ان السید السيستاني ومدى أثره يعد لغزا بحد ذاته لاسيما بالنسبة للذين ينظرون إلى نهج سماحته بالمعايير والمقاييس التي تحكم شخصية وسلوكيات الساسة الشهيرين. وكيف أن انسانا ورعا وتقيا، اختار الزهد والورع ويتحاشى مظاهر البهرجة ولفت الأنظار، ولا يخرج لسنوات من بيته المتواضع، ولا يتحدث إلى الإعلام، وقلما تنشر له صورة أو فيلم، أصبح في الوقت ذاته، أكثر الشخصيات أثرا في عراق اليوم ومرجعا كبيرا للشيعة، ويتمتع برموز جميلة، إذ نسعى في هذا المقال لتبيانها ولو باختصار.
وقبل عشر سنوات، وفي اعقاب سقوط صدام، سنحت لي فرصة بمساعدة حجة الاسلام والمسلمين الشهرستاني لزيارة العتبات المقدسة في العراق ولقاء سماحة اية الله العظمى السيستاني. وفي تلك الفترة وعقب العودة من العراق التقيت الكثير من كبار الشخصيات في البلاد ممن أكن لهم احتراما خاصا وبينت لهم إنطباعاتي واستنتاجاتي من أن سماحة السید السیستاني سيضطلع بدور فريد في مستقبل العراق.
وقد نشر نص مسهب عن ذلك اللقاء في وكالة الانباء الطلابية الايرانية (ايسنا)، وكان له انعكاس واسع النطاق. وجاءت القصة بمجملها في ظروف كانت تحاول فيه بعض المنابر في ايران وفي ضوء أحكام مسبقة أو مغرضة، إستهداف وانتقاد هذه الشخصية الفذة. الشخص الذي كان في تلك الحقبة يتابع بقوة الوضع في ايران وأوصى في ذلك اللقاء بضرورة الوحدة بين علماء الدين والأكاديميين، لكي لا يمس أساس وجوهر التشيع والثورة لا قدر الله على اثر حدوث فجوة وتصاعد الخلافات. واشار سماحته إلى أن غزاة العراق يخططون لغزو البلدان الاخرى في المنطقة، وقال أنه ربما نستطيع ذات يوم تحرير العراق من الإحتلال لكن إن حصل ذلك لا قدر الله مع المناطق الاخرى، فان التخلص منه سيكون في حكم المستحيل ربما.
وأتذكر أن سماحته قال: يجب طبعا في الداخل الحفاظ على قاعدة لا ضرر ولا ضرار. ولا يجب أن يضر أحد، أحدا. لكني أؤكد ثانية بالا يتوقع أحد المساعدة من الخارج والأجانب في معالجة المشاكل. وعلى الأشخاص النخبة والواعين والمسؤولين التعاون معا في إدارة شؤون الناس.
واضاف سماحته بأن لا أخرج من المنزل لخمس سنوات. فان كانت ايران تتمتع بظروف جيدة، فان قلبي يفرح. لكن صدقوني، إن تلقيت خبرا سيئا عن ايران، فان الألم يعتصر قلبي، وأن تداعيات خبر سئ عن ايران، أكثر إيلاما بالنسبة لي عن هذه الأعوام التي لم أخرج فيها من المنزل.
واستطعت بتوفيق من الله وبعد عشر سنوات أن أزور العتبات المقدسة والعراق عدة مرات، وساهمت هذه الزيارات في إضفاء عمق على المشاهدات السابقة. وكما نعلم، فان العراق يمر بمرحلة الإنتقال من التحديات الخطيرة والمدمرة التي تداهمه، وكان يواجه يوميا صعوبات ومشاكل وتعقيدات. وهذه المشاكل غرقت في يم الخلافات والأزمات الشخصية والجماعية وسويت لا على يد رجل سياسي مقتدر حيث يفتقده العراق، بل بفضل تشخيص وتوجيه أحد كبار مراجع الشيعة في الحقبة المعاصرة للعراق. لكن السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه هو: كيف أن اية الله السيستاني الذي نادرا ما يرضى بذكر اسمه في وسائل الاعلام، اضطلع بهكذا دور جسيم.
