كما هو الحال في كل عام، تتكلل مراسم إحياء ذكرى استشهاد الامام الحسين(ع) في كربلاء قبل ألف وأربعمائة عام بـ"ركضة طويريج"، التي تمتد لمسافة ثلاثة كيلومترات، حيث انطلق الماراثون الحسيني بعد صلاة الظهرين صوب مرقد الامام (ع)، ثم الى مرقد أبي الفضل العباس(ع)، لينتهي به المطاف في المخيم الحسيني، بمشاركة مليونية حاشدة تجاوزت الثلاثة ملايين زائر عراقي، ومعهم عشرات الآلاف من بلدان إسلامية مختلفة في مقدمتها الجمهورية الاسلامية الايرانية، والكويت ولبنان وباكستان وتركيا والهند وغيرها.
وقبل الركضة الشهيرة، شهد يوم العاشر من محرم هذا العام قراءة المصرع الحسيني في مختلف المراقد والعتبات المقدسة والمساجد والحسينيات في كربلاء وسائر مدن العراق الاخرى، من ساعات الصباح الاولى حتى حلول صلاة الظهر، قبل أن تتوجه العشرات –إن لم يكن المئات-من مواكب العزاء التي تخرج منذ الصباح، لتشارك في ركضة طويريج ومن ثم تنتهي مسيراتها في كربلاء عند المخيم الحسيني، حيث تعرض مشهدية حرق الخيام.
الموالون لأبي عبد الله الحسين (ع)
ولم تقتصر الاحياءات لواقعة الطف الاليمة على يوم العاشر من محرم الحرام، بل إن ليلة العاشر، شهدت توافدا لأعداد هائلة من الزوار على مرقدي الامام الحسين وأخيه العباس عليهما السلام، فضلا عن المراقد الدينية الاخرى في النجف الاشرف والكاظمية وسامراء والعديد من المراقد الاخرى المنتشرة في مختلف مدن العراق.
وعلى مدى الايام العشرة الماضية، وتحديدا منذ استبدال الرايات الحمراء بالسوداء في كربلاء في ليلة الاول من محرم، اتشحت مختلف مدن ومناطق العراق بمظاهر الحزن واللوعة والالم على مصاب سيد الشهداء، لترسم لوحة حسينية -كما هو الحال في كل عام- معبرة عن اعمق درجات الولاء للامام الحسين عليه السلام.
وحتى الان لم تصدر احصائيات رسمية دقيقة لعدد المواكب والهيئات الحسينية التي شاركت في احياء مراسم عاشوراء هذا العام، ولا لعدد المشاركين فيها، بيد ان ما يمكن تأكيده هو انه لم تخلُ محلة واحدة في العراق، سواء في المدينة او الريف من رايات ترفع، او مجالس تعقد، او موائد تنصب احياء لملحمة عاشوراء الخالدة، بعبارة اخرى ان كل العراقيين تقريبا شاركوا بإحياء ذكرى استشهاد الامام الحسين بن علي (عليهما السلام).
وقد لا نبالغ، ولا يبالغ من يقول ان كربلاء في يوم العاشر من محرم الحرام تحتضن كل العالم، ولعل ذلك امر طبيعي وتعكسه المقولة الخالدة.. "كل يوم عاشوراء وكل ارض كربلاء". فلكربلاء خصوصية معينة، وذلك نظرا لطبيعتها الدينية من جانب، ومن جانب آخر لأنها تحتضن ضريح حفيد رسول الله(ص) وعدد من أصحابه الشهداء، وبالخصوص حبيب بن مظاهر الاسدي، والحر بن يزيد الرياحي الذي يبعد مرقده عن مركز المدينة حوالي خمسة كيلومترات، واكثر من ذلك فإنها -اي كربلاء- مثلت مسرح وميدان واقعة الطف، اذ فيها المخيم الحسيني، وتل الزينبية، وموضع الكفين اليمنى واليسرى للعباس، ونهر العلقمي، لذلك ليس غريبا ان تشهد تلك المدينة حضورا مليونيا في الكثير من المناسبات الدينية، لا سيما في العاشر من محرم الحرام، وفي العشرين من صفر حيث اربعينية الامام الحسين عليه السلام، وفي الخامس عشر من شهر شعبان، حيث ذكرى ولادة الامام المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف.
والملفت اننا نجد في كربلاء يوم العاشر من محرم اناسا من مختلف الطوائف والمذاهب والاديان والقوميات والاجناس، وكلهم يهتفون (لبيك يا حسين)، رغم اختلاف السنتهم والوانهم ولغاتهم ولهجاتهم.
والملفت ايضا ان ملايين العراقيين، والاف الاجانب يأتون الى كربلاء وهم يدركون طبيعة وحقيقة المخاطر والتحديات التي يواجهونها من التكفيريين والارهابيين، بيد انهم مع ذلك لا يأبهون بها ابدا، بل على العكس تماما، كلما زاد مستوى التحديات والمخاطر، ارتفعت اعداد الزائرين وتزايد حماسهم واندفاعهم، وهذا ما اثبتته الوقائع بالارقام والحقائق في هذا العام والاعوام السابقة.
إحدى الفعاليات العاشورائية
وما يمكن تسجيله بشأن مراسم احياء عاشوراء هذا العام، هو عدم وقوع عمليات ارهابية ضد الزوار والمواكب والهيئات الحسينية، وهذا في الواقع احد ابرز الانعكاسات الايجابية للحرب ضد تنظيم "داعش" الارهابي، التي ادت طيلة عام ونصف تقريبا الى كسر شوكته واضعافه الى حد كبير، وكذلك استثمار اجواء الحزن الحسيني للتأكيد على ضرورة واهمية استلهام الدروس والعبر من ثورة الامام الحسين عليه السلام لاصلاح الواقع السياسي والاجتماعي والسلوكي للمجتمع. وقد وجدنا ان خطباء المنبر الحسيني حرصوا على تسليط الضوء على تلك المفاهيم، ودعوة المتصدين لمواقع المسؤولية العامة الى عدم الاكتفاء بترديد شعارات الامام الحسين(ع) كلاميا، بل تطبيقها عمليا على ارض الواقع.
اضف الى ذلك فإن تفاعل النسيج الاجتماعي العراقي المتنوع قوميا ودينيا ومذهبيا مع الثورة والمظلومية التي تمثلها عاشوراء، كما هو الحال في كل عام، عبر عن شمولية وانسانية واخلاقية تلك الملحمة الخالدة التي صاغها ورسمها سيد الشهداء واهل بيته واصحابه بدمائهم الطاهرة، والا ماذا يعني ان نسمع صرخات "لبيك يا حسين"و"هيهات منا الذلة"، و"ابد والله ما ننسى حسينا" في اربيل كما نسمعها في بغداد، ونسمعها في نينوى كما نسمعها في كربلاء المقدسة، ونسمعها في صلاح الدين كما نسمعها في النجف؟
https://telegram.me/buratha