دراسات

حرية التفكير وحرية التعبير في الرؤية الإسلامية

2062 2021-04-07

 

د. علي المؤمن ||

 

    ينقسم موضوع حرية الفكر والاعتقاد الى شقين:

    الأول يتمثل في  إرادة الفكر والقدرة على اختيار الفكرة والمعتقد.

    والثاني هو التعبير عن ما يعتقد به أو يبشر بما يعتقد به بالوسائل العامة والخاصة.

·        حرية التفكير:

  إرادة التفكير (الشق الأول من موضوع حرية الفكر) هي إرادة حرة مطلقة تعبر عن إمكانية حركة العقل التي  لا تقف عند حدود، إلا فيما يتعلق بأسرار الغيب ((ولا تقفُ ما ليس لك به علم))، لأنها أسرار مغيبة ــ أساساً ــ عن عقل الإنسان، ، وعند محاولة فك هذه الاسرار ستحصل للانسان شبهات يعجز عن حلها، بسبب افتقاده أدوات المعرفة الموصلة لها، باستثناء آثارها المحسوسة. وهذه الإرادة المطلقة على التفكير، تصاحبها ضوابط تتعلق بالمسؤولية والجزاء الأخروي ((إنّ السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلاً)).

   وهناك قيد آخر يتعلق بعدم إمكانية التحرر والتجرد من كل الأفكار والضوابط على النحو المطلق، ومنها - مثلاً - القواعد المنطقية التي تقود الى «التفكير الصحيح» أو « التفكير المنطقي» بدل «التفكير الحر المطلق» كما يقول أحد المفكرين المسلمين. والتفكير الصحيح هو نتاج الحرية الفكرية الإيجابية، بينما تؤدي الحرية الفكرية السلبية الى أن يضع الإنسان لنفسه نماذج فكرية معينة، يخيِّر نفسه بينها، أو يفرض على نفسه أنموذجاً خاصاً. وهذا جزء من الإرهاب الفكري الذي يمارسه الإنسان ضد نفسه وضد الآخرين، كما في الأفكار (الصنمية) النمطية التي بلورت وأنتجت العقلية الغربية عبر الزمن وكبّلتها بهذه القيود، سواء في ما يتعلق بالذات أو الآخر أو باقي موضوعات الحياة.

    ويؤكد القرآن الكريم في الكثير من الآيات على إرادة الإنسان الحرة في اختيار الفكرة والعقيدة التي ينسجم معها، والتي يتحمل مسؤوليتها - وحده - في الدنيا والآخرة: ((لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغي))، وفي آيات أخرى: ((أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين))، ((فذكّر إنما أنت مذّكر * لست عليهم بمصيطر))، ((من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)). ويُستفاد من هذه الآيات في مجال التعايش والتفاهم مع أتباع الديانات الأخرى، وعدم إلغاء العقائد الأخرى، وعدم التعرّض لحرية أتباعها، لكنها تحملهم مسؤولية عدم ممارسة أي خطاب أو سلوك من شأنهما المساس بوحدة مجتمع المسلمين وأمنه.

   ويبقى أن إرادة الإنسان وحريته الذاتية المطلقة في الاختيار، وفي اتباع ما يختار من أفكار ومعتقدات، لا تعني - وفق التصور الإسلامي - أن هذه المعتقدات مجزية أمام الله، وإن كان المسلمون (أفراداً وجماعات ونظام) لا يحاسبون معتنقيها على مايعتقدون به، إلا إذا أدّت إلى مَفسَدة اجتماعية، أي أن الله هو الذي يحاسب الإنسان على معتقداته حصراً، بعد أن أعطاه العقل وجعله حجة عليه، وبعث الأنبياء والرسل ليتبعهم الناس ((ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزواً))، بل أن الله لايحاسب ولايعذب قبل أن يلقي الحجة على الإنسان ويذكره وينذره ((وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا)).

