بقلم الشيخ: أحمد الكرعاوي
إن منهج القرآن باعتباره دستوراً للأمة التي تعتنقه يسعى إلى تربيتها وتثبيت جذورها ومراقبة حركة هذه الأمة وفرز العناصر الإيجابية داخل كيانها وكذلك السلبية بالنقد الدقيق والإشراف المستمر والسعي لصيانة الأمة من الانحراف والضعف وإنعاش الجانب الفكري والنفسي فيها .
فإذا مرت الأمة بأزمة فكرية أو نفسية أو أخلاقية يسعى إلى تحليل عناصر تلك الأزمة مشيراً إلى مواطن الخلل وداعياً إلى العمل والرقي مادحاً الصابرين في المحن ومعاتباً غيرهم من الذين سقطوا في الفتنة بلسان الأب الحاني فاتحاً لهم باب الرجوع إلى دفء الشريعة ورعاية النبوة حتى تتحرك الأمة بشكل قوي وفعال.
فدأب القرآن على طرح القواعد العامة داعياً الأمة إلى تطبيقها ومن ثم مراقبة حركة الأمة بالنقد والإشراف فمثلاً عندما طرح فكرة الجهاد ودعا إليه راقب الأمة وهي تخوض الحروب في معركة بدر وأحد وحنين، ويستطيع القارئ أن يتابع الآيات كيف تعرضت إلى التفاصيل أثناء المعركة وبعدها فهو لم يذكر هذه التفاصيل قبل المعركة لأنه كتاب لا يبني حركته على الفرضيات والتقديرات بل كتاب حي يعالج الواقع وهذه طبيعته في الأعم الأغلب والآية التي نتحدث عنها نزلت بعد واقعة أحد والقرآن يشير إلى الانتكاسة النفسية التي منيت بها الأمة بسبب خسارة المعركة فيرصد هذه الظاهرة ويشخص الأمراض ثم يعالجها بشكل هادئ.
أزمة الأمة النفسية
بعد واقعة أحد أصيب المسلمون بوهن كما أشارت الآية إلى ضعف في العزيمة وفتور في الهمة في إقامة معالم الدين وهذا خطر كبير جداً عندما يستطيع العدو نقل الهزيمة من الخارج إلى النفس وتصبح الهزيمة نفسية لأنه يؤدي إلى انهيار كيان الأمة بفترة قصيرة فتذهب جهود مؤسسيها أدراج الرياح.
وكذلك الحزن بسبب فقد الأحبة أو ضياع النصر لأن الحزن منشأه فقدان محبوب وقد يكون المفقود شخصاً أو مقاماً أو غير ذلك والأمة بسبب تجربتها في بدر والرعاية الكبيرة لها من قبل المولى أصبح لدى النفوس ارتكازاً عاماً بأن النصر حليفهم هذه المرة أيضاً ولكن أسباب النصر لم يشأ المولى أن تجري بدون مسارها الطبيعي وهو الاستعداد والتهيؤ حتى يفيض النصر عليهم، إذاً الخسارة الظاهرية أوجدت في الأمة أزمة نفسية وأجواء هذه الآية تسعى إلى علاج هذه الأزمة .
الإيمان مفتاح العلاج
إن الآية تثبت للمؤمنين العلو رغم أنهم الآن يعيشون حالة خسارة في إحدى المعارك المهمة وهي معركة أحد ورغم استشهاد كثير من الشخصيات المهمة كالحمزة بن عبد المطلب (ع) وغيره من المؤمنين و العلو الحقيقي هو الإيمان لأنه يستتبع الصبر والتقوى وكل هذه العناصر تمنع من حصول الوهن أي الفتور في الهمة لأن المولى هو ولي المؤمنين ويرعاهم ويسددهم والعثرة في الطريق لا تعني السقوط بل مضاعفة الهمة والجد في الحركة.
وقد ظن المؤمنون خطأً أن العلو الآن مع المشركين بسبب الانتصار الظاهري في معركة أحد لكن المولى يوضح لهم بأن العلو لا يزال يلازمهم بسبب الإيمان وهذا هو العلو الحقيقي وإن الضعف والحزن الذي دب فيهم بسبب اعتقادهم الخاطئ وهو ناشئ من خسارة المعركة فجاء العتاب لهم رقيقاً للتوضيح أن العلو يلازمهم ما داموا ملازمين للإيمان وكان هذا من شأنه أن يبعث روح الأمل والعمل والنشاط فيهم.
