* جعل الله سبحانه وتعالى في حركة المجتمعات وفي حركة التاريخ قوانين موضوعية، هذه القوانين تُفعَّل بشروط معينة وتذوي وتفقد فاعليتها ايضاً بشروط معينة، إن تحركت الامة باتجاه تفعيلها سوف تنتج معادلات جديدة اسمها التغيير، وإن تأخرت الامة عن تفعيل ذلك عندها ستنتج معادلات هي الاخرى جديدة تؤدي الى التخلف والى التراجع عن المسارات السابقة، لذلك حينما ننظر الى القيم والمظاهر التي تُغِّير الى جملة من المعطيات التي تدخل في عملية التغيير يمكن لنا ان نتلمَّس وبوضوح ان الشعار الحسيني كان ذا اثر جوهري في كل عوامل التغيير الذاتي والاجتماعي، في زمننا هذا امتد التغيير لكي ينتج جملة من القضايا اكثر من كونها عملاً جماعياً او عملاً فردياً وبدئنا نتلمَّس بوضوح ان قوله تعالى "ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" وهو احد السنن التأريخية التي اودعها الله سبحانه وتعالى في حركة المجتمعات، ندرك تماماً من خلال المعطيات الحاضرة للشعار الحسيني والمؤسسات الاجتماعية المرتبطة بهذا الشعار انها تسير بشكل متوازن وسريع باتجاه إحداث التغيير الحضاري وإحداث التغيير الجوهري الذي يمكن ان يجعلنا على أُهبة التغيير المنتظَر وعلى أُهبة تَحمّل المسؤولية لإحداث التغيير الجذري في حركة التأريخ، وطبيعة حركة التاريخ لا تأتي فجأة كما انها لا تحصل من خلال عمليات سريعة وانما لابد من سيرٍ زمانيٍ معين حتى في الحروب التي تكون الامة قد خسرت فيها الا ان إحداث التغيير المنعكس من الحروب يأخذ مدة من الزمن حتى يمكن لنا ان نقول بأن هذه الامة تغيرت، فاليابانيون حصلت لديهم شروطاً عسكرية قاسية للغاية ادّت الى تغيير سياسي جوهري ولكن التغيير الحضاري احتاج فيه الامريكان الى فترة كبيرة حتى يحصلوا على نماذج وعلى موج يمكن ان يقولوا بأن الحضارة الغربية قد بدأت تؤثر في داخل المجتمع الياباني، والعكس صحيح فالتغيُّر باتجاه الصالح ايضاً يحتاج الى مدة من الزمن حتى يمكن للامة ان تنطلق في حركة التغيير من مرحلة السبات الى مرحلة الفاعلية ثم الى مرحلة التغيير الجذري، وما حصل مع رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وهو احد الفعاليات التي اثرت بشكل جدي على حركة التغيير واحدثت تغييراً اجتماعياً واضح الدلالة تشابكت فيه مجموعة من العوامل، فيها غزوات وفيها تبليغ وفيها سلوكيات وما الى ذلك الا اننا احتجنا الى مدة كبيرة من الزمن حتى نجد عناصر التغيير تستقر وتؤثر بشكل جذري في داخل هذا المجتمع، رغم ان الاوضاع السياسية التي جاءت من بعد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم اتسمت بالانحراف عن سنّة ونهج رسول الله صلى الله عليه واله لكن يمكن لنا ان نقول بان هذه العوامل كانت ولا زالت تؤثر بفعلها التغييري وإن بطريقة بسيطة جداً، الا ان اثر التغير يمكن ان يُلمَس وهذا مسار الامة يبين اين كانت واين اضحت كل هذه الفترة بطريقة يمكن لنا نقول بأن وعي الامة تجاه الاسلام وتجاه الدين افضل بكثير من كل المجتمعات التي سدرت والتي غادرت حركة التاريخ.