·        حرية التعبير:

    إن حرية التفكير والاعتقاد أمر فطري لدى الإنسان كما أسلفنا، إلا أن التعبير عن الفكر والمعتقد ليس فطرياً، وهما بذلك يشبهان الحب والبغض، فهما فطريان بذاتهما، ولكن التعبير والإعلان عنهما يرتبطان بالعلاقة مع الآخرين والتأثير عليهم سلباً أو إيجاباً. وعند هذه النقطة نصل إلى الشق الثاني من موضوع الحرية الفكرية، والمتمثل في حرية التعبير عن الفكر.

    إن مديات حركة التفكير وحدودها تتوقف على طبيعة الأساليب المستخدمة فيها؛ فهناك ثوابت عقلية في هذا المجال، يمكن أن تشكّل قاسماً مشتركاً ((كلمة سواء)) بين المدارس الفكرية التي تدعو لحرية الرأي والكلمة، بما فيها المدرسة الإسلامية. ومن أبرز هذه الثوابت، أن تكون أساليب التعبير عن الفكر أو الشك أو الرأي، أساليب موضوعية، وسليمة، وغير عدوانية، ولا تهدف أو تنتهي إلى إثارة فتنة أو بلبلة اجتماعية. وما تختص به المدرسة الإسلامية، هو الانطلاق في ممارسة حرية التعبير وفي تحديد الموقف منه، من موقع المسؤولية المناطة بالإنسان على الأرض. أي موقع الخلافة الربانية، ومسؤولية الكلمة في الحياة الدنيا أمام الأمة والنظام الاجتماعي وفي الآخرة أمام الله ((وقفوهم إنهم مسؤولون)).

   أما وسائل التعبير فتشتمل على الإعلان العام والخاص والحوار عبر وسائل الاتصال المباشر وغير المباشر. وللتعبير أيضاً مرتبتان، الأولى تتمثل في توضيح الفكر والمعتقد والدفاع عن الموقف الفكري والعقدي، والثانية في التبشير بالفكر ودعوة الآخرين اليها بالوسائل العامة والخاصة. ويحدثنا القرآن الكريم عن مستوى الحرية الذي كان رسول الله يمنحه لمحاوريه خلال الحوارات العقيدية التي كانت تدور بينه وبين المشركين والنصارى واليهود: ((يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم))، وكذلك الحوارات الفكرية والسياسية بين الإمام علي وخصومه من الناكثين والخوارج وغيرهم، والحوارات العقدية والفقهية الحرة التي كانت تعقد بين الإمام الصادق وأصحاب مختلف المدارس الكلامية والفقهية السائدة في بدايات العصر العباسي، وحتى رموز الزندقة.

    وفي العصر الحاضر، حيث بلغت وسائل الاتصال غير المباشر (الإعلام المقروء والمسموع والمرئي) إحدى أرقى درجات سلّم التقدم التكنولوجي، أصبحت حرية التعبير مساوقة - غالباً - لحرية الدعوة للفكر، ومنه الفكر غير المسؤول أو المنحرف أو الكافر، وما يترتب على ذلك من سلبيات ومفاسد فكرية واجتماعية لا حصر لها. والنتيجة: الضلال، بمختلف أنواعه ومراتبه. ويذهب أحد المفكرين الإسلاميين إلى ضرورة إعطاء الفكر الآخر فرصته وحريته في تأكيد طروحاته، وذلك لسببين:

    الأول: سيكتشف الناس، من خلال المقارنة بين الفكر الآخر والفكر الحق، نقاط الضعف التي يختزنها الفكر الآخر (مما يمكن أن نطلق عليه الباطل)، في مقابل نقاط القوة التي يمتلكها الفكر (الحق). وبذلك فإن حرية الفكر لن تؤدي هنا إلى الضلال، بل إلى نصرة الحق.

