصطنعة التي كبلته بها الأنظمة الوضعية، ومن ضمن الحريات التي وهبها الدين للفرد حرية التملك والتعبير والحيازة والتجارة والإقامة والسفر وعشرات غيرها يتحرك الفرد من خلالها ضامنا حياة سعيدة له ولمجتمعه الذي يعيش فيه، أما الديمقراطية فإن الدين قد أوصى المؤمنين والقادة على حد سواء بضرورة الشورى لأنها ترشد إلى أصوب الآراء، ولا أبالغ حينما أقول إن الدين قد جعل أبواب الاجتهاد مفتوحة على مصراعيها لمواكبة التطور في الإطار الشرعي، وإن الإمام الحسين عليه السلام هو إمام إصلاح ما فسد من أمور المسلمين ولا يزال صوته يجلجل في الآفاق حينما قالها صرخة مدوية بوجه الانحراف الأموي: (إني لم أخرج أشرا ولا بطرا وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر).

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
محمود الراشدي : نبارك لكم هذا العمل الجبار اللذي طال إنتظاره بتنظيف قلب بغداد منطقة البتاويين وشارع السعدون من عصابات ...
الموضوع :
باشراف الوزير ولأول مرة منذ 2003.. اعلان النتائج الاولية لـ"صولة البتاوين" بعد انطلاقها فجرًا
الانسان : لانه الوزارة ملك ابوه، لو حكومة بيها خير كان طردوه ، لكن الحكومة ما تحب تزعل الاكراد ...
الموضوع :
رغم الأحداث الدبلوماسية الكبيرة في العراق.. وزير الخارجية متخلف عن أداء مهامه منذ وفاة زوجته
عمر بلقاضي : يا عيب يا عيبُ من ملكٍ أضحى بلا شَرَفٍ قد أسلمَ القدسَ للصُّ،هيونِ وانبَطَحا بل قامَ يَدفعُ ...
الموضوع :
قصيدة حلَّ الأجل بمناسبة وفاة القرضاوي
ابراهيم الجليحاوي : لعن الله ارهابي داعش وكل من ساندهم ووقف معهم رحم الله شهدائنا الابرار ...
الموضوع :
مشعان الجبوري يكشف عن اسماء مرتكبي مجزرة قاعدة سبايكر بينهم ابن سبعاوي
مصطفى الهادي : كان يا ماكان في قديم العصر والزمان ، وسالف الدهر والأوان، عندما نخرج لزيارة الإمام الحسين عليه ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يكشف عن التعاقد مع شركة امريكية ادعت انها تعمل في مجال النفط والغاز واتضح تعمل في مجال التسليح ولها تعاون مع اسرائيل
ابو صادق : واخیرا طلع راس الجامعه العربيه امبارك للجميع اذا بقت على الجامعه العربيه هواى راح تتحرر غلسطين ...
الموضوع :
أول تعليق للجامعة العربية على قرار وقف إطلاق النار في غزة
ابو صادق : سلام عليكم بلله عليكم خبروني عن منظمة الجامعه العربيه أهي غافله ام نائمه ام ميته لم نكن ...
الموضوع :
استشهاد 3 صحفيين بقصف إسرائيلى على غزة ليرتفع العدد الى 136 صحفيا منذ بدء الحرب
ابو حسنين : في الدول المتقدمه الغربيه الاباحيه والحريه الجنسيه معروفه للجميع لاكن هنالك قانون شديد بحق المتحرش والمعتدي الجنسي ...
الموضوع :
وزير التعليم يعزل عميد كلية الحاسوب جامعة البصرة من الوظيفة
حسن الخفاجي : الحفيد يقول للجد سر على درب الحسين عليه السلام ممهداً للظهور الشريف وانا سأكمل المسير على نفس ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
عادل العنبكي : رضوان الله تعالى على روح عزيز العراق سماحة حجة الإسلام والمسلمين العلامة المجاهد عبد العزيز الحكيم قدس ...
الموضوع :
بالصور ... احياء الذكرى الخامسة عشرة لرحيل عزيز العراق
فيسبوك