بعد الهزائم المتلاحقة هل بقى للقاعدة من اصدقاء في العراق؟

لم يمض أسبوع واحد على الإعلان عن نية تشكيل مجلس عشائري لمحاربة القاعدة في محافظة نينوى، حتى تعرض منزل صاحب المبادرة إلى المحاصرة والتدمير الكامل من قبل مسلحين مجهولين. ولم تقع خسائر بشرية بسبب كون المنزل خالياً لحظة نسفه.يأتي حادث نسف منزل الشيخ فواز الجربا بعد أسبوع فقط من اغتيال الشيخ عبد الستار أبو ريشة مؤسس "مجلس إنقاذ الأنبار". وفي محافظة ديالى قامت عناصر من تنظيم القاعدة بالهجوم على بعض القرى السنية وقتلت عدداً من سكانها المدنيين، انتقاماً من تعاون أبناء تلك القرى مع القوات الأمريكية والعراقية التي تحارب التنظيم في المحافظة. كل هذه الأحداث تشير إلى أن الحرب بين تنظيم القاعدة في العراق وبين القبائل العربية السنية قد وصلت نقطة اللاعودة، وأن التنظيم الإرهابي صار يعتبر قرى بمجملها مرتدة يجب قتالها.تداخل القاعدة والسنة العربلفترة طويلة كان الفصل بين مسلحي تنظيم القاعدة وبين الجماعات السنية العربية في العراق أمراً في غاية الصعوبة، بسبب تداخل الأهداف والشعارات، وبسبب اتخاذ التنظيم من مناطق السنة العرب مساحة ينطلق منها لشنّ عملياته العسكرية ضد القوات الأجنبية، والإرهابية ضد المدنيين العراقيين. بل إن كثيراً من السياسيين السنة قد نفوا لفترة طويلة أي وجود لتنظيم القاعدة في مناطقهم، ناسبين الأعمال المسلحة التي تنطلق من مناطقهم إلى ما يطلقون عليه "فصائل المقاومة العراقية" التي ظلت لفترة طويلة مجهولة الهوية.يمكن تفسير ذلك التداخل المثير للالتباسات إلى الشعور بالخسارة الذي هيمن على فئات واسعة في الوسط السني العربي بعد الإطاحة بنظام صدام حسين، الذي اتبع سياسة تمييز لصالحهم، في المجالين السياسي والاقتصادي، وبعد قيام سلطة الاحتلال بتفكيك أسس الدولة العراقية، وهو ما اعتبره السنة العرب عملاً يستهدف وجودهم كفئة صاحبة ثقل أكبر في الدولة العراقية الحديثة. دفع هذا الشعور فئات كثيرة في الوسط السني العربي إلى البحث عن أي بديل يمنحهم القوة لاستعادة دورهم في المعادلة العراقية.وبسبب عدم وجود أحزاب سياسية سنية مهمة في المعارضة العراقية السابقة، فقد تشكلت بشكل ارتجالي جماعات مسلحة بعضها ذات توجهات دينية، وبعضها من البعثيين ورجال المؤسستين العسكرية والأمنية اللتين قامت سلطة الاحتلال بحلهما. في ذلك الوقت استطاع تنظيم القاعدة أن يتغلغل بسرعة في المناطق السنية، وقدّم لكثيرين بديلاً أقوى من الجماعات السنية التي تشكلت بسرعة، معتمداً على خبراته العالمية الواسعة في التنظيم والعمل المسلح والإرهاب. ولا يغفل هنا وجود استعداد فكري لدى بعض الفئات السنية لتقبل وجود تنظيم القاعدة أو حتى الانضمام إليه بسبب انتشار الأفكار السلفية في العراق في العقد الذي سبق الغزو الأمريكي. فقد أطلق الدكتاتور السابق صدام حسين أواسط التسعينات ما أسماه "الحملة الإيمانية" وشجع نشر الكتب والمواعظ ذات التوجهات السلفية لخلق توازن ضد النزعات الطائفية الشيعية من جهة، وللمزايدة على السعودية ودول الخليج التي تدعم الفكر السلفي من جهة أخرى.