    الثاني: الحيلولة دون حصول الفكر الآخر على العطف في الوسط الفكري والثقافي الشعبي، فقمع الفكر الآخر سيوحي للناس بأنه فكر مضطهد، وأنه يملك القوة الذاتية التي يضطر الفكر (الحق) وسلطته لقمعها، لحماية نفسيهما.

    والمؤكد أن خيار منح الفكر الآخر فرصته وحريته في التعبير عن طروحاته سيكون منتجاً على النحو المطلوب، فيما لو تحققت فيه الثوابت التالية:

1- أن يمتلك الفكر (الحق) وسائل تعبير متكافئة من الناحيتين الكمية والنوعية، مع ما يمتلكه الفكر الآخر؛ بغية تحقيق التوازن في إمكانات الطرح والإعلام والاعلان. أما وجود الفارق النوعي والكمي في إمكانات التعبير لدى الطرفين؛ سيؤدي الى غياب الحقيقة وإثارة الشكوك والبلبلة المجتمعية.

2- أن يعبّر الفكر الآخر عن نفسه، ضمن الثوابت الأسلوبية الموضوعية التي تحول دون تهديد الأمن الاجتماعي.

3- أن لا يمثّل الفكر الآخر في نفسه ارتداداً صريحاً عن الإسلام أو دعوة للارتداد والالحاد.

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
ابراهيم الجليحاوي : لعن الله ارهابي داعش وكل من ساندهم ووقف معهم رحم الله شهدائنا الابرار ...
الموضوع :
مشعان الجبوري يكشف عن اسماء مرتكبي مجزرة قاعدة سبايكر بينهم ابن سبعاوي
مصطفى الهادي : كان يا ماكان في قديم العصر والزمان ، وسالف الدهر والأوان، عندما نخرج لزيارة الإمام الحسين عليه ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يكشف عن التعاقد مع شركة امريكية ادعت انها تعمل في مجال النفط والغاز واتضح تعمل في مجال التسليح ولها تعاون مع اسرائيل
ابو صادق : واخیرا طلع راس الجامعه العربيه امبارك للجميع اذا بقت على الجامعه العربيه هواى راح تتحرر غلسطين ...
الموضوع :
أول تعليق للجامعة العربية على قرار وقف إطلاق النار في غزة
ابو صادق : سلام عليكم بلله عليكم خبروني عن منظمة الجامعه العربيه أهي غافله ام نائمه ام ميته لم نكن ...
الموضوع :
استشهاد 3 صحفيين بقصف إسرائيلى على غزة ليرتفع العدد الى 136 صحفيا منذ بدء الحرب
ابو حسنين : في الدول المتقدمه الغربيه الاباحيه والحريه الجنسيه معروفه للجميع لاكن هنالك قانون شديد بحق المتحرش والمعتدي الجنسي ...
الموضوع :
وزير التعليم يعزل عميد كلية الحاسوب جامعة البصرة من الوظيفة
حسن الخفاجي : الحفيد يقول للجد سر على درب الحسين عليه السلام ممهداً للظهور الشريف وانا سأكمل المسير على نفس ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
عادل العنبكي : رضوان الله تعالى على روح عزيز العراق سماحة حجة الإسلام والمسلمين العلامة المجاهد عبد العزيز الحكيم قدس ...
الموضوع :
بالصور ... احياء الذكرى الخامسة عشرة لرحيل عزيز العراق
يوسف عبدالله : احسنتم وبارك الله فيكم. السلام عليك يا موسى الكاظم ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
زينب حميد : اللهم صل على محمد وآل محمد وبحق محمد وآل محمد وبحق باب الحوائج موسى بن جعفر وبحق ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
دلير محمد فتاح/ميرزا : التجات الى ايران بداية عام ۱۹۸۲ وتمت بعدها مصادرة داري في قضاء جمجمال وتم بيع الاثاث بالمزاد ...
الموضوع :
تعويض العراقيين المتضررين من حروب وجرائم النظام البائد
فيسبوك