( بقلم : نضير الخزرجي )
قد يبدو الزمان وهو يؤرخ للماضي ويقرر للحاضر ويرسم للمستقبل، صفحات جرداء تقلبها أنامل البشرية جيلا بعد جيل، يتوقف عندها البعض متأملا ويمر عليها الكثير مر الكرام، ولكن هذا الزمان الذي أبدعته يد الرحمن، يستحيل قراءته مجردا عن محوري المكان والحركة، فالزمان مأخوذ في تحققه وتمثله في ارض الواقع بحركة الأجرام السماوية، إذ ينعدم الزمان ما انعدم الجرم والحركة، فاليوم المتشكل من 24 ساعة، اخذ في حسبانه حركة الأرض حول نفسها، والشهر العربي اخذ في حسبانه حركة القمر حول الأرض، والسنة الميلادية اخذ في حسبانها حركة الأرض حول الشمس، واليوم القمري هو أسبوعان من أيام الأرض، فكل جرم له يومه وأسبوعه وشهره وسنته، وتختلف الأرقام باختلاف موقع الجرم من مركز المنظومة الشمسية ونمط حركته وشدة الجاذبية.ولما كان الانسان المخلوق من أديم الأرض، قد استعمر الأرض، فان حركته فيها مرتبطة مركزيا بالزمان المتشكل من حركة الأجرام، فله في كل جزء من هذا الزمان شأن، لان الإحساس بالزمان هو في واقع الأمر إحساس بذاتية الانسان، بلحاظ أن الزمان والمكان بما فيهما من تلازم حيوي، شرطان وجوديان لديمومة الحياة، فلا يمكن تصور الزمن أو قياسه أو حسابه بعيدا عن الجرم وحركته.
والحوادث اليومية صغيرها وكبيرها، هي نتاج الزمان والمكان وحركة الانسان، أي أن الانسان هو محور الحوادث القائمة على قواعد الزمان والمكان والحركة، فهو لا يستطيع أن يغير من حركة الأجرام السماوية لأنها مطويات بيمين الله وتحت قبضته، ويشكل هو جزء من كينونتها، لكنه قادر على تغيير حركة الزمان الذي يحويه ويحتويه، بفعله وإرادته، وخلق ما يرغب من الأوقات حلوها ومرها تبعا لإرادته وحجمها في تحدي الظروف، ولذلك قال الامام علي (ع): (أتحسب انك جرم صغير وفيك انطوى العالم ألأكبر).
والوقت وهو قطعة من الزمان الذي تصنعه حركة الأجرام، كما يعرفها اللغويون، يشكل قيمة عليا في حياة الإنسانية وتكامليتها في عالم الحياة الدنيا، فالإنسان لا يستطيع أن يتحلل من أسر الزمان والمكان، لأنه جزء لا يتجزأ من هذا التكوين، بيد أن نوعية حركته ترسم نوعية الزمان الذي ينتجه لمسيرته ويورثه للبشرية، ولذلك فان المرء في عالم الموت وما بعده يُسأل عن عمره فيما أفناه، لان الله لم يخلق الأرض والسماوات عبثا، كما لم يخلق الانسان عبثا، ولذلك فان الله في محكم كتابه لأهمية الوقت اقسم به في سورة العصر: (والعصر إن الانسان لفي خسر..).
ولأن كل شيء في هذا الأرض قائم على توقيت محدد يلزم الانسان فعل شيء أو تركه، ضمن بيانات زمانية تنظم حياة الانسان كفرد وكمجتمع، فان الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق محمد الكرباسي، وبأسلوب منهجي وعلمي، تناول في كتابه الجديد (شريعة التوقيت) وضمن سلسلة كتب "الشريعة"، مسألة الوقت وعلاقته بحركة الانسان في إطار المعاملات والعبادات، منذ أن كان جنينا في بطن أمه حتى وفاته.