* هنا لو نظرنا الى الشعار الحسيني سنجد انه مركّب على هذه المعادلة بشكل دقيق بل نستطيع ان نقول بانه وضِعَ على عجلة التاريخ بحيث اذا ما تحرك هذا الشعار يحرك عجلة التاريخ معه، ويمكن لنا من خلال نظرة سريعة على طبيعة ما احدثته مسيرة الاربعين ليس في العراق فحسب وانما عند الشعوب الاخرى التي التحقت متأخرة بهذه المسيرة سنجد ان جملة من التغيرات السلوكية والأخلاقية بل التغيرات الحضارية قد حصلت في داخلهم، هذه المجتمعات لم تكن تعرف طبيعة الكرم والانفاق باسم الامام الحسين عليه السلام في هذه الحيوية التي رأوها في داخل المجتمع الحسيني في العراق، حينما نقلوا هذه الفكرة الى مجتمعاتهم بدأنا نلاحظ ان تغييراً جدياً اصبح في هذه المجتمعات لم يكن يُعرف من قبل ولم يتعلم هؤلاء عليه حتى وجدنا ان هذه الظاهرة تأخذ بالاتساع بشكل فوري وبشكل سريع في الكثير من هذه المجتمعات، لو اخذنا ظاهرة المجتمع الايراني الذي يعاني كثيراً في اخلاقياته وفي ممارساته من قضية التعامل مع الغرباء ومن قضية الشك وسوء الظن والتربص والحذر وما لذلك من الغرباء مما يجعل صفحة الكرم متأخرة جداً في اخلاقياته فهذه الأمور تحد من قدرة الانفاق على الاخرين، لكن حينما التقى هذا المجتمع بالظاهرة الحسينية العراقية سرعان ما اخذ هذه القضية لان هذه الظاهرة تتعامل مع الغرباء ومع الأُناس الذين كان يحذر منهم واذا به ينتقل الى مجتمع يتعامل مع الغريب تعاملاً اليفاً وكريماً جداً وبسخاء كبير جداً فسرعان ما وجدنا هذه الظاهرة التي وجدناها في العراق تتسع يوماً من بعد الاخر لتشمل مساحات كبيرة جداً، وجدنا هذه الظاهرة تنتقل الى ايران وتنتقل الى الهند وتنتقل الى باكستان وتنتقل الى مجتمعات لم تكن تألف هذه القضية وبهذه الطريقة، عندئذ نقول بان ثمة انجازات تحصل على المستوى الحضاري لأن نقل فكرة او سلوكية الى امة اخرى معناها هناك تحقيق انجاز في انه ينتقل الى مجتمعات أخرى، في مثل هذه القضايا لو حللنا ظاهرة الانفاق على سبيل المثال وماذا تُعرِب هذه الظاهرة؟ لا شك انها تعرب عن وجود مجتمع مسؤول تجاه الاخرين حتى وإن كانت من اجل الثواب وباسم الامام الحسين عليه السلام، بالنتيجة من ينفق على الاخر يحمل في طياته وفي داخله روح المسؤولية تجاه الاخرين ويُعرب بوضوح انه ينتمي الى الاخر اكثر من انتمائه الى ذاته، بمعنى ان عملية انكار الذات تتبلور شيئاً فشيئاً الى ان تتحول الى ممارسة طبيعية لا تثير الاستغراب ولا باي شكل من الاشكال، اليوم هذه المواكب المنصوبة من صفوان الى داخل كربلاء لو درسناها من هذا الجانب لماذا ينفقون وهم الفقراء وهم الذين يعانون في ارزاقهم ولا يحصلون على ارزاقهم الا بشق الانفس؟ ولكن حينما نلاحظهم من هذه الزاوية نجد انهم يقدِّمون الاموال بسخاء وبحياء وفي نفس الوقت يعتذرون في داخلهم من الامام الحسين عليه السلام انهم لم يستطيعوا ان يقدموا اكثر من هذا الذي قدّموه، هذه الحالة وان كانت تُرْسَم بشكل بسيط لكن حينما تعم الامة من صفوان الى داخل كربلاء في هذا الخط الطولي الاجتماعي لا يمكن ان نقول ان هذه الظاهرة تعبر عن مجموعة من الافراد وانما تعبر عن ظاهرة في داخل الامة، هذه الظاهرة تعطي امرين اساسين: الامر الأول هو الانتماء العقائدي الذي يجعل الانسان يتخلى عن ذاته والامر الاخر ان هذا الانسان ينكر ذاته في مقابل الاخرين وهؤلاء الاخرون لا يمثِّلون له العقيدة وانما يمثِّلون له توصية العقيدة بهم، بمعنى اننا حينما نقدم اي خدمة لهؤلاء لا ننظر اليهم بعنوان مصداق العقيدة لكن نحن نتعامل في قبال من امرتنا العقيدة بأن نبر بهم وننفق عليهم، رغم ان هذه الظاهرة ذهبت الى ابعد من ذلك حينما تحدث الائمة صلوات الله وسلامه عليهم عن الانفاق وعن الإطعام وما الى ذلك نلاحظ اليوم لدينا مظاهر اكثر واعظم من هذه القضايا يبادر اليها الناس وبكل طواعية لا بل اذا قُبِلَت منهم يشكرون الله سبحانه وتعالى على انهم وفقوا الى هذا الامر.