لكن الطبيعة الدوغمائية المتطرفة لتنظيم القاعدة، وانصياعه لزعماء أجانب غالباً، وعدم فهمه لتعقيدات المشهد العراقي والتراتبية الاجتماعية داخل الوسط السني العراقي، إضافة إلى وجود نسبة كبيرة من المتعلمين وأبناء الطبقة الوسطى في تلك المناطق ممن لم يتعودوا العيش وفق تعاليم دينية شديدة التزمت، كل هذا عجـّل في ظهور الهوة بين التنظيم الإرهابي العالمي وبين الوسط الاجتماعي الذي شكل لزمن ما حاضنته الاجتماعية.العشائر تنتفضكانت محافظة الأنبار في الأعوام الثلاثة التي أعقبت الغزو الأمريكي هي المعقل الرئيس لتنظيم القاعدة، وكذلك للفصائل السنية العراقية المسلحة. تمتاز الأنبار بتركيبتها الاجتماعية المتجانسة إلى حد كبير، والتي تغلب عليها الطبيعة المحافظة قبلياً ودينياً. وإذا كانت هذه الميزة هي التي ساعدت في البداية على احتضان التنظيمات المسلحة، فإنها هي التي أدت أيضاً إلى الانقلاب على تنظيم القاعدة لاحقاً. يتفوق الولاء القبلي في بعض مناطق الأنبار أحياناً على المبادئ الدينية أو السياسية، وقد يؤدي مقتل شخص واحد من إحدى العشائر على يد مسلحي القاعدة إلى انقلاب العشيرة بمجملها ضدّ التنظيم. كما إن العشائر استاءت من بعض الممارسات التي تشكل إهانة للقيم القبلية، مثل طلب زعماء التنظيم من القبائل تزويج بناتهم لـ "المجاهدين". فضلاً عن ذلك فإن بعض الزعماء القبليين التقليديين الذين لم يتعاونوا مع القاعدة أخذوا يخسرون نفوذهم لصالح زعماء جدد تقووا بالتنظيم. كما إن الوضع الأمني المضطرب في المحافظة قد أثر بشدة على المصالح التجارية للمقاولين، وهم فئة كبيرة في المحافظة، يعود سبب كثرتها إلى التسهيلات التي كان يمنحها نظام صدام حسين سابقاً لأبناء هذه المحافظة في الأعمال التجارية. ومعظم هؤلاء المقاولين هم من عوائل ذات نفوذ قبلي.وهكذا حدث الانفصال الأول بين تنظيم القاعدة والقبائل العربية السنية في محافظة الأنبار ذاتها. وقد بدأت أولى علائم هذا الانفصال في منطقة نائية من المحافظة، وهي منطقة القائم الحدودية. في تلك المنطقة تسكن عشيرة الكرابلة التي كان أبناؤها مستفيدين من موقعهم الجغرافي في الأعمال التجارية، وكذلك في حماية الطريق الدولي مقابل دعم مالي وتسهيلات من الحكومة. وقد وجد أبناء هذه القبيلة أنفسهم يخسرون الكثير بسبب هيمنة تنظيم القاعدة على المنطقة وتحويلها إلى معبر رئيسي للمقاتلين الأجانب. كما أن المنطقة تعرضت بسبب ذلك إلى هجمات عنيفة من قبل القوات الأمريكية، مما دفع بعض أبنائها إلى التفكير بالتخلص من التنظيم. وقد شيخ عشيرة الكرابلة "أسامة الجدعان" معارك ضد التنظيم، لكن جهوده انتهت باغتياله على أيدي مسلحي القاعدة حين كان في منزله في العاصمة بغداد.دفعت تجربة الشيخ الجدعان شيوخاً آخرين في المحافظة إلى تكتيل جهودهم وتكوين تجمع عشائري مناهض للقاعدة. تـُوجت تلك الجهود بتشكيل "مجلس صحوة الأنبار" في أكتوبر من العام الماضي بزعامة الشيخ عبد الستار أبو ريشة. خلا أقل من عام استطاعت العشائر المنضوية في هذا المجلس من تطهير معظم مناطق الأنبار (وهي أكبر محافظة عراقية من حيث المساحة) من مسلحي القاعدة الذي لجأوا إلى بعض الأحياء السكنية في بغداد، أو شمالاً نحو بعض القرى في محافظة صلاح الدين، أو شرقاً نحو محافظة ديالى.