وهذا الكتاب الذي صدر عن بيت العلم للنابهين في بيروت، في 80 صفحة من القطع المتوسط، وفي 18 عنوانا مستقلا، يذكرنا في جانب من نمطيته بكتب الأدعية المأثورة عن النبي محمد (ص) وآله الكرام (ع) وبوجه خاص كتاب (مفتاح الفلاح في عمل اليوم والليلة) للشيخ البهائي محمد بن حسين الحارثي البعلبكي (953-1030هـ) الذي تناول فيه العبادات ومستحباتها في كل آن وحين في اليوم والليلة والأسبوع والشهر والسنة، لكن كتاب (شريعة التوقيت) الذي قدم له وعلق عليه القاضي الباكستاني آية الله الشيخ حسن الغديري، يمتاز بحداثة الطرح في جانبه التشريعي، وجدة البحث في تلازم الوقت بحركة الانسان في بدءه وفنائه، وهو أسلوب بحثي فقهي جديد يمسك بعقارب الزمن ليقرأ الانسان في حركته التكاملية في سلم الحياة من عدستي ناظور المعاملات والعبادات، يضعه على بينة من أمره متنقلا بين ساعات اليوم والأسبوع والشهر والسنة، آخذا بيده الى محل الكرام من خلال تبصيره بالأحكام الشرعية ذات الصلة بالوقت ليكون المكلف، كما يقول الناشر في مقدمته: "على معرفة جانب هام من جوانب المعرفة نتيجة لما فرضه الله سبحانه وتعالى من فروض من خلال التوقيتات التي يوردها حسب مقتضى مسيرة الحياة البشرية بدءاً بالجنين وإنتهاءاً بالوصية والموت، من اجل تنظيم شؤون الحياة الفردية والاجتماعية مع الخلق والخالق في باب العبادات والمعاملات والعقود والإنشاءات، وحتى فرص الفراغ والاشتغال من دون استثناء".
ولا يمكن الفصل بين الزمن وكل صغيرة أو كبيرة من حياة الانسان، لان التوقيت وحسب قول محقق الكتاب، الشيخ حسن الغديري: "يرتبط بالأمور ارتباط الظرف بالمظروف، وهو ظرف زمني لكل شيء، سواء أكان ذلك الشيء من الموضوعات أو الأفعال، ومن الأحياء أو الأموات، ومن الأرض أو السماوات، ومن الدنيا أو الآخرة، وحتى في أمر الخلق والبعث والنشور الى أمور تتعلق بالخالق جل وعلا، فوجودها وإيجادها يتحقق ويتم بالتوقيت كما أشار اليه سبحانه وتعالى في العديد من الآيات القرآنية مثل: إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام. الأعراف: 54".
فالثابت وجوديا وعلميا، كما يؤكد المصنف: "ان مسألة الوقت ترتبط بمسألة الزمان، إذ لولا وجوده لما تحقق الوقت وما تم التوقيت، وكما ان مسألة الزمان ترتبط بالمكان إذ لا يمكن تصور زمان بلا مكان، كما لا يمكن تصور زمان بلا حركة. اذاً المكان + الحركة= الزمان... وقد أولى الله تعالى للوقت أهمية بالغة، فتارة يذكره تحت مادة الوقت، وقد وردت فيه ثلاث عشرة آية، وبعنوان الأجل تارة أخرى، حيث بلغت الآيات الواردة تحت هذه المادة 56 مفردة، الى غيرها".
وإذا نظرنا الى إرادة الانسان ملحوظا فيها الوقت في تنجز التكاليف الشرعية، فان الإرادة وعدمها لا تخرج عن: "ثلاثة أقسام، قسم يقع دون أن يكون لإرادته دخل فيها كما في وقت الفرائض اليومية والصوم، وقسم آخر لإرادة الانسان وحدها التأثير في تحديده، كما لو نذر صوم يوم معين، وقسم آخر تكون الإرادة جزءاً مؤثرا في ذلك، كما لو حدد وصوله الى الميقات باليوم المعين والساعة المعينة، فان الأعمال التي يقوم بها مرتبطة بأمرين، أولها بإرادته والأخرى بأوامر الله سبحانه، فما فرضه الله فهو خارج عن أرادته وما اختاره فهو في إرادته"
ولما كان التقويم المعتمد لدى المسلمين هو التقويم الهجري، فان الذهن قد ينصرف الى أن كل المعاملات والعبادات على علاقة مباشرة بالقمر دون غيره من الأجرام، والواقع غير ذلك تماما، ذلك: "إن التوقيت المعتمد في الشرع قد يرتبط بالشمس وقد يكون مرتبطا بالقمر، وهما ظاهرتان فلكيتان لا تخفيان على أحد. ومن مميزات هذه الشريعة السمحاء البساطة في التفاهم والموضوعية في القرار، فقد اتخذ من مراحل الشمس في كبد السماء توقيتا للكثير من الأعمال والأحكام المتعلقة بالنهار، كأوقات الفرائض، واتخذ من مراحل القمر توقيتا بما يمكن ربطه بالليل كما في تحديد أيام الأشهر".