إن معرفة ودرك مدلولات الإضطلاع بهذا الدور، يمكن أن يقودنا إلى الدرك الأفضل لمؤسسة التشيع الدينية لاسيما مؤسسة المرجعية. ومع القبول بالفوارق الأساسية بين ايران والعراق، والتي لا يمكن تعميمها على أحدها الاخر في الكثير من الحالات، فان تحليل نوع الممارسه السياسیة التي تنتهجها المرجعية في النجف الأشرف، يمكن أن تفتح نافذة أخرى على دور وقدرة هذه المؤسسة في عالم التشيع، وهذا الموضوع يكتسي نقاطا كثيرة بالنسبة لي حيث أعتبر نفسي من أنصار “مدرسة الإمام الخميني” وإبن “الثورة الاسلامية” واعتز بذلك دائما، ورأيت لزاما عليّ أن أعطي روايتي وانطباعي عن هذه المدرسة تأسيسا على ما شاهدته بام عيني والحقائق التاريخية. إن نظرة واسلوب الممارسه السياسيه لدى مراجع الشيعة، في مجال السياسة وطاقاتها المختلفة في كل زمان ومكان، يمكن أن يظهر كيف أن كبار مراجع الشيعة أرسوا مشروعا جديدا مستلهمين بذلك من الأئمة المعصومين وبناء على الظروف والطاقات الإجتماعية والسياسية على غرار ما شهدناه في الثورة الاسلامية، ويتحركون بابعد من الأطر السائدة والمتبعة.
تنوع سلوك المرجعية الشيعية تجاه السياسة
لقد اعتمد كل من أعاظم وكبار المرجعيات الشيعية على امتداد تاريخ التشيع، سلوكا يتناسب مع مقتضيات الزمان والمكان فيما يخص تواصلهم مع الجماهير وتعاطيهم مع أنظمة الحكم وذلك في اطار الإنطباعات الفقهية ومقتضيات الزمان والمكان. إن هذا التنوع في اختيار السياسة والنهج في التعاطي مع الأزمات السياسية والاجتماعية، يبرز بحد ذاته الطاقة الهائلة التي يتمتع بها الفقه الشيعي ومؤسسة المرجعية. ويمكن تلخيص أهم هذه السلوكيات في اربع فئات هي كالآتي:
إعتزال السلطة والسياسة ونبذ أي حكم بغير الإمام المعصوم
المسايرة والحضور بجوار السلطة والسياسة للحفاظ على مصالح الدين إلى قبول السلطة والحكم المأذونين من الفقيه
تشكيل نظام الحكم في إطار ولاية الفقيه المطلقة
إعتزال السلطة السياسية والتنفيذية لكن المراقبة والإشراف على السياسة
إن الحوزة العلمية في النجف الأشرف والممتد تاريخها لألف عام، وبوصفها وريثة فقه أهل البيت عليهم السلام، شهدت عهودا وتقلبات مختلفة، لكن السياق العام في النجف الأشرف تمثل في تجنب السياسة بمفهوهما الرائج. إن أحد أصعب الدورات، كانت فترة نظام حكم صدام الذي صب جل اهتمامه على القضاء على هذه المؤسسة العلمية والثقافية الشيعية الكبرى، لكن هذه الحوزة بقيت صامدة في ظل الصمود والنهج الحصيف لعلماء كبار بمن فيهم اية الله السيد محسن الحكيم واية الله السيد ابوالقاسم الخوئي، لكي تعود إلى سابق عهدها من جديد. إن الحوزة العلمية بقم التي بثت الحياة إليها من جديد على يد اية الله الحائري اليزدي ومن ثم اية الله البروجردي، وتألقت مع إنتصار الثورة الاسلامية، تحولت إلى أمل للشيعة في العالم. ويرسي النجف الأشرف وقم المقدسة اليوم وبوجود مراجع عظام فيهما وبوصفهما جناحي التشيع، عهدا حاسما ومصيريا لمذهب أهل البيت عليهم السلام، وفي الوقت ذاته فان كلا من هذه الحوزات، يملك طاقات ونهجا وخبرات فريدة من نوعها، يجب اقتناصها واستخدامها لإيجاد قفزة وتطور آخر.
وفي ايران قاد آیة الله الخميني الذي كان إبن الحوزة العلمية بقم وعاش لسنوات في النجف الأشرف منهمكا في البحث والتدريس، الثورة الاسلامية في ضوء عقيدة ولاية الفقيه، وقادها إلى النصر مدعوما من الشعب. وتجلت عقيدة آیة الله الخميني رسميا في الدستور الذي صادقت عليه الثورة، وخضعت للإستفتاء العام ولقيت اقبالا من الجماهير وتحولت بالتالي إلى ميثاق وطني لإدارة الحكم. إن ما قدمه آیة الله الخميني في ايران، توسع على مر الزمن، وكان الإمام قد انتقل عام 1979 من طهران إلى قم ونقل شؤون الحكم إلى السياسيين، لكنه عاد مجددا إلى طهران وفق ما أملته عليه مقتضيات الثورة. ومن ثم عرض سماحته نظرية ولاية الفقيه عام 1988.
