ليس من اليسر أن تكون هنالك صلة بين العبد وخالقه، لما هنالك من البون الشاسع. بل لا يمكن القياس بين رب الأرباب وخالق الكون وبين العبد الضعيف الذي لا يملك قواه التي تساعده في قوام عوده .
فقد تفضل رب العالمين على عباده أن تكون لهم وسيلة اتصال ومن دون حجاب أو وسائط بحيث تمنعهم من مناجاته .
وهذه الوسيلة هي الصلاة التي عبر عنها القرآن الكريم في عدة آيات بأنها:
(تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)(العنكبوت:45)
وذكَّر عباده بالمحافظة عليها بقوله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) (البقرة:238).
ونبههم بعدم إنكارها قال تعالى: (أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) (مريم:59).
والإمام علي بن أبي طالب (ع) نهج على خطى القرآن الكريم كي ينبه المسلمين إلى أن الصلاة هي الوسيلة الوحيدة التي تظهر معالم الإسلام فقد قال (ع) :
(تَعَاهَدُوا أَمْرَ الصَّلَاةِ وحَافِظُوا عَلَيْهَا، واسْتَكْثِرُوا مِنْهَا وتَقَرَّبُوا بِهَا، فَإِنَّهَا:(كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً )، أَلَا تَسْمَعُونَ إِلَى جَوَابِ أَهْلِ النَّارِ حِينَ سُئِلُوا ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ)، وإِنَّهَا لَتَحُتُّ الذُّنُوبَ حَتَّ الْوَرَقِ، وتُطْلِقُهَا إِطْلَاقَ الرِّبَقِ، وشَبَّهَهَا رَسُولُ اللَّه (ص) بِالْحَمَّةِ تَكُونُ عَلَى بَابِ الرَّجُلِ، فَهُوَ يَغْتَسِلُ مِنْهَا فِي الْيَوْمِ واللَّيْلَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ، فَمَا عَسَى أَنْ يَبْقَى عَلَيْه مِنَ الدَّرَنِ! وقَدْ عَرَفَ حَقَّهَا رِجَالٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، الَّذِينَ لَا تَشْغَلُهُمْ عَنْهَا زِينَةُ مَتَاعٍ ولَا قُرَّةُ عَيْنٍ، مِنْ وَلَدٍ ولَا مَالٍ، يَقُولُ الله سُبْحَانَه: (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ ولا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ الله، وإِقامِ الصَّلاةِ وإِيتاءِ الزَّكاةِ)، وكَانَ رَسُولُ الله ( ص ) نَصِباً بِالصَّلَاةِ، بَعْدَ التَّبْشِيرِ لَه بِالْجَنَّةِ، لِقَوْلِ اللَّه سُبْحَانَه : (وأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ واصْطَبِرْ عَلَيْها)، فَكَانَ يَأْمُرُ بِهَا أَهْلَه ويَصْبِرُ عَلَيْهَا نَفْسَه.(1 ) إن الإمام (ع) يشير إلى عدة أمور، أهمها :
أولًا: تعاهد الصلاة لأن العهد الذي قطعه بأن يكون مسلمًا لابد أن يترجم ذلك العهد على صعيد الواقع الخارجي، فكانت الصلاة هي أفضل السبل لإظهار ذلك المظهر الذي يدل على عمق العلاقة بين الإنسان وخالقه .
ثانيًا :عدم تخلف المرء عن عهده لأن ذلك يوجب الخلل في ذلك العهد مما يؤثر في سلوك الإنسان لما يجلبه من الويلات، لأن ذلك يُعدّ من النفاق الذي حذَّر منه القرآن الكريم بقوله تعالى :(كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ)(الصف:3)
ثالثًا :استمرار وسيلة الاتصال بين العبد وربه في السرّاء والضرّاء وفي الشدّة والرخاء ، وبذلك تذوب هناك الموانع التي تكون حاجزة بينما .
رابعًا :الامتثال لأوامره تعالى من دون أدنى شك حسبما ناجى تعالى بكلماته الصادقة. .
خامسًا : العبادة مخصوصة به تعالى ولا يمكن للعبد الفقير أن يعبد سواه، لأن ذلك مدعاة إلى الإشراك وهذا ينافي ادعاء العبد بأنه لا يعبد سواه كما في قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، وقوله تعالى :(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ). المحافظة عليها:
لعل من أهم التعاليم الإسلامية هي المحافظة على أداء الصلاة، ومن مقومات الأداء هو تحري أدائها في أول أوقاتها وعدم التهاون أو إهمالها بحيث يوجب تركها على مرّ الزمان. كما أن من أركان الصلاة أداء الوضوء بأحسن صورة حسبما طلبته الشريعة الإسلامية المقدسة .
