( بقلم : حسن الهاشمي )
في رواية يرويها الشيخ الصدوق عن الريان بن شبيب يخاطبه الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام: يا بن شبيب إن سرك أن تكون معنا في الدرجات العلى في الجنان فاحزن لحزننا وافرح لفرحنا، وعليك بولايتنا، فلو أن رجلاً تولى حجراً لحشره الله تعالى معه يوم القيامة ( أمالي الصدوق المجلس السابع والعشرون: ص 129 الحديث 5 ).
الولاية في أصلها إنما هي الحب، ومعنى الولاية في كتب اللغة، هي المحبة والنصرة والقرابة والسلطنة، وهذه كلها إنما هي مظاهر للمودة والمحبة، أما الولاية بمعنى المحبة فهذا واضح لا غبار عليه، وأما الولاية بمعنى النصرة، فأن النصرة متفرعة عن المحبة، وأما بمعنى القرابة، فالقرابة متفرعة عن المحبة أيضا، الإمام الحسن الزكي عليه السلام يقول: القريب من قربته المودة و إن بعد نسبه، و البعيد من باعدته العداوة و إن قرب نسبه (السيوطي، تاريخ الخلفاء، ص 206). حتى تولي الأمور عن السلطان، فأنه عندما يولي شخصا فهذا يكشف عن محبة السلطان لذلك الشخص، وكذلك محبة ذلك الشخص للسلطان، لذا صار من ركابه وتولى ما تولى من أموره.
لذلك فأن الولاية في أصلها تستند إلى المحبة، والمحبة هي الميل إلى شيء، وعلى أساس المحبة، على أساس نوعها ورتبتها وشدتها، تتحدد نوع العلاقة بين العاشق والمعشوق، بين المحب والمحبوب، فكلما اشتدت المحبة في قلب الإنسان، اشتدت ولايته لذلك المحبوب، وإذا اشتدت محبته لذلك الشيء معنويا كان أو ماديا كلما زاد انطباع صورة المحبوب في قلب المحب، فإذا كانت المحبة جياشة، في غاية الوله، في غاية الشدة، فحينئذ ستكون صورة المحبوب منطبعة في قلب المحب بشكل واضح، وتبعا لذلك سيدوم ذكر الإنسان المحب لمحبوبه.
إذ أن مراتب الحب كثيرة، هناك حب يكون على أساس المنافع والمصالح والملذات والكمالات التي يمكن للمحب أن ينالها من محبوبه، وحينئذ ستكون هذه المحبة مقيدة بقيد تلكم المنافع والمصالح والكمالات بمراتبها المختلفة مادية كانت أم معنوية.
الحب في أول دائرته يكون لذات المحبوب، وربما تتسع الدائرة من حب الذات إلى صورة المحبوب في ذهن وقلب الإنسان، وربما تتسع دائرة الحب، فينتقل من حب الصورة إلى حب آثار المحبوب، ويتسع الحب بعد ذلك فيكون الحب لكل شيء يحبه المحبوب، وتتسع الدائرة حينئذ لتشمل إضافة إلى حب الذات وحب صورة المحبوب في باطن الإنسان، إلى حب آثار المحبوب وكل شيء يحبه، وأخيرا تتسع الدائرة إلى حب نفس الحب، وهذا المعنى واضح في حب الله سبحانه تعالى كما جاء في الذكر الحكيم (والذين آمنوا أشد حبا لله) (البقرة : 165) وتبعا لذلك حب أهل البيت عليهم السلام لأنهم الأدلاء إلى الله تعالى.
الحديث في شطر منه تحدث عن الولاية لأهل البيت وهم عدل القرآن الكريم كما جاء في حديث الثقلين، وفي شطر آخر تحدث عن الولاية ولو لحجر، أي الولاية الحقة والولاية الباطلة، فالأولى هي ولاية علي وآل علي، وما يباينها فهو الباطل فالولايات فيه كثيرة، إذ ربما تكون الولاية من الإنسان لنفسه، أو لهواه، لابنه، لزوجته، لماله، لعلمه، لسمعته، لسلطانه الجائر، لعقيدته الفاسدة، لحجر يعبده، لقصر يبنيه، لمحل يعمل فيه وهكذا. الولاية الباطلة مصاديقها كثيرة متكثرة أما الولاية الحقة هي لأهل بيت العصمة والنبوة.