وبغض النظر عما اذا كان آیة الله الخميني اليوم بين ظهرانينا، وما التطور الذي كان سيطرأ على اجتهاده في مجال الحكم، لكن تجربة نظرية آیة الله الخميني طوال سنيي حياته وبعدها، وضعت خبرة فريدة بتصرف العلماء المعاصرين، لتسليط الضوء على القضايا النظرية في مناخات حقيقية وعلمية وممارسة الإجتهاد في هذا الخصوص.
النجف الأشرف ما بعد سقوط صدام
إن سقوط صدام وسيادة الشعب العراقي على مصيره، فتح نافذة أخرى أما مختلفة أمام العلماء الشيعة في العراق. ولم يرحب علماء النجف الأشرف بشكل يذكر بالمشاركة المباشرة في السياسة وأحجموا عن الإضطلاع بدور في المجال التنفيذي، وحظروه بقوة. وسبب ذلك يعود إلى ثلاث نقاط. الأولى أن المقتضيات السياسية والاجتماعية والتركيبة العرقية والطائفية في العراق لها تعقيداتها الخاصة بها، وتستحدث مناخا مختلفا كثيرا عما هو في ايران. والثانية وكما ذكرنا سالفا، فان الآراء الفقهية لعلماء النجف الأشرف لا ترى من الضروري التواجد المباشر في السياسة والإمساك بمقاليد الحكم والسلطة في زمن غيبة إمام العصر (عج)، والثالثة أن الدور الذي اضطلعت وتضطلع به مؤسسة علماء الدين والحوزة العلمية في النجف الأشرف بالعراق ، يختلف مع بلد مثل ايران من جوانب مختلفة.
وفي حقبة ما بعد صدام، ربما خضع علماء النجف الأشرف وعلى رأسهم المرجعية العليا، تحت أثر تقاطع الفكرين المختلفين لاية الله العظمى الخوئي وآیة الله الخميني، فلم يعتمدوا لا أسلوب الإعتزال وعدم الإكتراث والإنكفاء على السياسة ولا أسلوب الإمساك بالسلطة. وطبعا فان اية الله الخوئي ومع احترازه خوض السياسة، دخل الساحة شخصيا في الإنتفاضة الشعبانية تلبية للإضطرار الإجتماعي. كما أن علماء النجف الأشرف تصرفوا ما بعد عهد صدام بنشاط في المجال الإجتماعي وكمراقب للسياسة. وبالتالي فان الشبكات الاجتماعية القوية والتواصل مع المؤسسات الاجتماعية المختلفة والشرعية الدينية، أدى إلى أن تضطلع المرجعية بدور أحد أقوى وأمتن المؤسسات المدنية للمجتمع وتجعل السلطة السياسية تتأثر بقوة بها. وإن نظرنا بمزيد من الدقة، سنرى أن مطلب واجراءات المرجعية الدينية، كانت تعكس بشكل عام مطالب الشعب العراقي، والتي وجدت نفسها في قالب مؤسسة مرجعية التشيع. إن مؤسسة المرجعية وبدلا من الإنخراط في الخلافات والفجوات السياسية، جعلت من نفسها قوة اجتماعية صلبة، لمنع السياسيين من ممارسة الإستبداد. وبدلا من تلطيخ مؤسسة الدين بالسياسات الروتينية، أثرت على مؤسسة السياسة لتعترف بالموقع الديني والجماهيري لمؤسسة الدين، وتحترم قيمها الأساسية. وهذا هو الأسلوب الوسطي والإشراف على السياسة والسلطة بالتلازم مع زعامة الأمة والذي أشير إليه في تصنيف أساليب الفقه الشيعي. وكل هذا يحدث بينما لا تتدخل المراجع الدينية في الكثير من القضايا السياسية وفقا للسنة السائدة في النجف الأشرف، وقلما تلقي خطابا وكلمة حول القضايا الجارية اليومية وتتجنب بشكل عام الدخول في القضايا الجزئية السياسية وحتى في إطار الإستفتاء.