* لو اردنا ان نأخذ ظاهرة السير نفسها وهذا العناء الكبير الذي يتسم به الزائرون ويتكبدونه بكل طواعية نعم نسميه انتماءً عقائدياً، وواضح جداً ان الانتماء العقائدي هنا لم يبقى كفكرة وانما تحول الى عاطفة ثم تحول الى سلوكية، هذا الذي يُبرِز استعداداً في داخله للتعب والعناء والضنك والعطش وتحمّل الارهاب في بعض الاحيان والظروف الجوية السيئة وهو لا يبالي بكل هذه المسائل، لا يُعرِب فقط عن الانتماء العقائدي وانما يُعرِب عن الاستعداد الجاد للتضحية من اجل هذا الانتماء، اذن تَحَمُّل العناء هو ابراز مسؤول لتحمل العناء من اجل المعتقد، فاذا كان هذا المجتمع يمارس العناء بشكل تلقائي وبشكل عفوي وهو ممتن من الله سبحانه وتعالى ان وفقه لهذا العناء عندئذ نجد مجتمع يريد ان يضحي وهو يُبرِز يوم من بعد الاخر رغبته في ان يضحي من اجل هذا المعتقد، والامر الاخر ان الحسيني لم يكتفي بهذا المقدار وانما ذهب الى ما هو اكثر من ذلك حينما بدأ ينفق من ماله والانفاق اصعب من تحميل البدن الضر والتعب لصعوبة الحصول على هذه الأموال وبعد ذلك يُنفق هذا المال الذي حصل عليه من اجل المعتقد، عندها سيكون لدينا استعدادات ذاتية واستعدادات جماعية وسيكون هناك استعدادات لبذل الجسد واستعدادات لبذل المال اضافة الى الاستعداد للتعامل مع الاخرين بمنتهى الرحمة والشفقة والألفة بينما في داخل المجتمعات الاخرى لا نلاحظ هذه الحالة، هنا الشعار الحسيني تحول الى انجاز حضاري هائل جداً نعم كثير من الناس يستخف بعملية المشي واللطم لكن هؤلاء لا يلاحظون الجانب الاخر وهي قضية ما يجري في داخل الواقع الاجتماعي من تغيير ومن إحداث جوهري لاستعدادات لو انها ظفرت بالقائد وبالمخطط اذن لأنهت الكثير من الواقع السلبي ليس الذي يحياه العراق فقط وانما ما تحياه المجتمعات الأخرى، نفس هذه المظاهر حينما تسري الى المجتمعات الاخرى نلاحظ ليس فيها انكار للذات فقط او تضحية او صبر وما الى ذلك وانما فيها اشعاع وموج فكري ينتقل الى الاخر بطريقة عفوية ومقبولة جداً، والا كيف تغير مجتمع كان ينظر الى الغريب نظرة توتر وحذر مثل المجتمع الايراني الذي تحول الى وضع اخر بسبب ان الشعار الحسيني دخل وأحدث فروق كبيرة جداً في داخل المجتمع ولا شك اذا كان مثل هذا الاثر في الخارج قطعاً هناك اثر كبير وعملية تغيير تحصل في داخلنا، ان هذه الظاهرة بدأت تُلقي خطاباً وهذا الخطاب يُقبَل من قِبَل المجتمع وليس المجتمع الشيعي فقط وانما تُقبل من قِبَل المجتمع الأخر خارج مجتمع التشيع، فنلاحظ هذه المجتمعات تتلقى قضية الحسين عليه السلام وتتفاعل معها نتيجة رسل الرحمة التي خرجت من الشعارات الحسينية.