ولا نغفل عن التفاعل الحقيقي مع الصلاة بحيث تكون جميع الجوارح في حالة الهيبة وخوف أمام من يؤدى إليه الصلاة، كما لا يغفل عن أن تكون نية عمله خاضعة لواحد أحد فقط . الاستكثار منها:
الإمام أبو الحسن (ع) يوجه كل من يسمع نداءه إلى الإكثار من الصلاة وذلك لما لها من منفعة تدر عليه،
ومن أولاها: هي ذهاب الذنوب ولا يبقى لها أثرٌ يذكر نتيجة المعاملات التي شابتها السيئات فكانت أهم فرصة لإزالتها هي وجود ذلك الارتباط الروحي كي يذكره بالعبودية وعدم اقتراف الذنوب كرة أخرى، ولذا فإن الإمام (ع) شبهها بالريح التي تهب على الأشجار بحيث لا تصمد أوراقها.
وثانيها: أن الإكثار من الصلاة يجعل المرء في حالة ذكر ولا يغفل عمن أوجده بعد أن لم يكن شيئا مذكورًا .
ثالثها: أن الإكثار منها يؤدي إلى ضمان عمل مذخور يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، ويوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت .
رابعها : أن الإكثار منها يجعل المرء يشتاق إلى ربه كي يناجيه في كل وقت ولا يقطع رجاءه ويتفضل عليه بكافة أنواع الفضل . الكتاب الموقوت :
أمير المؤمنين علي (ع) يشير إلى أن الشريعة المقدسة قد حددت للصلاة أوقاتًا خاصة مما يجعل للمرء فرصة سانحة لأداء بقية أعماله الدنيوية ويفكر فيما يصبو له .
ولذا فإن وقت الصلاة لما كان لها وقت محدود جعل المسلمين في سعة من أمرهم ولا تشغلهم تلك العبادة طوال يومهم بحيث يؤدي إلى العسر والحرج، وهنا يؤكد الإمام (ع) ما ذكره القرآن الكريم : (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا)(النساء: 103)
ونبه الإمام (ع) على أهمية الوقت لأن كل صلاة لم يؤدها المرء فإنه كان عنها مسؤولًا في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها .
ولذلك كان للوقت أهمية في حياة الإنسان كي يستغله بالمنافع ولا يسرف بالملذات واللهو ويهمل أداء ذلك الواجب المهم الذي يمكنه من إنقاذ نفسه في يسر وعافية . آيات للتذكير:
إن الإمام أبا الحسن (ع) يذكر عباده ما للصلاة من مواقف :
الأول :هو أن تارك الصلاة يسأل عنها يوم الجزاء كي يجازي كل امرئ بأعماله، ومن ذلك فإن الإمام(ع) قد ذكر أهل النار وسبب دخولهم النار فقال (ع): (ألا تسمعون إلى جواب أهل النار حين سئلوا : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ* قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ)(المدثر:42ـ43).
الثاني :مدح المؤمن الذي يقبل على صلاته وهو يقف في شغف إليها ولم يلهُ عنها بتجارة ولا مكسب، فقال (ع) وقد عرف حقها رجال من المؤمنين الذين لا تشغلهم عنها زينة متاع، ولا قرة عين من ولد ولا من مال، يقول تعالى : (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ )(النور:37). أمثال :
إن أمير المؤمنين (ع) ذكر للصلاة دوافع عسى أن تجد لها وعياً وفكرًا يتدبرها وأهمها :
1ـ أن الذنوب تتهاوى أمام هذا العمل العظيم وقد أفصح الإمام علي (ع) خير مثال لذلك أوراق الشجر حينما تتهاوى نتيجة الرياح العاتية وكذلك الذنوب تتهاوى أمام هذا العمل ، فكان (ع) يقول: وإنها لتحُت الذنوب حتَّ الورق .
2ـ الحرية التامة للمرء بعدما قيدته الذنوب وجعلته مكبلًا بأغلاله نتيجة أعماله وعبر عنها (ع):وتطلقها إطلاق الربق .