الروايات الكثيرة التي تحثنا على شكر الله، على أفضل النعم، وهي حب أهل بيت النبوة، تشعرنا إلى عظمة هذه النعمة، لأن الذي يظهر من الروايات ليس حب لأهل البيت فقط، بل حب لذواتهم، حب لصورهم المقدسة في أذهاننا، وحب لآثارهم ولكل شيء يحبونه وأخيرا وليس آخرا حب لنفس الحب، أن نحب النفس التي تحب تلك الذوات المقدسة حتى نستشعر قيمة هذا الفضل الذي من الله به علينا، وهذا المعنى يمكن أن نجده جليا في مناجاة المحبين المروية عن الإمام السجاد عليه السلام: يا منى قلوب المشتاقين ويا غاية آمال المحبين أسألك حبك وحب من يحبك وحب كل عمل يوصلني إلى قربك وأن تجعلك أحب إلي مما سواك وأن تجعل حبي إياك قائدا إلى رضوانك... ومن أحبكم أحب الله.الولاية المذكورة في الرواية الشريفة الولاية المتفرعة عن هذا الحب الذي ذكرناه، وهي نفسها الحقيقة التي يذكرها الفلاسفة في مسألة التوحد والتكثر في صفات أهل الجنة وفي صفات أهل النار، التوحد في الحقائق من صفات أهل الجنة، والتكثر في الحقائق من صفات أهل النار، لأن المحب في الأول قد انطبعت فيه صورة المحبوب وهي صورة متوحدة، وأما حقيقة الذي أحب حجرا كما جاء في الرواية الشريفة( فلو أن رجلا تولى حجرا لحشره الله معه يوم القيامة) يأتي معه وإن تبرأ منه، وهذا ما جاء في القرآن الكريم ( إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب ) (البقرة : 166) وكذلك (يوم ندعو كل أناس بإمامهم ) (الإسراء: 71 )، ومن الطبيعي أن كل إنسان يتعلق بشيء فهو إمامه، وهو بلحاظ أتباع أهل البيت يوم ندعو كل طائفة من الشيعة بإمام زمانها، والذين يعيشون منهم في زمن الغيبة يدعون مع الإمام صاحب الزمان صلوات الله وسلامه عليه. وبلحاظ أئمة الباطل فأوليائهم كثر بكثرة الملوك ووعاظ السلاطين الذين يأخذون منهم وينساقون إزائهم، وكذلك من يأتي يوم القيامة وإمامه حجر أو منصب أو حيوان أو جاه أو ضب أو بعير أو زوجة أو ذهب أو فضة أو نقود أو ما شاكل ذلك، ولربما المعنى يكون أوضح من ذلك (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون) (الجاثية : 23).
ولايتان لا ثالث لهما ولاية الحق وولاية الباطل، وطالما تفجرت من ولاية الحق ينابيع المودة والألفة والتعايش السلمي، وفي المقابل برز من ولايات الباطل إخطبوط الشر يحاول التهام كل خير شيده الحق على حين غرة، ويبقى العالم حلبة للصراع بين الحق والباطل، بين الفضيلة والرذيلة، بين القيم والانحلال، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها عباده الصالحين كما وعدنا الحق في محكم كتابه الكريم، والسؤال الذي يتلوى من بين الأسطر كيف يمكن التمييز بين دعوة الحق ودعوات الباطل؟ من دون تعمل ومن خلال ما يطفح من سلوك على أرض الواقع يمكن التمييز بينهما، فكل منصف ينجذب إزاء دعوات التهدئة والوحدة والتآلف التي تصدر من المرجعيات الشيعية وعلى رأسها المرجع الأعلى للطائفة السيد علي السيستاني، في حين نراه يتقزز إزاء ما يصدر من معظم المرجعيات السنية التي يحمل خطابا ملئه الحقد والعنف والتزوير والاحتراب الطائفي المقيت، لا أدري هل الدعوة إلى الاحتراب الطائفي هي اجترار للماضي أم أنها أداة لأجندة خارجية تحاول إرجاع البلاد إلى سابق عهدها، وعلى هذا الأساس فأنها ترفض ما يترشح عن التجربة الديمقراطية، وتحرض دائما على العنف أملا باسترداد الحكم ليس عن طريق الانتخابات، ولكن بالعنف وإلغاء الآخر ولو كان على حساب أشلاء الأبرياء وتحطم البلاد وإحراق الأخضر واليابس.
