الدكتور خيام الزعبي-صحفي وكاتب أكاديمي سوري
تثبت أمريكا كل يوم مدى كرهها وعدائها للعرب وضلال دعواتها للحريات وحقوق الإنسان، فهي أول من ينتهك تلك الحقوق بوحشية قاسية، فجاءت عمليات تهجير المسيحيين التي تعد كارثة إنسانية بكل المقاييس، لتكشف الأقنعة عن مخططها الصهيوني لتفتيت العالم العربي، فالذي يحدث في العراق وسوريا من تهجير للمسيحيين يصب في مصلحة الرؤية الإستراتيجية الأمريكية للمنطقة، ويحقق خطوات فعلية لمخطط الفوضى الخلاقة ويكفل تقسيم الشرق الأوسط إلى دويلات صغيرة، فصمت أمريكا عن قتل المسيحيين وتهجيرهم يثبت أن البيت الأبيض يستخدم كل الأدوات لتحقيق مصالحه ومصالح إسرائيل، الذي تخلى وباع مسيحي الشرق الأوسط جميعهم من أجل مشروع تقسيم المنطقة، فالذي أصاب الموصل من تهجير إجباري مهين، وحرق كنائس أثرية، والإستيلاء على ممتلكاتهم، خير دليل على ذلك، إذ لم تتحرك أمريكا لحماية حقوقهم.
إن ما يحصل اليوم في العراق لا يمكن فصله بأي حال من الأحوال عن الأوضاع في سوريا فالسيناريو مشابه تقريباً وهو ما يشير الى أن للموضوع أبعاد أكثر مما هي معلنة وهو بداية مرحلة الشرق الأوسط الجديد وتقسيم دول المنطقة على أسس مذهبية وعرقية، فقد كنا نظن بان ذاك المشروع الذي يقف خلفه اللوبي اليهودي والمحافظين الجدد قد تم وأده بعد فشل الإحتلال الأمريكي في العراق وصمود المقاومة في كلا من فلسطين ولبنان في وجه الآلة العسكرية الإسرائيلية، لكن يبدو بأن رياح الربيع العربي قد أتت على هوى هذه القوى لتعيد إحياء هذا المشروع، وقد بدت معالمه واضحة بعد قيام تنظيم داعش بإزالة الحدود بين محافظتي نينوى العراقية والحسكة السورية، فضلاً عن سكوت الولايات المتحدة الأمريكية وإهمالهم للمسيحيين في المنطقة وما يحدث لهم من تهجير وأعمال عنف على أيدي التنظيم الإسلامي "داعش"، لذا لا يعد مستغرباً بأن أمريكا، وبحسب معطيات المشهد السياسي، ستستمر في إستغلال الدين في المنطقة وإندفاع السنة ضد الشيعة، كآلية جديدة لتحقيق مخططها التفتيتي في الشرق الأوسط.
وكل ذلك يقتضي طرح تساؤلات جوهرية، لماذا تسكت الولايات المتحدة على المأساة الإنسانية للمسيحيين في العراق وسوريا؟ وما هو هدف أمريكا من تهجير المسيحيين وهل تطبيقه يحقق المصلحة الإسرائيلية أم يتعارض معها؟
هنا لا بد من القول أن المسيحي والمسلم السني والشيعي العربي والتركماني وغيرهم جميعاً ضحية لتلك الحرب المسمومة، للقضاء على الوطن العربي وتناحره، ولا يمكننا أن نتجاهل أن ما يحدث للمسيحيين في الشرق بأيدي الجماعات التكفيرية التي صنعتها أجهزة الإستخبارات التابعة لأمريكا والكيان الصهيوني، ذريعة جديدة هدفها التدخل في أوطاننا، فتهجير المسيحيين الممنهج بدأ في فلسطين من قبل الكيان الصهيوني، ما يؤكد أن المخطط الجهنمي لإقتلاع المسيحيين تتوزع أدواره على الصهاينة من جهة وعلى التكفيريين من جهة أخرى،
وهجرة المسيحيين من العراق تعود إلى عام 2003 مع بداية الغزو الأمريكي فذكر تقرير سابق لمنظمة "حمورابي لحقوق الإنسان" العراقية، أن عدد المسيحيين إنخفض من حوالي مليون و400 ألف إلى قرابة نصف مليون، واليوم تقوم داعش بتهجير مئات الآلاف من المسيحيين وخاصة في الموصل، بعد أن إستعمرت كنائسهم وحولتها إلى مقار لقيادتها وأمريكا صامتة لا تحرك ساكنا، ويرجع هذا الصمت الرهيب تجاه قتل المسيحيين وتهجيرهم، الى أن تنظيم "داعش" هو صناعة أمريكية وعميل لها، وأن واشنطن تريد تحويل العراق لمنطقة جاذبة لكل المتشددين وأنصار العنف، كما تريد أن يكون الشرق الأوسط مفرخة للإرهاب والإرهابيين، إذ تعمل لتحقيق ذلك على خلق الصراعات الطائفية مرة بين المسلمين والمسيحيين وأخرى بين السنة والشيعة، في إطار مخطط تقسيم المنطقة .