يستهل الكتاب بعنوان (مسائل الجنين) تطرق فيه المصنف الى الأحكام المتعلقة بالجنين طيلة مكوثه في رحم أمه، ومقدار فترة الحمل، ودية إسقاط الجنين قبل ولوج الروح وبعده.
وتحت عنوان (الطفل) منذ نزوله الى دار الحياة الدنيا، يشير المصنف الى حقوق الطفل وفق المراحل الزمنية لنموه، ويرى أن: "من حقوق الطفل على والده أن يكمل رضاعته أي تمام السنتين، فلو أخل بذلك عمدا مع القدرة والحاجة أثم وقيل يكفي عشرون شهرا". كما يشير الى الرضاعة الناشرة للحرمة بين الرضيع والمرضعة، وبعدها الشرعي من حيث الزمن أو عدد مرات الرضاعة، ويشير الى حق حضانة الأم ومدتها، وحق تربية الأولاد ومدتها للذكر والأنثى، وولاية الأب على الطفل وزمان سقوطها، وعن الأيام التي يستحب فيها تسمية الطفل وحلق شعر رأسه وتغسيله وتحنيكه والعق عنه ومدة الرضاعة.
وتحت عنوان (التكليف) يتطرق المصنف الى سن البلوغ لدى الذكر والأنثى، والفرق بينهما، وعلامات البلوغ لكليهما، والاختلاف الفقهي الحاصل حول سن بلوغ الصبية، بين سن التاسعة والثالثة عشرة.
وتحت عنوان (الطهارة) ووقت نفوذ أحكامها من حيث الوجوب أو الندب، يتطرق المصنف الى الوضوء ووقته ملحوظا فيه نوع العبادة وجوبا أو استحبابا، ويتطرق الى التيمم والغسل بأنواعه من غسل جنابة أو حيض أو استحاضة أو غسل الميت أو غسل الإحرام، ووقت استحقاق كل غسل.
وتحت عنوان (الصلاة) يتطرق المصنف الى وقت كل صلاة واجبة كانت أو مستحبة، مشيرا الى وقت صلاة المغرب التي وقع الاختلاف في توقيتها بين الشيعة والسنة، فالتوحد قائم على ان وقت فريضة المغرب يبدأ بغروب الشمس، ولكن الاختلاف وقع في تحديد موضوع الغروب، فعموم السنة ترى أن الغروب يتحقق مع غروب قرص الشمس عن النظر، لكن عموم الشيعة الإمامية ترى أن الغروب يتحقق مع: "استتار القرص وزوال الحمرة المشرقية في منتصف السماء معا، إذ كلاهما علامتان على الغروب، ومعنى ذهاب الحمرة المشرقية وزوالها هو انعدام الحمرة التي يراها المرء عند الغروب في وسط السماء، فإذا زالت من فوق منتصف الرأس الى جهة الغروب فهو وقت صلاة المغرب". على ان المسافة الزمنية بين غياب قرص الشمس وزوال الحمرة المشرقية الى جهة الغرب هي بحدود 13 دقيقة تقريبا، وهذا يعلل الاختلاف بين الآذان التي ترفعه مآذن السنة لصلاة المغرب عن مآذن الشيعة.
كما إن الاختلاف وقع بين المسلمين في تحديد بزوغ نور الفجر الصادق الذي به يتحدد صلاة الفجر، في مناطق شمال الكرة الأرضية الواقعة ما بين خط العرض 48 الى 66 درجة، لعدم تحقق ظلام دامس حتى يمكن بعده رؤية ضوء الفجر الصادق، فعلى سبيل المثال فان العاصمة البريطانية لندن الواقع على خط العرض (30/51) لا يتحقق فيها الفجر الصادق في الفترة ما بين 24 أيار – مايو الى 21 تموز – يوليو، ولهذا فان التقاويم التي توزعها المراكز والمساجد في أنحاء لندن تجد الاختلاف في تحديد الإمساك أو صلاة الفجر الى نحو 50 دقيقة، ولم تكن هذه المسألة غائبة عن المصنف، فقد تنبه اليها منذ أن حل على لندن مهاجرا قبل عقدين وافرد لها كتابا مستقلا صدر حديثا عن بيت العلم للنابهين، تحت عنوان "مواقيت الصلاة في المملكة المتحدة حسب أفق مدينة لندن"، أثبت فيه المصنف فلكيا، خطأ الكثير من مواقيت الصلاة والإمساك التي توزعها مساجد السنّة والشيعة على السواء.
