أ.م.د. علي زناد كلش البيضاني ||
منذ تصريح أرسطو بأن الإنسان ( حيوان ناطق ) والعلوم تترى في تعريفاتها لذلك الكائن العجيب الراغب غالباً في رسم حدوده الفاصلة بينه وبين شركائه على هذا الكواكب ، ويقصد أرسطو بالاشتراك الحيواني مع الإنسان في الحس والحركة والقوى الغضبية والشهوانية أما ناطقية أرسطو للإنسان فهي العقل بمعنى ( حيوان عاقل ) الذي يميز ويدرك الأشياء ويتكامل نحو الوصول الحثيث للمطلق خلاف الحيوان السائر وفق سرمدية أبدية روتينية لا تقبل التغيير والتطور وما نلاحظه من انفعالات حيوانية ربما يتصورها البعض عقلانية إلا إنها من وحي الغريزة التي تتأثر بالفعل ورد الفعل ، وإلا لو كانت الناطقية بمعنى الصوت ـ كما يتصور البعض ـ لكان مشترك وليس فارق فالببغاء يتكلم أيضا ، وهذا الفارق العقلي( الناطق ) هو الذي يحدد التواجد للظاهرة الدينية للإنسان منذ أول وجوده على سطح هذا الأرض بفعل الحراك العقلي المُلح للضرورات المُلازمة أو ما نسميه تجليات الظاهرة الدينية عبر التاريخ ويشير الفيلسوف الألماني ( ماكس موللر ) في تعريفه للدين بقوله : " إن الدين هو كدح من أجل تصور تصور ما لا يمكن تصويره ، وقول ما لا يمكن التعبير عنه ، إنه توق إلى اللانهائي " وما دام هذا الحراك والكدح العقلي الذي يصوره ( موللر ) فمعنى ذلك إن الظاهرة الدينية بدأت مع بدأ الإنسان على الأرض وإن كانت بمستوى تعقلي بسيط أو كما يسميها ( فراس السواح ) مغامرة العقل الأولى" كمحاولة تفسيرية ـ عقلية ـ لنشأة الكون وأن كانت بدائية ، ولذا يحق لنا أن نطلق على الإنسان بأنه ( كائن متدين ) بالطبع في قبال أو تسايّر مع مقولة أرسطو ( حيوان ناطق ) ، فالمُتلازمة التطورية للفكر الديني كما التقدم في التقنيات التكنولوجية كانت حاضرة وبقوة ، إذ إن أول ما انفرد به الإنسان عن غيره من الكائنات ذات الحركة والحس هو التشكيل للأدوات الحجرية بواسطة تقنيات الشطف وبعد ظهورها ترك لنا أولى البوادر والشواهد الفكرية ذات البعد الديني ليرسم لنا صورة مفادها هو ظهور الدين منذ الوهلة الأولى إلى جانب التكنولوجيا البدائية ـ الحجرية ـ كمؤشرين أساسين على ابتداء الحضارة الإنسانية ، ويدل على كل نتاجات الحضارة الإنسانية بشقيها الديني والتكنولوجي ما هي إلا استمرار وتطور لهاتين الخصيصتين الرئيسيتين للإنسان ، فكل ارتقاء وتقدم تكنولوجي قد تسلسل وتناسل من تلك التقنيات الحجرية الأولى ، يقابله في ذلك إن كل تطور وارتقاء روحي ومعنوي قد تسلسل من تلك البوادر الأولى وتطور عنها ، فالتعاقب الأفقي التطوري للظاهرة الدينية وما يحدث اليوم من مستجدات ترجع أصولها وجذورها إلى تلك البواكير الأولى وهو دين التوحيد الذي أقره الله عز وجل كغطاء عام لكل الديانات بل الأساس والمرتكز الذي ترتكز عليه الديانات ، وما نقرأه في المصادر الفلسفية بأن الفلسفة الاغريقية قد وضعت حداً للفكر الديني والمثيولوجي لا يمكن قبوله لأنه يتماشى مع الفرض القائل بأن الدين هو شكل أدنى من أشكال النظر العقلي والفعاليات العقلية ، والفلسفة هي الشكل الأرقى والأعلى بمعنى آخر تبعية الدين للفلسفة ، ناسين إن الفلسفة الاغريقية قد انطفأت شعلتها لقرون وتراجع الفكر الفلسفي الاغريقي قبل أن ينبعث من جديد في العصور الحديثة متكئاً على عصا عربية ابقت على قبس من الفلسفة متقد ، وبهذا نخلص إلى أن الدين والفكر الديني هو ليس مرحلة منقضية من التاريخ الإنساني ولا يمكن استعمال نظرية ( حرق المراحل ) أو ( نسف المراحل ) بعد العبور التقدمي من المرحلة السابقة إلى المرحلة اللاحقة لأن الدين هو سمة متأصلة في الفكر البشري ، فالدين هو المصدر البدئي الأولي للثقافة الإنسانية ، لذا نجد كل المؤشرات والدلائل تنطق بحياته وديمومته بل وتطوره ـ وهو الأهم ـ ومؤثراً بطريقة لا يمكن القفز فوقها أو تجاهلها .
( للتوسع بشكل تفصيلي لما كتبناه يُراجع كتاب " دين الإنسان " للكاتب والمفكر السوري " فراس السواح " الباحث في المثيولوجيا وتاريخ الأديان )