ومن ثم فإن تهجير المسيحيين من الشرق, يعد بمثابة مكسب للأمريكيين والإسرائيليين لإنهم يشكلون خطراً على مصالحهم، بإعتبارهم حصناً منيعاً ضد تقسيم المنطقة إلى كيانات طائفية أو مذهبية, خاصة مع إنتمائهم للعالم العربي ودفاعهم عن القضية الفلسطينية, وفي سبيل تحقيق ذلك كان من اللازم تنفيذ الجزء الأول من مخطط الشرق الأوسط الكبير وهو نشر الفوضى الخلاقة, من خلال زعزعة الاستقرار في الدول العربية لإضعافها من جهة، وتفكيكها من جهة أخرى، وقد تلاقت تلك الأهداف مع الدور الذي تقوم به القاعدة من خلال القيام بأعمال انتقامية ضد المسيحيين, تجبرهم على الهجرة وبذلك تتحقق مصالح إسرائيل في تحويل المنطقة العربية المحيطة بها إلى مجموعة متشرذمة من الدويلات الصغيرة المتناحرة، ويأتي ذلك المخطط إستكمالاً لما قامت به إسرائيل, من تهجير متواصل لمسيحيي فلسطين من أجل تفريغ القضية الفلسطينية من بعدها المسيحي, والتخلص من مكون عربي مهم ومحوري في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بهدف تغيير الميزان الديموغرافي, لتنفيذ مشروع يهودية الدولة الإسرائيلية, وليكتسي الصراع ببعد ديني يهودي مسلم.
وفي إطار ذلك أرى إن هذا التهجير بحق المسيحيين يُعد وصمة عار على جبين الأمة العربية والإسلامية التي مازالت صامتة ولن تحرك ساكناً أمام منظمة الأمم المتحدة أو الجامعة العربية، على أقل تقدير لنبرهن للعالم أن هذا التصرف لا يليق بأمتنا المعروفة بتسامحها منذ فتوحات الخلفاء الراشدين حيث لم يجد العرب المسيحيون آنذاك غير الإحترام وصيانة كنائسهم وممتلكاتهم .
وأختم مقالتي بالقول إن المنطقة دخلت الآن في أوج أزمتها والإنفجار قريب والتفتت بات واقعاً، يبقى وحده تحالف دولي يمكن أن يغير ميزان القوى وأن يعيد المنطقة إلى سابق عهدها، تحالف تقوده دول معنية بمكافحة الإرهاب وإجتثاثه وقد تقوده سوريا والعراق بمساعدة دول أخرى على رأسها روسيا، فالوقت الآن لتقييم كل ما حصل وأن نتكاتف جميعنا ونضع خلافاتنا جانبا لحماية أبنائنا في ظل وطننا الكبير، وأن نعد العدة ولا نستهين بالخطر القادم إلينا من جميع الاتجاهات.
19/5/140731
ــــــــــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha