التقارير

أنجيلا ميركل والانتصار الباهظ

1158 18:14:00 2013-10-09

جورج سوروس* رئيس مجلس إدارة “صندوق سوروس” لإدارة الأموال ومؤسسات “المجتمع المفتوح”.

«بروجيكت سنديكيت»

يبدو أن دراما أزمة اليورو قد انتهت من منظور ألمانيا، حتى إن هذا الموضوع لم يُطرَح للمناقشة على الإطلاق تقريباً في الحملة الانتخابية الأخيرة التي شهدتها البلاد، فقد قامت المستشارة أنجيلا ميركل بكل ما هو ضروري لضمان بقاء اليورو، وكان ذلك بأقل تكلفة ممكنة بالنسبة إلى ألمانيا- وهو الإنجاز الذي أكسبها دعم المؤيدين لأوروبا من الألمان فضلاً عن أولئك الذين منحوها ثقتهم في قدرتها على حماية المصالح الألمانية. ولم يكن من المستغرب إذا أن يكون فوزها بإعادة الانتخاب مدوياً.ولكنه كان نصراً باهظ الثمن، فالوضع الراهن في منطقة اليورو ليس مقبولاً ولا مستقراً، وهو ما قد يطلق عليه خبراء الاقتصاد التقليديون وصف التوازن الأدنى؛ أما أنا فأعتبره كابوساً- الكابوس الذي ينزل بنا كماً هائلاً من الألم والمعاناة والذي يمكننا تجنبه بسهولة إذا بددنا المفاهيم الخاطئة والمحظورات التي تدعمه. والمشكلة هي أن البلدان المدينة هي التي تستشعر كل الألم، في حين تفرض البلدان الدائنة المفاهيم الخاطئة والمحظورات.ومن بين الأمثلة هنا سندات اليورو، التي أعلنت ميركل كونها من المحرمات. ورغم هذا فإنها الحل الواضح للسبب الجذري وراء أزمة اليورو، وهو أن الالتحاق بعضوية اليورو أدى إلى تعريض سندات حكومات البلدان الأعضاء لخطر التخلف عن سداد الديون.عادة، لا تتخلف البلدان المتقدمة عن سداد ديونها أبداً، لأنها قادرة دوماً على طباعة النقود، ولكن بالتنازل عن هذه السلطة لمصلحة بنك مركزي مستقل، وضعت بلدان منطقة اليورو نفسها في موقف البلد النامي الذي اقترض بعملة أجنبية، والواقع أن عدم انتباه السلطات ولا الأسواق لهذه الحقيقة قبل اندلاع الأزمة يشهد على عدم عصمة الاثنين وقابليتهما للخطأ.

عندما تم تقديم اليورو، أعلنت السلطات في واقع الأمر أن سندات حكومات الدول الأعضاء خالية من المخاطر، وكان بوسع البنوك التجارية أن تحتفظ بهذه السندات دون تخصيص أي احتياطيات من رأس المال، وقَبِلَها البنك المركزي الأوروبي بنفس القدر من الاطمئنان على فرصة الخصم. وساعد هذا في خلق حافز ضار لدى البنوك التجارية لشراء ديون الحكومات الأكثر ضعفاً من أجل كسب ما أصبح في نهاية المطاف مجرد بضع نقاط أساس مع تقارب الفوارق في أسعار الفائدة إلى الصفر عملياً.ولكن تقارب أسعار الفائدة كان سبباً في حدوث تباعد اقتصادي، فقد تمتعت البلدان الأضعف بطفرات عقارية واستهلاكية واستثمارية، في حين اضطرت ألمانيا المثقلة بالأعباء المالية المترتبة على توحيد شطريها إلى تبني التقشف وتنفيذ إصلاحات بنيوية، وكان هذا هو منشأ أزمة اليورو، ولكن أحداً لم ينتبه إليه أو يدركه في ذلك الحين، وهو ليس مفهوماً بالشكل الصحيح حتى يومنا هذا.