كيف يجتمع العلو الحقيقي مع الخسارة العسكرية
ومن هذا يتضح أن العلو المقصود في الآية هو العلو الحضاري، أنتم أرقى حضارة من هؤلاء الذين لا يملكون مبدأً صالحاً ينتمون إليه يمدهم بالقيم والوعي والدفء النفسي فالإيمان الذي تمتلكونه يعني المبدأ الصالح المكون للحضارة الذي يبث في أوصال الأمة القيم والهمة والوعي والمعرفة .
فأنتم لكم السيادة الروحية والأخلاقية والعملية والمشركين لا يوجد عندهم ما يؤهلهم للعلو في الأرض لأن نفوسهم خاوية من كل قيمة وهم متشتتون فيما بينهم جمعتهم أحقاد بدر وميراثهم الجاهلي وكلاهما باطل يزول في القريب العاجل وهذا ما حصل فعلاً أما أنتم فعليكم التمسك بالقيم الثابتة التي تكون منشأً للعلو الحقيقي وخسارة معركة لا ينفي سيادتكم الروحية والأخلاقية والسعي للسيادة العسكرية ودعم المولى لكم فكان العتاب شديداً لأن منابع الخير بين أيديكم والآخرون لا يملكون منبعاً أو ركناً يتكئون عليه.
لماذا قيدت الآية الأعلون بالمؤمنين؟ ألم يكونوا مؤمنين وهم أتباع الرسالة ووقفوا لقتال مشركي قريش مع أن الآيات المتقدمة من نفس السورة تخاطبهم بـ (يا أيها الذين آمنوا)؟ للإجابة على هذا السؤال ينبغي أن نفرق بين الإيمان وهو الاعتقاد القلبي وبين أن نعمل بمقتضى ذلك الإيمان واشتراط العلو بالإيمان إنما هو إشارة للمعنى الثاني أي أن نعمل بما يناسب ذلك الإيمان والإشارة إلى أن الجماعة وإن كانوا مؤمنين إلا أنهم غير عاملين بما يقتضيه الإيمان من إيجاد الصفات الملائمة معه كالصبر على البلاء والتقوى العالية ، فالمنفي ليس أصل الإيمان وإنما المنفي الأثر المرجو والمترتب عليه فقد يكون هناك أثر لإيمانهم لكنه كان ضعيفاً لا يليق بتلك العقائد الحقة ويمكن تصنيفهم إلى ثلاثة طوائف باعتبار اختلافهم في الإيمان :
الطائفة الأولى: هم المؤمنون حقاً وهي طائفة كانت قليلة لأنها لو كانت موجودة بكثرة لما حصل الذي حصل في معركة أحد ولما عتب المولى عليهم واشترط العلو بالإيمان لأن هذه الجماعة واجدة له، وهذا الخطاب وإن كان يشملهم لكنه بمعنى تنشيط نفوسهم أكثر من ذي قبل.
الطائفة الثانية: هم ضعاف الإيمان فيكون مثل هذا الكلام موعظة لهم وتذكيراً بواجبهم وتنشيطاً لهممهم إلى غير ذلك من الفوائد.
الطائفة الثالثة: مرضى القلوب ويكون هذا الخطاب تأنيباً لهم وزجراً لنفوسهم وأنهم كانوا السبب الأكبر في هذه الخسارة وإرشاداً لهم أن يسعوا إلى تحصيل رتب الإيمان العالية.
ففي هذه الآية إشارة واضحة إلى صفات المقاتلين ودرجات الاستعداد المتفاوتة وكيفية مجاراة القرآن للنفوس وكيفية المعالجة .
متابعة المشهد
{ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ } القرح هو الجرح الذي يصيب الإنسان من الخارج وهنا كناية عما أصاب المسلمين في معركة أحد لكن المولى يذكرهم بأن المشركين عندما أصيبوا بقرح مثله أي مشابه له في معركة بدر لم يهنوا بل على العكس من ذلك.