* وفق ذلك نحن امام انجاز حضاري هائل ولو طبّقنا هذا الانجاز على النظرية المهدوية وعلى الموقف المهدوي يتبين ان هناك مجتمع يؤهل نفسه بوعي او بدون وعي ويعمل من اجل رفع مستوى التأهيل في داخله الى الشكل الذي لو ظهر امامهم غداً فانهم لن يتحدثوا بمنطق يا ليتنا كنّا معكم ولن يتحدثوا بمنطق اذهب انت وربك فقاتلا وانما سيكونون من التواقين الى ان يفدوا الامام صلوات الله وسلامه عليه، وستكون هناك حالة يتماوج فيها الحماس وابراز الاستعدادات بكل المستويات وتأهيل النفس معنوياً الى ان تبذل كل شيء من اجل الامام عليه السلام، اذن الان حينما نشاهد طريق الجنة طريق الامام الحسين عليه السلام نشاهد نساء ورجال واطفال ومعوقين ومرضى وكل الاصناف يتحملون العناء والضنك حباً للإمام الحسين عليه السلام فماذا يفعل هؤلاء لو قال لهم المنادي ان ثأر الامام الحسين عليه السلام قد حضر؟ نحن نزعم ان هذه الملايين ستتضاعف عشرات الاضعاف بمجرد ان يُطلق لها الاذن في ان القضية اصبحت جدّية، اليوم التأهيل الى المعاني المعنوية العظيمة اصبحت جاهزة وفي الكثير من الاحيان قلوب هؤلاء اصبحت جاهزة، تحدثنا هنا فقط عن زيارة الاربعين وطبيعة مظهر زيارة الاربعين لكن هناك مظاهر اخرى مثل المنبر والقصيدة والشعارات والتظاهرات والمسيرات والمواكب والحسينيات والاطعام، مسيرة الاربعين بينت صورة عن هذه المظاهر العالمية الهائلة جداً بحيث اقنعت الكثير من الذين يقولون ان قضية الامام الحسين عليه السلام مجرد عواطف ثم تبين لهم ان العواطف هي مرحلة الكسب الأولى ثم يتحول هؤلاء الى عابس في حب الامام الحسين عليه السلام، هذا الانجاز حرّك جملة من السنن التاريخية ولا شك ان هذه السنن اصبحت تؤهل هذا المجتمع الحسيني في ان يُحدِث التغيير الحضاري المنشود غاية ما هنالك انه يحتاج الى القائد فقط، اذا لاحظنا طاعة الناس الى المرجعية بهذه الطريقة التي نشاهدها اليوم فكيف ستكون طاعة الناس الى إمام الزمان؟ قد يكون هناك من يقول ان الناس أكثر من مرة خالفت المراجع، نعم هي مخالفة بالمصاديق وليس رغبة في المخالفة وانما دُلِّس عليهم بهذه القضية او بتلك بحيث تصوروا ان ما فعلوه هو طاعة المرجع ولم يختلفوا في أصل القضية وهي طاعة المرجعية، نعم هناك احزاب شوشت ودلّست بالنتيجة لم تكن الرؤية واضحة لديهم لكن الاصل لديهم هو طاعة المرجعية وهو أصل يلتزمون به وفق الصورة العامة التي نراها، نعم الناس تتوزع على عدة مراجع لكن ماذا إذا اتحدوا على رؤية واضحة وتكليف واضح جداً؟ فكيف سيكون توجههم الى هذا الهدف وكيف ستكون الرغبة في تحقيق هذا الهدف؟ لنا ان نتأمل ونشاهد وضوح الصورة في شعب استعد ويعمل أكثر من ذلك من اجل ان يستعد أكثر وكل رغبتهم في ان يرضى الامام الحسين عليه السلام ومعناه ان يرضى الامام المنتظر صلوات الله عليه، هذا يحكي عن عمق الانتماء والالتزام بالإمام المنتظر ارواحنا له الفداء والحمد لله اولاً واخراً والصلاة والسلام على رسوله وآله ابداً.
https://telegram.me/buratha