الشيعة يستلهمون من الحسين عليه السلام منهج الكرامة والعزة والمنعة، والتكفيريون يقتبسون من طاغيتهم يزيد الغدر والمكر والخداع، وإذا ما أردنا أن نشيع فكرة التداول السلمي للسلطة وإحقاق العدالة في توزيع الثروة وتكافؤ الفرص وعدم استئثار زعيم أو حزب أو طائفة على الحكم، وهي مطالب حقة ترددها الشيعة وكل الشعوب المتحررة في العالم، لا بد أن يلطم أتباع ولاية الحق وجوه الصداميين والتكفيريين ومن وراءهم الأنظمة العربية الفاسدة، ويركسوهم في وحل الذل والهوان التعس انتقاما لملائين الضحايا الذين قضوا على مذبح الحرية والكرامة، ليكون حزمهم وتصميمهم على قطع دابر الفتنة - عبرة لكل من تسول له نفسه المساس في تلك الأمور المصيرية في حياتنا، فهي بحق خطوط حمر لا يمكن لأحد أن يتخطاها، هذا إذا ما أراد أتباع أهل البيت أن يكونوا أعزاء مثلما أراد لهم الإمام الحسين ذلك، بكاؤنا على قتيل الطفوف هو خير منعطف لاسترداد الحقوق وانبساط العدل، وإلا كانت تلك الشعائر مجرد طقوس هزيلة تراوح مكانها لا تغني ولا تسمن من جوع:لم يفدنا لطمنا راحا براح*** لا ولا ينفعنا طول المناحفمتى نلطم بالبيض الصفاح*** أوجها قد جذعت منا الأنوفبأبي أفدي قتيلا بالطفوف*** نهبت أحشاءه بيض السيوف
وكل من لا يغترف من معين أهل البيت وعلى رأسهم الإمام الحسين عليه السلام، إنما هو هالك لا محالة، وقد شاع في زماننا هذا الاغتراف من كتب أهل الضلال والسير على نهجهم المنحرف والذي يؤدي بالبشرية إلى نفق مظلم في الانحراف والتيه والضلال وربما يكون الدين غطاء لتلك الأفكار المنحرفة، وما على أتباع أهل البيت إلا عرض بضاعتهم في الفكر السليم والسلوك الوضاء بطريقة شفافة بعيدة عن الغلو والتكفير والتسقيط والتجريح، وبعيدة عن العنف والتهجير والإقصاء والأنانية والإستئثار بالحكم والثروة، مثلما يفعل وعاظ السلاطين وأتباعهم من التكفيريين، إذ يوصمون أتباع أهل البيت بأن خطرهم أفدح على المسلمين من خطر اسرائيل! وأثبت أتباع أهل البيت في أكثر من حادثة وموقف - أن ردود أفعالهم حيال الأحداث التي تعصف بهم عقلائية بالرغم من فداحة الخطب وفضاعة الحيف الذي لحق بهم. ومن الواضح أن إبليس طالما يختفي تحت الألسنة، لأن إبليس لا يجد مخبئاً يصعب اكتشافه أفضل من الألسنة الناطقة، فالذي امتلأ صبرا وقيما وأخلاقا فقد كان ناطقا عن الله، والذي امتلأ حقدا وانحرافا وتحللا فقد كان ناطقا عن إبليس، والعاقل هو الذي يميز من يعبد الله حقاً ومن يعبد الشيطان!!!.
هذا ما ورد في الحديث عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام، فعن إبراهيم بن أبي محمود قال: قلتُ للرضا عليه السلام: إن عندنا أخباراً في فضائل أمير المؤمنين عليه السلام وفضلكم أهل البيت، وهي من مخالفيكم، ولا نعرف مثلها عندكم أفندين بها؟ فقال: يابن أبي محمود، لقد أخبرني أبي عن أبيه عن جدّه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق عن الله عز وجل فقد عبد الله، وإن كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس، ثم قال عليه السلام: يابن أبي محمود، إن مخالفينا وضعوا أخباراً في فضائلنا وجعلوها على ثلاثة أقسام: أحدها الغلو، وثانيها التقصير في أمرنا، وثالثها التصريح بمثالب أعدائنا. فإذا سمع الناس الغلو فينا كفّروا شيعتنا ونسبوهم إلى القول بربوبيتنا، وإذا سمعوا التقصير اعتقدوه فينا، وإذا سمعوا مثالبَ أعدائنا بأسمائهم ثلبونا بأسمائنا، وتابع الإمام عليه السلام يقول: يابن أبي محمود، إذا أخذ الناس يميناً وشمالاً فالزم طريقتنا ـ وهي الطريقة الوسطى ـ فإنه من لزمنا لزمناه، ومن فارقنا فارقناه، إن أدنى ما يخرج به الرجل من الإيمان أن يقول للحصاة هي نواة، ثم يدين بذلك ويبرأ ممّن خالفه.. ( الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج4/ ص504 )
https://telegram.me/buratha