عوامل قوة ومكانة مؤسسة المرجعية في النجف الأشرف
وفي إطار فهم المكانة الحالية للمرجعية الشيعية، فان النقطة التي تبدو واضحة هي اقتدار ومشروعية المرجعية التي تنبع من صميم عملية تبوؤ المرجعية. إن مراجع الشيعة استمدوا طوال التاريخ قوتهم ومشروعيتهم من الضرورات الدينية والمكانة العلمية والقاعدة الإجتماعية. إن المرجعية هي حصيلة عشرات السنين من بناء الذات الفردية والاجتماعية والتعليم والبحث والتأليف وهي قائمة على الشبكات الاجتماعية الواسعة. وهو ما يحول مؤسسة المرجعية لا إلى مؤسسة حكومية، بل إلى مؤسسة اجتماعية ومستقلة ويضفي عليها قوة تفوق بكثير المؤسسات السياسية. إن إلقاء نظرة على ماضي ودور كبار مراجع الدين في النجف الأشرف وقم يشهد على هذه السنة الحسنة.
زعامة اية الله السيستاني على الحوزة العلمية بالنجف الأشرف وخصائصه الشخصية
والنقطة الاخرى هي التوجه الباطني والمولدة للقوة لحوزة النجف في فترة ما بعد سقوط صدام، حينما أكد كبار علماء النجف الأشرف في خطوة تكتسي بقيمة وسرعة على زعامة اية الله السيستاني للحوزة العلمية للنجف الأشرف، ولم يسمع أحد بعد ذلك صوتا معارضا من العلماء الرئيسيين للنجف (اية الله فياض واية الله الحكيم واية الله بشير النجفي). وتمشيا مع الأسلوب المعتمد من قبل كبار علماء النجف تجاه القضايا المهمة، فان اية الله السيستاني أخذ يستشير جميع المراجع الرئيسيين في النجف، واتبع الطريقة الإجتماعية. إن رأي ورؤية اية الله السيستاني هي في الحقيقة رأي جماعي ينبع من صميم رؤى ووجهات نظر المراجع وعلماء الدين الكبار في النجف والقائم على المبادئ الدينية وينبع كذلك من صميم المطالب الجماهيرية، وليس رأيا شخصيا. إن هذه القوة والمشروعية تؤدي إلى أن تكون مؤسسة المرجعية في منأى عن الأساليب التحكمية بل تعتمد الاسلوب الأبوي والنصح في اتخاذ التوجهات والأدب السياسي، وتتجنب المقاطعة والتحريض اللا مبرر له. فعلى سبيل المثال، وعلى الرغم من الحساسية الجادة تجاه وضع المسلمين في العالم والشيعة في العالم المحتقن المعاصر، فان المرجعية تتحاشى بشدة اصدار البيانات السياسية البحتة والقاء الخطابات والتصريحات النارية، وفي الوقت ذاته، فانها تقدم رؤى ووجهات نظر بناءة واستراتيجية خلال اللقاء مع المجموعات الشعبية من أرجاء العالم، واستقبال الساسة وصناع القرار في العالم، لتحاول بذلك أن يخرج التشيع مرفوع الرأس من داخل الأزمات. إن بيانات اية الله حول تفجير مسجد الشيعة في القطيف وبيانه حول كارثة منى، خير دليل على ذلك.
المرجعية هي كمؤسسة مدنية
إن شرعية مؤسسة المرجعية ومكانتها في المجتمع، أسهمت في أن يقف المراجع العظام جيدا على مطالب الشعب ومشاكله. لكن خوض سماحته هذا الميدان، لا يأتي من منطلق المنصب الحكومي والسياسي بل من منطلق مؤسسة مدنية تؤثر على الحكومات، لكي تلبي مطالب الشعب. وعندما يرى اية الله السيستاني أن الحكومة غير قادرة على تلبية المطالب العامة ومطالب الطوائف المختلفة، فانه يتجنب بداية الاستقبالات واللقاءات ومن ثم يوصي بإحداث التغيير، لكنه لا يتدخل بصورة تحكمية في العملية السياسية، ولا يصر على أن يتولى أنصاره، مناصب في الحكومة.
