الفلوجة/ نزار حاتم
مدخل اولي
نشرت صحيفة القبس الكويتية تحقيقاً ميدانياً عن مدينة الفلوجة، ابتدأه مراسل الصحيفة من مدينة الكوفة، حيث الجناح الشيعي لعشائر البو عيسى العراقية، وصولاً الى الفلوجة، وحاول بحيادية تامة تلمس الكثير من اللمحات التي قد نغفل عنها نحن.. وفيما يأتي نص التحقيق.
مدخل ثانٍ
منذ فترة ليست قصيرة كنت أمنّي النفس بالتوجه الى الفلوجة التابعة لمحافظة الرمادي غربي بغداد، بعد أن كانت شهدت أحداثا دامية على خلفية استحواذ العناصر الارهابية على هذه المدينة وأهلها.
لقد عاشت الفلوجة صفحات عنف بالغة التعقيد والتداخل تمثلت - أوّلا – بشن القوات الأميركية وبمشاركة القوات العراقية هجوما ضخما دام لعدة أيام ضد الإرهابيين المحتمين بمنازل السكان بالإكراه، وثانيا وثبة أهالي المدينة وأبناء عشائرها الكبيرة عبر تشكيل "الصحوات" وخوضهم معارك داخلية شرسة مع الارهابيين لتطهير مدينتهم وتحريرها من قبضتهم المروعة.
بمعية رئيس قبيلة العيسى في مدينة الكوفة، وعضو البرلمان الدكتور عبود الحاج وحيد توجهت الى الفلوجة عبر الطريق السريع الذي يمتد من بغداد وينتهي عند الحدود الاردنية باتجاه الغرب. وما إن اجتزنا حدود بغداد حتى أشار الشيخ علي غالب البياتي أحد أعضاء "المصالحة الوطنية"، الذي رافقنا في هذه الرحلة، الى أن عشائر زوبع تستوطن المناطق المحاذية للشارع من جهة اليسار، فيما تنتشر قبائل الدليم على جانبه الأيمن.
كثافة السيطرات لا تثير السأم
كان للسيطرات حضورها المكثف على امتداد الشارع، ولا فاصلة كبيرة بين سيطرة وأخرى، يقوم عناصرها بفحص السيارات الذاهبة والغادية والتأكد من هوية ركابها دون أن تبعث هذه الاجراءات حالة السأم ما دامت تسهم الى حد بعيد في درء الأخطار، والحفاظ على أرواح الناس من سطوة الإرهاب والعابثين بالأمن.
قطعنا نحو 70 كيلومترا، فلاحت معالم الفلوجة التي تمثل مآذن المساجد فيها ظاهرة لافتة لكثرتها. كان بودنا التقاط صور لها بيد أن الترجل من السيارة المصفحة يعد أمرا محظورا لدواع أمنية. ولا يمكنك بهذه السيارة فتح أحد نوافذها المقفلة باحكام، كما أن التقاط الصور من خلال زجاج النوافذ كان هو الآخر أمرا متعذرا مع الأسف. وقطعنا الشارع الرئيسي الذي يتوسط مركز مدينة تتوسد نهر الفرات.
اختفاء آثار الدمار
آثار الحرب شبه مختفية بعد اعادة ترميم المباني التي كانت تعرضت للقصف، فيما القواطع الكونكريتية التي تتوسطها سيطرات الجيش والشرطة تبعث في نفس الداخل – أول مرة – حالة من القلق.
بعد أن قطعنا خمسة كيلو مترات خارج المدينة باتجاه شمالها انعطف موكبنا يسارا باتجاه مضيف الشيخ خميس رئيس قبيلة البوعيسى التي يبلغ تعداد نفوسها في الفلوجة نحو 170 ألف شخص.
عند البوابة الخارجية للمضيف كان الشيخ خميس وأبناء عمومته في استقبالنا بحفاوة بالغة ليصطحبونا الى داخل المبنى الخاص بجلوس الضيوف فيما كان القهوجي الذي يحمل دلة القهوة متهيئا ليقدم للوافدين فناجين القهوة على الطريقة العربية.
تردي الزراعة
على احد جوانب المضيف بدأت الحديث مع بعض الجالسين من أهل الدار وأهل المدينة. سألتهم في البدء عن مصادر رزقهم. أكدوا أن الزراعة مصدرهم الرئيسي، يزرعون اراضيهم الواسعة بالحنطة والشعير والبطاطا.. لكنهم اشتكوا من انقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة فيما يعتمدون الطاقة الكهربائية في تشغيل مضخات السقي الموزعة على نهر الفرات. والمضخات التي تعمل بالكازوئيل هي الأخرى تعاني من شحة الوقود، اذ يتعذر على الفلاحين شراؤه من السوق السوداء بسبب "الأسعار الفاحشة"، بحيث ان ريع المحاصيل قد لا يسد كلفة الكاز. لذا عزف الكثير منهم عن الزراعة.
عن كيفية تدبير امورهم المعاشية في ظل هذا الوضع أجابوا أن قسما من العائلات يعتاشون على رواتب أبنائهم الموظفين في الجيش والشرطة والدوائر الحكومية الأخرى، فيما يكسب البعض الآخر رزقه من الأعمال الحرة في ظل بطالة كبيرة لدى أوساط الشباب.
القاعدة لا تزال متواجدة
سألتهم عن الوضع الأمني فأجابوا "اذا ما قيس بالعامين 2006، و2007 يعتبر جيدا لكن لا يمكن ان نعتبره باعثا على الارتياح لأنه ما زال متأرجحا".