3ـ النظافة من القذارات التي تعلق به نتيجة سوء اختياره وقد أصاب الغرض حينما عرض كلام الرسول الأعظم (ص)(وشبهها رسول الله (ص) بالحمة تكون على باب الرجل، فهو يغتسل منها في اليوم والليلة خمس مرات فما عسى أن يبقى عليه من الدّرن). الزكاة
إن الإسلام دين يهتم باقتصاد المسلمين، ولذا يحاول دائمًا أن يجعل المسلمين في حالة رخاء وسعة من الرزق الحلال، ونتيجة لذلك فإن الإسلام فرض على المسلمين الزكاة من قبل الأغنياء كي لا يعيش الفقراء في ذُلّ وهوان فكان لهم من ذلك نصيب.
والإمام (ع) جعل للزكاة أهمية لا تقل نصيبًا من الصلاة ولأجل ذلك فمن يؤدها عن طيب نفس بحيث لا يتبع معها الحقد والحسد وذل الآخرين.
ومن أهمية الزكاة هي الحاجز عن النار يوم القيامة، فلا يمسه الأذى. كما تكون كفارة للذنوب التي اقترفها. تنبيه
أمير المؤمنين( ع) شدد على عدم الاهتمام بالأموال التي تخرج من تحت سلطانه إلى إخوانه، كما لا يبلغ به الحال إلى أن تتلهف نفسه إلى استرجاعها على المدى القريب، وبذلك فقد أساء الأمل المنشود الذي قد يدفع عنه أنواع البلاء والضراء والسيئات عنه، ولذا لم يعرف مغزى أهمية الإعطاء ولا طيب نفسه مع الإعطاء، بل ذهب الأجر المأمول أدراج الرياح . الأمانة
ليس من اليسر أن يؤدي المرء الأمانة حق أدائها، لما لها من مسؤولية تقع على عاتقه، ولذا من أهم أسباب حفظ الأمانة أن يسلك السبل القويمة التي من شأنها حفظها بحيث لا يؤدي إلى إتلافها أو خيانتها .
وقد حث القرآن الكريم على أهمية الأمانة في عدة آيات : قال تعالى:(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ )(المؤمنون: 8)، وقال تعالى:(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)(الأحزاب: 72)
وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)(النساء:58)
وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (الأنفال: 27)
ومن منطلق القرآن الكريم فإن الإمام علي بن أبي طالب (ع) قد وضع ركيزة الأمان وهي صيانتها وأداءها، فإن من لم يؤد حقها فقد خسر خسرانًا مبينًا، وقد بيّن الإمام (ع) سبب الخسران وذلك :
لأن الأمانة لما كانت صيانة من المتغيرات التي تحدث فلم تكن السموات تتحمل تلك الأمانة، كما أن الأرض التي يطرأ عليها كثير من المتغيرات قد رفضت تلك المسؤولية، ولم تكن الأرض بأشد من الجبال ذات الصلابة لكنها أبت أن تكون في عاتقها لما يطرأ عليها من الانهيارات فتكون معرضة للعقوبة وحينئذ لا يمكن أن تتحمل تلك العقوبة. إلا بنو البشر فقد قبلوها وهم أضعف من كل هذه الموجودات لما يجهلونه من العقوبة وسوء التدبير. بيان
إن الإمام (ع) أوضح أن علمه تعالى قد أحاط بكل شيء علمًا وفي كل مكان، فينبغي للمرء أن يفكر في الأمانة وكيفية أدائها، فلا يمكن أن يفكر بمعزل عمن خلقه وعمن يحاسبه عن كل صغيرة وكبيرة خصوصًا وأن هنالك من يشهد على فعله من جوارحه حينما تشهد له أو عليه بأداء الأمانة أو خيانتها كما قال تعالى : (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)(يس:65)
ومن ذلك أن ضميره الذي كان دائمًا يوسوس له بالخيانة هو نفسه سوف يكون أكبر دليل عليه يشهد عليه، وما خلواته التي يحاول أن يقتنص الفرصة السانحة كي ينقض على فريسته كي يتمتع بها من دون وازعٍ ديني أو خُلقي هو السبب الحقيقي الذي يظهر سوء عمله، وقبح فعله .
ولا يحاول أن يظهر الأعذار بعد ما أباح لنفسه الموبقات لأن ذلك الوقت لا يمكن أن تقبل الأعذار ولا يتغافل عنها .
وهذا قد يكون مما دفع الإمام (ع) أن يشدد على أهمية الصلاة والزكاة والأمانة علائم هامة في حياة بني الإنسان .
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)نهج البلاغة – جمعه الشريف الرضي – خطبة 199 – ص344-345
(مجلة ينابيع / العدد 62)اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
https://telegram.me/buratha