المرجعية هي الحد الفاصل بين الحكومة – الشعب
وكما أسلفنا فان الجذور الحقيقية لأثر اجراءاته تكمن في قوة مؤسسة المرجعية واستقلالها والا فان سماحة السید لا يملك موقعا في الدستور العراقي ولا يملك سلطة من الناحية القانونية. لكن القوة الفعلية للمرجعية هي في الحقيقة نابعة عن الرعاية الإلهية والاسلوب الجماهيري الذي اختار هذه المؤسسة لنفسه. إن هذه المؤسسة مستقلة عن الحكومة لكنها تعد الحد الفاصل بين الحكومة والمجتمع. وهذا الحد الفاصل يضفي عليها قوة وقدرة. إن مؤسسة المرجعية وفي هكذا مسار، لا تعتبر جزء من السلطة السياسية الرسمية حتى تصبح ضحية الفجوة بين الحكومة والشعب ولا هي جزء غير مكترث من الجسم الاجتماعي الذي لا يملك سلطة في السياسيات والمسارات. انه على الحدود بين الحكومة والشعب لكي يحمي الشعب ويحتوي الحكومة في الوقت ذاته. أن يوصي الشعب بالإمتثال للحكومة وأن يدفع الحكومة للإمتثال لآراء الشعب. وهذا الموقع يسهم بالا يحتاج إلى الأدوات الحكومية لتحقيق مصلحة الشعب، بل ان الدولة والحكومة يريان بانهما بحاجة إلى المرجعية لاستمداد الشرعية منها. إن هذه العملية من إستمداد الشرعية في بلد ديني كالعراق، يشكل جزء ذاتيا من مسار الديمقراطية الشعبية. والتوسع في هذه الفكرة بحاجة إلى مجال اخر.
إن قوة مؤسسة المرجعية في بلد كالعراق والتي تعرّف نفسها في إطار المؤسسة الدينية الاجتماعية، يمكن مشاهدتها في مواجهة خطر داعش المحدق. وعندما يبرز خطر داعش ويعرض مصداقية الاسلام ووحدة التراب العراقي للخطر، فانه يصدر أمر بالجهاد من قبل المرجعية، وهذا الأمر هو أكثر نفوذا من الاجراءات والتعليمات العسكرية والسياسية للساسة. وعندما هرب الجيش العراقي، هرع الشعب إلى الجبهات واستقر في الخنادق والمتاريس في مواجهة داعش بامر من المرجعية، ليتضح بان السلطة السياسية البحتة لا تحفظ وتكفل كل شئ بل أن القوة المعنوية والخبروية الفقهية والسياسية المستندة إلى الشعب تعد بدورها عاملا حاسما ومصيريا للغاية.
الحساسية في مقابل الفساد
والنقطة المهمة الاخرى، حساسية المرجعية في قبال احتمال وقوع وحصول الفساد. إن مراجع الدين في النجف يعيشون في بيوت متواضعة وبسيطة للغاية وبطريقة شفافة جدا. إن الدورة المالية لهذه البيوت تتم بصورة مستقلة عن الحكومة وتأسيسا على الأموال الشرعية أو الإعانات الشعبية. إن اية الله السيستاني واقف على إمكانية الفساد. إنه يعرف جيدا بان هذه المؤسسة القوية وصاحبة القيمة، يمكن أن يطمع بها الاخرون. إن المرجعية في النجف الأشرف لا تملك جهازا عريضا وطويلا بحيث تعجز عن إدارته. والمدفوعات تتم ضمن حسابات واضحة. إن جهاز المرجعية في النجف لا يملك ميزانية حكومية. كما أن بساطة ونقاء وصفاء هذا الجهاز واستقلاليته عن الميزانية الحكومية، يجعل اية الله قادرا بسهولة على إتخاذ موقف صلب في مواجهة الفساد الاقتصادي والسياسي في العراق ويعتبر مكافحة الفساد من أهم مطالبه من رجال الدولة.
الحساسية في مقابل التملق وتشكل تيار موالٍ
إن مجال التملق والتزلف في بيوت مراجع النجف الأشرف ضيق، لان الإنتماء إلى المرجعية أو كون المرء عضوا من أعضاء البيت أو المنتمين إلى بيت المرجعية أو كون المرء تلميذا لمرجع ما، لا يعد مزية اجتماعية. لانه ليس مقررا أصلا أن يتولى طلبة العلوم الدينية مناصب تنفيذية وسياسية أو أن يتولوا هكذا مناصب بتوصية من اية الله، ولا دافع لديهم سوى الدراسة والتحصيل العلمي. ورغم العناوين المدروسة في حوزة النجف الأشرف، فانها لا تجلب المنزلة والسلطة لاحد، لذلك فانه في العصر الذي يتزايد فيه التنافس لاكتساب الألقاب، فان سماحته يحذف لقب اية الله عسى أن يكون أسوة للآخرين. وقد تجنب سماحته تشكل تيار تحت مسمى أنصار اية الله ولم يسمح لاحد أن يحول دون حرية الاخرين تحت عنوان الدفاع عنه، أو أن يطلق بحجة الدفاع عنه شعار “يحيى …” و “يسقط …”. إنه لا يملك أصلا شيئا إسمه أنصار متحمسون، ولا يعترف بالتطرف في أي مجال وحقل، وإن كان ذلك الشئ دينيا، فان التحفظ سيتضاعف عدة مرات. إن أنصاره هم الأشخاص المؤمنون بالله وزينة لاهل البيت عليهم السلام، أكان المرء مقلدا لاي شخص كان، فالأمر لا يفرق.