نعم قد يحزنوا على قتلاهم لكنهم جددوا العزيمة على قتالكم وطلب الثأر منكم ، يروي المؤرخون أن أبا سفيان منع البكاء على قتلى بدر وفي ذات مرة سمع رجل من قريش امرأة تبكي فقال أقريش ندبت قتلاها ببدر! فقالوا له لا انما امرأة ظل لها بعير وهي تبكي عليه ، فأنشد قائلاً:
تبكي أن يضل لها عقال بعير
ويمنعها مـــــــــــن النوم السهود
ولا نبكي على قتلانا ببـــــدر
وفي بــــــــدر تصاغرت الخدود
هذا كان مستوى الاستعداد للقائكم، فالمولى يعاتب المؤمنين ويذكرهم ببدر وإن القوم لم يضعفوا رغم خلوهم من القيم والمبادئ غير مبدأ الثأر واستطاع تحريكهم بهذا الشكل.
عزيزي القارئ انظر كيف يتحرك المشهد القرآني ويملأ النفوس بالنشاط والحركة والحيوية وكأننا نعيش أجواء هذه الآيات المباركة .
الشيعة والآية المباركة
وعلى نفس المنهج الذي ذكرته الآية بأن العلو شرطه الوحيد هو الإيمان الحقيقي ورغم الظروف الصعبة والقاسية والقاهرة التي يمر بها أبناء الطائفة الحقة أتباع أهل البيت (ع) في العالم عموماً وفي العراق خصوصاً من أشرس هجمة عرفتها البشرية وأشدها لقتلهم أو تشريدهم والسعي لإضعافهم والضغط الاقتصادي والبطالة المنتشرة فيهم وانعدام الخدمات والأمراض الاجتماعية الاخرى فقد تمسكوا بهذه الآية عملاً بالقرآن الكريم وإن هذه الجراح التي يتعرض لها أبناء هذه الطائفة المظلومة لا يمكن أن تهزم نفوسهم الأبية عن الوهن والاستكانة وبأننا نعمل وفق المنهج المرسوم لنا من قبل الائمة (ع) ونتعظ بالتاريخ ولا نجعل هذه الازمات تسري إلى الهمة أو تسبب لنا الحزن الذي يمنع عنا العمل ما دام المولى ولينا في الدنيا والاخرة.
نعم قد نخسر بعض الشيء هنا أو هناك من الأمور الظاهرية لكن الآخرين أيضاً يخسرون وليس لديهم رصيد روحي ونفسي كالذي عندنا فنحن نمتلك الإيمان الحقيقي بالمولى وشيدنا ذلك الإيمان على أدق البراهين وكذلك إيماننا بالأنبياء والأولياء ولنا المقام العلمي الشامخ الذي ظهر للقاصي والداني والقيم الروحية التي يتمتع بها أبناء هذا المذهب التي تجعلهم دوماً في حالة العلو والسؤدد، فينبغي لنا أن نجدد الأمل في النفوس ونسعى إلى تحطيم القيود التي يضعها الأعداء على نفوسنا من الشعور بالإحباط والهزيمة ونوحد صفوفنا ونتمسك بخطى الأئمة (ع) وبتوجيهات المرجعية المباركة دامت بركاتها ، لأنها صمام الأمان وقد ظهر ذلك بشكل جلي وخصوصاً في هذه الفترة .
وهم يحاولون أن يحولوا بعض الخسائر الخارجية في الأرواح والممتلكات إلى هزائم نفسية في نفوسنا كما صنعت قريش مع المسلمين في فجر الدعوة الإسلامية ولكن بعون من الله عز وجل والأئمة لن تهزم هذه النفوس التي يستقر فيها منهج القرآن العظيم وحب العترة ويستقر في ضميرها سيد الشهداء الإمام الحسين (ع) الذي أطلق الصرخات المدوية في الإباء والكرامة, وصاحب مقولة لن يأتي التاريخ لها بنظير عندما فقد أصحابه وأحبته وإخوته ورغم الجراحات الكثيرة في جسده الطاهر ودمائه الطاهرة تسيل يقول: (هون ما نزل بي أنه بعين الله) نعم هون ما نزل بنا على منهج سيد الشهداء أنه بعين الله وإنا على الطريق الذي رسمه لنا سائرون فيهون الخطب أن هذه المعاناة بنظر الله عز وجل ولأننا نحب الحق ونحب العترة الطاهرة التي أمر الله عز وجل باتباعهم.
اللهم ثبت أقدامنا واملأ نفوسنا حباً لك وعشقاً لأهل البيت(ع) ولا تجعل في نفوسنا ضعفاً ولا حزناً إنك حميد مجيد والحمد لله رب العالمين.