لماذا متأرجح؟
-عناصر تنظيم القاعدة ما زالوا نافذين وتساندهم بعض دول الجوار وعناصر نافذة في أجهزة الأمن والقضاء في الداخل. نتمنى لو يرفع المجاورون للعراق سيوفهم عنا.
بحجة التحرير تجمع الأموال
ما المقصود بالضبط؟
- بصراحة، منذ بداية سقوط النظام السابق توجه رجال دين وعناصر مختلفة من مناطقنا ومناطق تابعة لمحافظاتنا الغربية الى دول الجوار، وطلبوا منهم مساعدات مالية بدعوى التحرير من القوات الاجنبية.. فجاؤوا بأموال هائلة استقطبوا خلالها الشباب العاطل عن العمل وعلموهم على القتل والعبث بالامن، بحيث أصبح الكثير من المساجد مدارس لتخرج الارهابيين.
ملاحقة أبنائنا بدل مكافأتهم
وتابعوا الحديث: المشكلة التي لا يعرفها أحد هي أننا نعتقد بوجود عناصر مندسة في أجهزة الأمن والقضاء تساند هؤلاء الارهابيين. فقد شاهدنا الكثير من المفارقات الغريبة ابرزها ملاحقة أبنائنا الذين كانوا قد خاضوا معارك عنيفة مع الارهابيين وقدموا تضحيات كبيرة في الأرواح والممتلكات، بيد أن مذكرات اعتقال وملاحقة صدرت مؤخرا بحقهم بدل أن يكافأوا.
قبل موعد الغروب
وهمس بأذني أحد أبناء رئيس القبيلة المضيفة قائلا "اذا كنتم تعتزمون المبيت عندنا هذه الليلة فأهلا وسهلا، وان كنتم عازمين على العودة الى بغداد فلا تتأخروا قبل أن يحين موعد الغروب، لأن الدنيا غير مأمونة". أخبرت الدكتور عبود الحاج وحديد بالأمر، فأثنى على حسن الضيافة فيما هم أشادوا بدوره الكبير في عملية المصالحة الوطنية وتجسيره العلاقة بينهم وبين مكتب رئيس الوزراء لتلبية حاجاتهم الملحة وتشكيل مجالس المصالحة. ودعناهم جميعا على خير فيما وعدهم الدكتور عبود بالمزيد من التواصل والاهتمام.
"القاعدة" في الموصل تفرض الأتاوات المالية على السكان
خلال وجودنا في ضيافة أهالي الفلوجة، حدثنا الشيخ علي غالب خضر إدريس البياتي رئيس قبيلة "البيات" في الموصل "شمال"، فأكد أن وضع المحافظة سيئ من الناحية الأمنية، موضحاً أن تنظيم القاعدة في الموصل ما عاد محتاجاً إلى دعم خارجي. لقد اعتمد على أخذ الأتاوات بالقوة والتهديد، حيث يدفع كل صاحب محل أو دكان مبلغاً مالياً محدداً شهرياً إلى عناصر القاعدة. هؤلاء فرضوا على الجميع دفع المبالغ المالية بالإكراه.
قلت له، وماذا تصنع القوات الحكومية هناك ؟
أجاب، بأنها ممسكة بشوارع المدينة، ومداخل أحيائها، لكن لم يكن في مقدورها حماية الأهالي وأصحاب المحال التجارية، من انتقام عناصر القاعدة، فيما لو امتنعوا عن دفع الأتاوات .
الطعام على طاولة مستطيلة "الدليمية" ولحم الخروف
لأننا وصلناهم متأخرين عن موعد الغداء الذي كانوا أعدوه لنا، سارع رئيس قبيلة البوعيسى الشيخ خميس الى مناداتنا بالدخول الى صالة أخرى لصيقة بصالة الجلوس لنتناول الغداء.
صحنان كبيران من البرونز الأبيض ملئا بالرز كطبقة أولى وقطع الخبز كطبقة ثانية بما يوصف بأكلة "الدليمية" فيما وضع على كل صحن خروف تم تقطيع لحمه بعناية مع ابقاء رأس الخروفين والإليتين كاملتين في اشارة واضحة الى نحر الخروفين اكراما للضيف.
وبخلاف الطريقة المتبعة لدى عشائر الفرات الأوسط والجنوب، تناولنا الطعام وقوفا بعد أن وضعوه على طاولة مستطيلة فيما العشائر الوسطى والجنوبية تعمد الى وضع الذبائح كاملة، دونما تقطيع، أمام الضيوف ثم تنقل اليهم ليتناولوها وهم جالسون. فرغنا من تناول طعام الغداء وعدنا الى صالة المضيف البهية والواسعة.
منعم يقتل 14 مهاجماً ويطلق رصاصة على فمه
قال الشيخ طالب ابن شقيق رئيس قبيلة البوعيسى: هل سمعت بمعركة منعم؟
أجبته بالنفي.. فتابع: "أحاطت مجموعة كبيرة من الإرهابيين بالأخ منعم، وكان يحمل معه رشاشه ومسدسه، فاشتبك معهم وقتل 14 عنصرا منهم، ولم يبق معه سوى رصاصة واحدة في مسدسه صوبها في داخل فمه تحاشيا لوقوعه في الأسر بأيديهم.. فقُتل. وقبل أن تفارق روحه الحياة بعث برسالة هاتفية إلى والده وأخبره بأنه قتل نفسه كيلا يقع في الأسر".
https://telegram.me/buratha