تجنب تسييس البيت
لا يعقد سماحة السید السیستاني لقاءات منتظمة مع المسؤولين السياسيين والوزراء وأعضاء البرلمان. ولا يحصل أي مسؤول على تأييد لأعماله من سماحة السید٬ ولا يتمتع بالضرورة بتأييد سماحته. أن يحدد مكتب اية الله موعدا للقاء أحد ما، فهذا لا يعني الرضا عن أدائه، ولا يحول دون استجوابه. فالبيت يعرف السياسة وعلى صلة بالسياسيين لكنه غير سياسي وخاصة أنه غير مسيس، ولا يملك طول وعرض مؤسسة سياسية. ومن وجهة نظر حوزة النجف الأشرف، فان مكانة وشأن المراجع أرفع من هذه الاعتبارات ولا حاجة لبيت ومكتب عريض وطويل. فالمرجعية تصدر الفتاوى وتبدي وجهة نظرها وتمارس الأبوة لكنها لا تصدر الأوامر. إن سماحة السید السیستاني ليس بحاجة إلى التدخل في كافة تفاصيل السياسة ولا حاجة له للحصول على معلومات معدلة ومصححة، واصدار توجيهات على أساسها. إن المرجعية تحصل على المعلومات اللازمة من خلال لقاءاتها مع النخبة وشرائح المجتمع وتقرأ الصحف والكتب وتتابع أخبار وسائل الاعلام المسموعة والمرئية.
تجنب الدعاية والمنافسة
إن قوة المرجعية الشيعية لا تتأتى من الدعاية المعمول بها والتواطؤات السياسية والاقتصادية والمافيائية الرائجة. إن سماحة السید السیستاني لم يتخذ أي اجراء شخصي لتقوية وتعزيز نفسه. إنه لا يدخل في منافسه مع أحد وقد اكتسب موقعه الفقهي والسياسي والاجتماعي على مر السنين من البحث والرياضة الروحية ومن صميم تراتيبية الحوزة وعلى مر الزمان. فلا أحد مكلف بتجميل صورته وهو يمنع دائما هكذا ممارسات. إنه يعتبر مجمل قوته وكل ما يملكه نابعا من بركات أمير المؤمنين (ع) ويتوكل على الله تعالى في كل شئ. والمسألة الاخرى هو مناشدته لجمع صوره من الشوارع والدوائر. الإجراءات التي وضعت من قبلة بدقة على جدول الاعمال لتصون مؤسسة المرجعية من شرور الآفات والأضرار المحتملة.
المرجعية؛ الحرية وحقوق المذاهب وعامة الجماهير
إن معارضة أو الموافقة على فتوى للمرجعية، لم تشكل أبدا دليلا للضغط على الأناس الذين لا يوافقون عليها، وبالرغم من وجود أرضيات تبلور هكذا مناخ في العراق، فان سماحته وقف ضده بقوة. إن عامة الناس يعملون في سياق دينهم وفقا لمصداق “لا إكراه في الدين“. وحتى عندما يستفتيه الطلبة بشان الوضع غير المناسب لحجاب الفتيات في الجامعات، فان سماحته يؤكد على ضرورة تعزيز الإيمان الفردي للطلبة ولا يصر على إبراز الأبعاد العقابية للدين. إن سماحته لا يبدأ الدين بالعقاب والجزاء.