إن تحويل كل السندات الحكومية المعلقة- باستثناء سندات اليونان- إلى سندات اليورو هو العلاج الأفضل على الإطلاق، فهو لن يتطلب مدفوعات تحويل لأن كل دولة سوف تظل مسؤولة عن خدمة ديونها. وسوف يفرض على البلدان المدينة انضباطاً أكثر صرامة في التعامل مع السوق، لأنها لن تتمكن من إصدار سندات اليورو إلا لإعادة تمويل المستحق منها؛ وأي اقتراض إضافي لابد أن يكون باسمها شخصياً، وسوف تفرض الأسواق أسعار فائدة عقابية على الاقتراض المفرط.ومع هذا فإن سندات اليورو من شأنها أن تقلل بشكل كبير من تكاليف اقتراض البلدان المثقلة بالديون وأن تقطع شوطاً طويلاً على مسار إعادة تمهيد أرض الملعب لتوفير الفرص المتكافئة في منطقة اليورو. ولن يتعرض التصنيف الائتماني الألماني للخطر، لأن سندات اليورو سوف تكون أكثر تفضيلاً من السندات التي تصدرها البلدان الرئيسة الأخرى.صحيح أن سندات اليورو لن تعالج التفاوت في القدرة التنافسية؛ وسوف تظل بلدان منطقة اليورو في احتياج إلى إجراء إصلاحات بنيوية في الداخل، لكنها سوف تعالج الخلل الذي اعترى التصميم الأساسي لليورو. وكل البدائل أقل نفعاً: لأنها إما تشمل مدفوعات تحويل، وإما تديم أرض الملعب غير المتكافئة، وإما كلا الأمرين. ولكن رغم هذا، ونظراً للمعارضة من جانب ميركل، فإن سندات اليورو لا يمكن حتى مجرد التفكير فيها.واليونان أيضاً كانت ضحية للمفاهيم الخاطئة والمحظورات لدى دائنيها، فالجميع يعلمون أنها غير قادرة أبداً على سداد ديونها، التي يحتفظ بأغلبها القطاع الرسمي: البنك المركزي الأوروبي، أو دول منطقة اليورو، أو صندوق النقد الدولي، فبعد الخضوع لقدر كبير من الألم والمعاناة، أصبحت اليونان قريبة من تحقيق فائض أولي في الميزانية، وإذا تمكن القطاع الرسمي من التنازل عن السداد ما دامت اليونان تلبي الشروط التي فرضتها عليها الترويكا (البنك المركزي الأوروبي، والمفوضية الأوروبية، وصندوق النقد الدولي)، فإن رأس المال الخاص سوف يعود ويصبح بوسع الاقتصاد أن يتعافى بسرعة أكبر.وأستطيع أن أشهد من واقع تجربتي الشخصية بأن المستثمرين سوف يندفعون إلى اليونان زرافات ووحداناً بمجرد إزالة عبء الديون، لكن القطاع الرسمي لا يمكنه شطب ديونه، لأن هذا ينتهك عدداً من المحرمات، وخاصة في نظر للبنك المركزي الأوروبي.وتحسن ألمانيا صنعاً إذا تذكرت أنها استفادت من شطب الديون ثلاث مرات في تاريخها، فقد سعت “خطة دوز” في عام 1924 إلى جدولة مدفوعات التعويض المستحقة على ألمانيا عن الحرب العالمية الأولى. وقللت “خطة يونغ” في عام 1929 من مجموع التعويضات المستحقة على ألمانيا كما أعطت البلاد وقتاً أطول كثيراً للسداد. وقدمت “خطة مارشال” بعد الحرب العالمية الثانية تخفيفاً للديون أيضاً.ومن الواضح أن إصرار فرنسا على فرض تعويضات قاسية على ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى مهد الأرض لصعود هتلر، وكان صعود حزب “الفجر الذهبي” الفاشي الجديد في اليونان ظاهرة مماثلة.ويبرر هذين المثالين وصفي لأزمة اليورو بالكابوس، وألمانيا وحدها القادرة على إنهاء هذا الكابوس، لأنها تتولى زمام الأمور بوصفها الدولة صاحبة أعلى تقييم ائتماني وأضخم وأقوى اقتصاد على الإطلاق.والواقع أن ألمانيا، التي تضع تاريخها الحديث في الاعتبار، لا تريد أن تلعب دور القوة المهيمنة؛ ولم يكن الموقف الحالي نتيجة لمخطط ألماني شرير. ورغم هذا فإن ألمانيا لا تستطيع أن تتهرب من مسؤولياتها والتزاماتها التي تصاحب دورها، وينبغي لها أن تتعلم كيف تتصرف كقوة مهيمنة حميدة، فهذا من شأنه أن يُكسِب ألمانيا الامتنان الدائم من البلدان التابعة لها، تماماً كما أكسبت “خطة مارشال” الولايات المتحدة امتنان أوروبا الدائم، والفشل في اغتنام هذه اللحظة من شأنه أن يؤدي في اعتقادي إلى تفكك الاتحاد الأوروبي وانهياره في نهاية المطاف.بطبيعة الحال، هناك العديد من البلدان التي عاشت عبر كوابيس وتمكنت من البقاء، لكن الاتحاد الأوروبي ليس بلداً؛ بل هو في واقع الأمر عبارة عن رابطة غير مكتملة بين دول ذات سيادة ولن تتمكن من البقاء بعد عقد أو أكثر من الكساد، ولا يصب هذا في مصلحة ألمانيا، بل من شأنه أن يجعل الأوروبيين في حال أسوأ مما كانوا عليها عندما شرعوا في تنفيذ مشروع الاتحاد الأوروبي.