وتحت عنوان (الصوم) تناول المصنف مواقيت الصوم ومتعلقاته من رؤية هلال شهر رمضان المبارك وهلال شهر شوال.
وتحت عنوان (الخمس والزكاة) تناول المصنف زمن استحقاق الخمس والزكاة، بوصفهما ضرائب شرعية، واجب صرفها لمستحقيها، بما انعم الله على عباده من مال وأنعام وغلات. فضلا عن زكاة فطرة العيد، التي تشكل المتمم المادي للتزكية المعنوية للنفس خلال شهر رمضان المبارك.
وتحت عنوان (الحج والعمرة) يتناول المصنف، الاستحقاق الزمني لكل فريضة من حيث المبدأ والانتهاء، ومدة إجراء كل فريضة. وبيان التسهيلات التي وضعها الإسلام للمرأة والشيخ الكبير في أداء فريضة الحج والعمرة، من حيث توقيت إجراء الأعمال لتحاشي زحمة المكان.
وتحت عنوان (الجهاد) يتطرق المصنف الى وقت الجهاد الابتدائي والأشهر التي يحرم فيها القتال وهي رجب وذي القعدة وذي الحجة والمحرم، ويمر المصنف على هذا العنوان سريعا، لان الجهاد الابتدائي في عصر غيبة الامام المهدي المنتظر (ع) ساقط كليا، فهو من مختصات النبي محمد (ص) والأئمة من بعده (ع).
وتحت عنوان (البيع) يشير المصنف الى الوقت الذي يستحب فيه العمل ويكون مجلبة للرزق، والوقت الذي يكره فيه، والوقت الذي يحرم فيه إجراء بعض المعاملات، مثل إجراء معاملة بيع أو شراء مع المالك وهو في حالة المرض المؤدي الى الموت بخاصة إذا كان في المعاملة غبن للورثة.
وتحت عنوان (الزواج)، يقدم المصنف الأوقات التي يستحب فيها إجراء عقد النكاح، وفيها يكره، وبيان الساعات التي يستحب فيها المقاربة الجنسية، وفيها يكره. ولمّا كان الزمن يتحقق من حركة الأجرام، فانه وعلى سبيل المثال يكره النكاح عندما يكون القمر في برج العقرب، وهو مذموم. ولكن المقاربة الجنسية تستحب في ليلة الجمعة ويوم الجمعة.
ومثله وتحت عنوان (السفر) يشير المصنف الى الأوقات التي يستحب فيها السفر، وفيها يكره.
واشتمل الكتاب على عناوين أخرى، مثل (العبد المدبَّر والمُكاتب) و (النذر) و (الذبح) و (التزيين) و (الصحة).
وافرد المصنف في نهاية الكتاب عنوانا مستقلا أسماه (المتفرقات) أشار فيه الى أمور مختلفة يدخل الوقت في بيان حكمها، مثل ساعات استحباب قراءة الدعاء، وأيام البيض وهو اليوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر قمري، وقد صح لدى المؤلف أن ولادة الامام الحسين بن علي (ع) كان يوم الخامس من شعبان، كما صح عنده أن وفاة فاطمة الزهراء (ع) كانت يوم الثالث من جمادى الآخرة، ليقطع بهذا اليقين الشك الذي ساور تاريخ وفاتها (ع) حتى وصل الى عشر روايات تاريخية مختلفة.
في الواقع، يشكل الكتاب بطرحه الجديد، نقلة نوعية في التعاطي الفقهي والتشريعي مع الحياة اليومية للمكلف، حيث تناول كل عنوان ما يرتبط به من أحكام وتكاليف شرعية ضمن حيزها الزماني، وبأسلوب سهل ممتنع يُخرج المسألة الشرعية من شرنقة التعقيد اللغوي والفقهي، وتكون مفهومة للمكلف المتعلم وغير المتعلم، فضلا عن وضوح بيانها وسهولة مأخذها لطالب العلم في كليات الشريعة والحوزات العلمية.
* إعلامي وباحث عراقي
الرأي الآخر للدراسات – لندن
https://telegram.me/buratha