الفصائل ايضاًفي الأشهر الأخيرة شجعت الحكومة العراقية تشكيل مجالس عشائرية مشابهة في شمال بغداد وجنوبها وشرقها. لكن جهود الحكومة تداخلت مع تطور مفاجئ آخر، حظي بدعم أمريكي وتحفظ رسمي عراقي. تمثل هذا التطور في امتداد مشاعر النقمة ضد القاعدة ليشمل الفصائل السنية المسلحة التي قاتلت إلى جانب القاعدة، والتي لم تكن مؤيدة للمجالس العشائرية. يعود هذا التطور بالدرجة الأولى إلى الدوغمائية التي يمتاز بها تنظيم القاعدة، وعدم وجود سقف معقول لطموحاته في فرض سلطته على الجميع.كانت هناك خلافات يحرص الطرفان على إخفائها، ثم حدثت اشتباكات محدودة ذات طابع فردي، ثم تطورت شقة الخلاف بين القاعدة وبين الفصائل السنية الأخرى لتصل إلى حد الاحتراب العلني. قرر الأمريكيون الاستفادة من هذا الخلاف فعرضوا الدعم المالي والعسكري على هذه الفصائل مقابل التنسيق مع الأمريكيين في الحرب على القاعدة. نجح الأمريكيون في مساعيهم التي بدأوها بمعزل عن الحكومة العراقية، مما أثار غضب رئيس الوزراء نوري المالكي الذي أعرب عن رفضه لهذه الساسة علناً.مجازفةفي ديالى ظهرت في الأيام الماضية أولى الدلائل على تلك المخاوف. استطاع تنظيم "كتائب ثورة العشرين"، أحد أكبر الفصائل السنية العراقية أن يطرد تنظيم القاعدة من أجزاء كبيرة في محافظة ديالى بدعم مباشر من القوات الأمريكية. لكن ما إن استتب الوضع في بعض المدن والقرى هناك حتى ظهرت المشاكل بين "الكتائب" وبين قوات الشرطة العراقية التي تهيمن عليها الأحزاب الشيعية. قبل يومين نظم أعضاء "الكتائب" تظاهرة وسط مدينة بعقوبة، مركز المحافظة، طالبوا فيها بإقالة قائد شرطة ديالى. وقد مرت التظاهرة بسلام، لكن التظاهر السلمي ليست عادة متأصلة لدى أفراد الفصائل المسلحة، وليس المستبعد أنهم سيلجأون في المرات القادمة إلى أساليب أقل سلمية لتحقيق مطالبهم.الموصلتتجه أنظار المراقبين الآن إلى مدينة الموصل الشمالية الغربية، ثاني أكبر مدن العراق، ومركز محافظة نينوى الكبيرة ذات الغالبية السنية العربية. فالدلائل تشير إلى أن تنظيم القاعدة بدأ بتأمين مواطئ قدم له هناك. ويسيطر من حين لآخر على بعض أحياء المدينة. وتبنى التنظيم المسئولية عن أكبر عملية إرهابية شهدها العراق في السنوات الأربع الماضية، وهي العملية التي استهدفت أبناء الطائفة اليزيدية في القصبات التابعة لمحافظة نينوى، وأوقعت مئات القتلى.تحاول الحكومة العراقية استباق الأمور وتأمين مدينة الموصل الحيوية ومحيطها قبل أن يتوسع فيها نفوذ القاعدة. وقد دعم رئيس الوزراء العراقي فكرة إنشاء مجلس عشائري في الموصل يتولى تحشيد عشائر المحافظة لمواجهة مسلحي القاعدة ومنعهم من فرض نفوذهم فيها. أعلن المبادرة أحد كبار شيوخ العشائر في الموصل، وهو الشيخ فواز الجربة، شيخ قبيلة شمر، إحدى أكبر العشائر العربية في العراق.أرادت القاعدة أن تقول إنها مستعدة لمواجهة العشائر أيضاً، فسارعت إلى محاصرة منزل الشيخ الجربة في مدينة الموصل، ونسفه بالمتفجرات. تبدو القاعدة قادرة على توجيه ضربات موجعة لكل الأطراف، لكن من المستبعد أن تستطيع الاستمرار في تواجدها على أرض لا أصدقاء لها فيها. وبخسارتها العشائر العربية أولاً، ثم الفصائل المسلحة ثانياً، فلم يعد أمامها من مأوى، خاصة والعراق ليست فيه جبال وعرة إلا في إقليم كردستان الذي يستبعد أن تتمكن القاعدة من اختراقه أمنياأذاعة هولندا العالمية