إن الانعطاف إلى الخلف ليس بالأمر السهل أبداً بالنسبة إلى الزعماء السياسيين، ولكن الانتخابات توفر الفرصة لتغيير السياسة، وأفضل السبل لإحداث مثل هذا التغيير هو أن تعين حكومة ميركل المقبلة لجنة خبراء مستقلة لتقييم البدائل، دون النظر إلى المحظورات والمحرمات السائدة.

 

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
محمود الراشدي : نبارك لكم هذا العمل الجبار اللذي طال إنتظاره بتنظيف قلب بغداد منطقة البتاويين وشارع السعدون من عصابات ...
الموضوع :
باشراف الوزير ولأول مرة منذ 2003.. اعلان النتائج الاولية لـ"صولة البتاوين" بعد انطلاقها فجرًا
الانسان : لانه الوزارة ملك ابوه، لو حكومة بيها خير كان طردوه ، لكن الحكومة ما تحب تزعل الاكراد ...
الموضوع :
رغم الأحداث الدبلوماسية الكبيرة في العراق.. وزير الخارجية متخلف عن أداء مهامه منذ وفاة زوجته
عمر بلقاضي : يا عيب يا عيبُ من ملكٍ أضحى بلا شَرَفٍ قد أسلمَ القدسَ للصُّ،هيونِ وانبَطَحا بل قامَ يَدفعُ ...
الموضوع :
قصيدة حلَّ الأجل بمناسبة وفاة القرضاوي
ابراهيم الجليحاوي : لعن الله ارهابي داعش وكل من ساندهم ووقف معهم رحم الله شهدائنا الابرار ...
الموضوع :
مشعان الجبوري يكشف عن اسماء مرتكبي مجزرة قاعدة سبايكر بينهم ابن سبعاوي
مصطفى الهادي : كان يا ماكان في قديم العصر والزمان ، وسالف الدهر والأوان، عندما نخرج لزيارة الإمام الحسين عليه ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يكشف عن التعاقد مع شركة امريكية ادعت انها تعمل في مجال النفط والغاز واتضح تعمل في مجال التسليح ولها تعاون مع اسرائيل
ابو صادق : واخیرا طلع راس الجامعه العربيه امبارك للجميع اذا بقت على الجامعه العربيه هواى راح تتحرر غلسطين ...
الموضوع :
أول تعليق للجامعة العربية على قرار وقف إطلاق النار في غزة
ابو صادق : سلام عليكم بلله عليكم خبروني عن منظمة الجامعه العربيه أهي غافله ام نائمه ام ميته لم نكن ...
الموضوع :
استشهاد 3 صحفيين بقصف إسرائيلى على غزة ليرتفع العدد الى 136 صحفيا منذ بدء الحرب
ابو حسنين : في الدول المتقدمه الغربيه الاباحيه والحريه الجنسيه معروفه للجميع لاكن هنالك قانون شديد بحق المتحرش والمعتدي الجنسي ...
الموضوع :
وزير التعليم يعزل عميد كلية الحاسوب جامعة البصرة من الوظيفة
حسن الخفاجي : الحفيد يقول للجد سر على درب الحسين عليه السلام ممهداً للظهور الشريف وانا سأكمل المسير على نفس ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
عادل العنبكي : رضوان الله تعالى على روح عزيز العراق سماحة حجة الإسلام والمسلمين العلامة المجاهد عبد العزيز الحكيم قدس ...
الموضوع :
بالصور ... احياء الذكرى الخامسة عشرة لرحيل عزيز العراق
فيسبوك