إن المرجعية لم تتدخل إطلاقا في حياة عامة الناس. إن ما يرتديه الناس وما يقولونه وما يشاهدونه، ليست قضية لمرجعیة. إن سماحة آیة الله السیستاني يصدر الفتاوى ويحرص ويوجه ويرشد، لكن حسب رأي كاتب هذه السطور، فان مسالته ليست هذه الموضوعات. إن هذه النقطة يمكن أن ترشدنا إلى الوجه الاخر للمدرسة التي أطلقت عليها إسم “مدرسة السيستاني“، وهي أن حرية المسلمين في مدرسته، لا تتنافى مع الدين. إن سر هذه القضية يكمن في أنه يعلم علم اليقين بان مؤسسة الدين مازالت تعد أقوى مؤسسة اجتماعية في البلدان الاسلامية. إنه يعرف جيدا إن مؤسسة الدين إن بقيت صامدة لقرون وتتوسع وتكبر شجرتها يوما بعد يوم، فان ذلك يعود إلى احترام الجماهير ومنح الحرية للناس في تركيب نمط حياتهم مع الدين. الجماهير التي غيرت باستمرار نمط حياتها بطريقة مبدعة وتمزجه بطابع الدين وتعاليمه، وتجعل من الدين قيمة جوهرية وأساسية. ومن تركيبة حرية الجماهير وتدينهم، استطاع الدين الاسلامي أن يدخل كل مجتمع بدء من ايران والعراق مرورا بالصين وماليزيا وصولا الى البلدان الأوروبية والغربية، ولا يستحدث تضادا لعامة الناس فحسب بل يزيد من الثراء الثقافي لتلك المجتمعات. إن هكذا توجه أدى ألا تظن المرجعية في العراق بان دين الجماهير يمكن أن يصبح ألعوبة بيد هذا وذاك وألا يرفع أحدهم هتاف وا إسلاماه.
والمقياس الآخر الذي تتميز به مدرسة السيستاني ويجعلها مؤثرة، هو نظرته الحمائية للمذاهب الاخرى. فكان سماحته الرائد ليس في حماية عموم الشيعة فحسب بل حماية المذاهب الاسلامية الاخرى، ويمضي قدما لدرجة أنه يخاطبهم على أنهم “نفس وروح الشيعة” ويرفع راية دعم وحماية باقي الأديان وذهب إلى أبعد من ذلك وشكل غطاء لعامة الجماهير والناس في العراق.
إن الحقوق والأخلاق تحتل موقعا جوهريا ومميزا في فكر سماحة السید الیستاني. ويولي أهمية وقيمة سامية للتواصل السليم والصالح بين الناس بمنأى عن الدين والعرق والجنسية. وإن نظرنا إلى فتاويه، سنجد بوضوح أن سماحته أولى قيمة بالغة للانسان بما هو انسان وعدد مهام وواجبات كثيرة للمؤمنين في مراعاة هذه الحقوق، بما فيها عدم جواز نقض أي عقود في البلدان غير الاسلامية أو نقض العهد وحقوق غير المسلمين والكفار وعدم جواز البهتان حتى ضد أهل البدعة وعدم جواز الزواج القسري وايذاء الزوجة وإيذاء الأطفال وعدم الاعتراف بختان النساء كسنة وتحريم الغيبة حتى في حق الأبناء وعدم قدرة الأبوين والزوج في ممارسة العنف في للقيام بالتكاليف الشخصية للمرأة والأبناء المكلفين و… .
إن تركيبة الحرية والتدين في منظور مرجعية النجف لا تقتصر على المجال الاجتماعي بل انها تغطي المجال السياسي أيضا. ولم يُسمع ويُشاهد قط أن يُقدم سماحة اية الله السیستاني على منع أو إسكات مجموعة حتى وإن كانت من أشد معارضيه. وهذه النظرة التفاؤلية وانفتاحه أسهما في أن تكون الساحة السياسية في العراق تعددية وفسيفسائية، وأن يتواجد الجميع بكل توجهاتهم. وعلى الرغم من أن هذا التنوع والفسيفساء، تسبب للأسف باضرار بسبب قصر نظر بعض النشطاء السياسيين ، لكنه ليس بشئ غير متوقع نظرا إلى الماضي الإستبدادي لبلد مثل العراق. إن إقدام سماحته في العام الماضي للمساعدة على تداول السلطة في العراق ودعمه الشامل لمكافحة الفساد وعدم ربط مصير الساسة بالمرجعية والجهد الدؤوب لإستيفاء مطالب الشعب تظهر كلها بان سياسته تتمثل في حماية نبتة الديمقراطية بجانب مواجهة الأزمات لا التركيز على الأسماء وتقرب وبعد الأشخاص عنه. وربما في أي بلد اخر وتحت ذريعة مكافحة الإرهاب والتقتيل اليومي، لكان الساسة والحكام بوسعهم تثبيت وتعزيز كراسيهم ونشر حكمهم الفردي كما هو رائج ومعمول به في الدول العربية بحيث ان رئاسة الجمهورية تتحول إلى رئاسة على مدى الحياة، لكن المرجعية، لم تضح بالديمقراطية من أجل الاستقرار. لانها تعرف أن الإستقرار طويل الأمد يتحصل فقط عن طريق الحوار والتعامل وتداول السلطة. ونفس الأسلوب هذا، اتبعه سماحته في مجال الإعلام. إن سماحة السید السیستاني يعرف ان بعض التلفزيونات الدينية تتصرف على النقيض من رؤى علماء النجف وأن وسائل اعلام اخرى تحارب علماء الدين، لكنه لم يعط رأيا باغلاف وحجب وسيلة اعلامية ما في العراق وأن محتويات وسائل الإعلام لا تستفزه أصلا. وحتى عندما تنسب عشرات الأكاذيب إليه يوميا، فانه لا يهتم بنفيها ولا يصدر نفيا إلا في حالات نادرة. إن المبدأ بالنسبة له هو رحابة الصدر وحفظ مؤسسة الأخلاق والحرية وأن اجراء كهذا له ثمنه بطبيعة الحال.
المرجعية والسلوك الشخصي
نعم، إن المرجعية تحرص على الأمة وهكذا فان سماحته يتولى المرجعية العظمى للشيعة وزعامة الشعب العراقي، من دون أن يمسك بالسلطة السياسية. إن رؤيته ووجهات نظره مهمة لكل سياسي يأتي الى العراق من شرق البلاد الإسلامية وغربها، لكنه لا يملك سلطة عسكرية ولا حزبا سياسيا ولا رأسمالا اقتصادي. إنه يقيم في بيت مستأجر يعيش فيه منذ 35 عاما، وقلما تمتع بمواهب الحياة. إن زيه هو الزي الطلابي لعامة المراجع الكبار في تاريخ التشيع منذ البداية وإلى الان، وأن الدنيا بكل زخارفها وظواهرها الخادعة، لم تتسلل إليه ولم تخترق بيته المتواضع. إنه يوجه السلام والتحية لمولاه علي (ع) ليليا ويجلس على الكرسي نفسه الذي يجلس عليه ضيوفه، وعلى الرغم من أن مكتبه توسع إلى حد ما، بناء على الزيارات العديدة والكثيرة للناس وطلبة العلوم الدينية والنخبة والساسة، لكنه حافظ على بساطته التي كانت قبل عشر سنوات، ويعتمد أنجاله نفس الأسلوب الذي كانوا يتبعونه في السابق، في التعامل والتواصل مع الناس. إن صفاء وبساطة مكتب سماحة السید السیستاني يترك إنطباعا فريدا لدى زائريه، وأن مرور الزمن لم يؤثر على سماحته وأن توسع نطاق نفوذ كلامه، لم يؤثر على بيانه الناصح والمنصف، وأنه يتحدث ويتكلم بنفس السياق والأسلوب الذي كان يتحدث فيه قبل عشر سنوات. إن نضج ودراية سماحة السید السیستاني تتعمق يوما بعد يوم، وفي كلامه وحديثه مع الاخرين فانه لا يقاطع كلام أحد ولا ينهي الكلام هو. وكلما تحدثت إليه وتصغي إليه، فان بمقدروك نقده في حضوره وحتى أن تكون أنت من تنهي الكلام. إنه يجلس أمامك ويتحدث أمامك. إن متعطش للمعلومات ويصغي بشكل جيد. إنه يفترض من يخاطبه بانه ضيفه وأن ادبه وآداب الضيافة، تدهش الضيف والزائر. إن تواصله الكلامي في مستوى واحد ولا يوحي بهذا الشعور للمخاطب بان أحدا يتحدث إليه من موقع أرفع وأعلى.
وبعد عشر سنوات، ربما كان الأثر الوحيد للأيام والزمان هو الشيب الذي غطى لحية سماحته٬ وأنت تواجه اليوم شخصا يحظى بمكانة مرموقة لدى العالم، من دون أن يستحدث هذا الموقع، تغييرا في سلوكه ونهجه على مدى عشر سنوات. إنه يعتبر مقتدانا علي (ع) مقتداه. نعم، إن الشيعة تبدي نفائسها في جهاز أبو العجائب.
خاص شفقنا
https://telegram.me/buratha