أعادت المقابلة الصحفية الأخيرة مع طارق عزيز، الى الأذهان الدور الكبير الذي كان يلعبه المتهم في دعم النظام الدكتاتوري المباد بوصفه «صانع اعذار صدام»، وكيف تمكن من الافلات من حبل المشنقة. المفاجأة في تصريحات عزيز التي ادلى بها لصحيفة الغارديان، تتجسد في أن يكون الشخص الذي يحث الرئيس اوباما، من داخل زنزانته في بغداد، على عدم مواصلة الانسحاب كما مخطط له، هو أبرز الشخصيات التي عرفت سابقا خارج العراق في سنوات حكم الطاغية، بعد صدام نفسه. وقد تمكن عزيز هذا من أن يرسم لنفسه شخصية متنافرة كونه المدافع الرئيس وصانع الأعذار لواحد من أكثر انظمة التاريخ الحديث اجراما. وفي مقابلة جرت في بغداد قبل أسابيع من دخول الدبابات الاميركية، ذهل عزيز عندما اخبر ان وزارة الخارجية الاميركية قد وضعته في قائمة مؤقتة لأعضاء النظام الذين ارتكبوا جرائم ضد البشرية، ويومها قال: «من؟ أنا! لماذا انا ؟ لم ارتكب اي خطأ». وظهر نفس الاحساس بالبراءة، الى حد ما، عندما سلّم عزيز نفسه الى الاميركيين بعد ثلاثة اسابيع من سقوط النظام. ربما بسبب احساسه بأن حريته قد لا تكون بعيدة، فقد اعتمد طارق عزيز على مهاراته الدبلوماسية في مقابلة الغارديان للثناء على سجانيه العراقيين الحاليين عندما قال: «المعاملة من جانب هؤلاء الرجال ممتازة، ولا أقول هذا الان فقط. المكان نظيف، الطعام جيد، وهناك حديقة صغيرة مجاورة حيث نمارس التمارين.» وامتد رضاه حتى الى امتياز عرضي بشأن صدام. عندما حثه أحد سجانيه على المقارنة بين ظروف سجنه مع تلك الظروف التي عاشها السجناء في عهد النظام السابق، فأجاب: «نعم، لقد ارتكبت بعض الاخطاء حينذاك.» وعلى مدى اكثر من عشرين عاماً، وفي كل فصل جديد من تاريخ صدام المفعم بالعدوان والخديعة، كنت تجد طارق عزيز وزيراً للخارجية تارة، ومن ثم نائباً لرئيس الوزراء تارة أخرى، منفذا دوره «ككبير صانعي الأعذار» في العراق للحرب مع ايران، ثم لغزو الكويت، ومن بعدها لسنوات الحصار والتهرب من مفتشي الاسلحة التابعين للأمم المتحدة. الان ها هو عزيز يقوم بشقلبة بهلوانية جديدة. وقد عرض حبكته المألوفة من التبريرات وعقلنة الخطايا التي ارتكبها صدام. يقول: «ألم يرتكب تشرشل أخطاء؟» ولكنه في سبيل النجاة بنفسه من اللوم يعود فيقول: «جميع القرارات كان يتخذها صدام حسين بنفسه، أما أنا فقد كنت أشغل موقعا سياسيا. لم اشترك في اي من الجرائم التي نسبت إلي شخصيا.» لكن أبرز ما قاله في المقابلة الصحفية جاء في ملاحظاته عن العد التنازلي لانسحاب اخر الجنود الاميركيين. فمن داخل سجن الكاظمية، وهو موقع الاستخبارات العسكرية للنظام السابق وحيث أعدم صدام، أدان عزيز بريطانيا واميركا بسبب الغزو في عام 2003 وأدان اميركا مجددا على تخطيطها للانسحاب الان. وأضاف في دعمه لاستمرار الاحتلال: «لا يمكن أن يتركنا على هذه الحال. فعندما ترتكب خطأ، وجب عليك تصحيحه، لا أن تترك العراق لحتفه المحتوم.» لم تكن هنالك شحة في الشخصيات الخيالية والكابوسية ضمن الدائرة المقربة من صدام، اولئك الخانعين لنزواته الدموية والمتشبثين بتبرير كل حركة يقوم بها وتمجيدها، بما في ذلك تلك التي أنزلت الخراب به وبهم معه. تلك حكاية تثبت ان الحقيقة يمكن ان تكون أغرب من الخيال. ما قام به هؤلاء لخدمة صدام، أدى في نهاية المطاف الى جر الاميركيين في حربين كلفت اميركا حياة نحو خمسة الاف جندي والجزء الأكبر من ترليون دولار. خمسة رجال في تلك الحلقة الضيقة، من بينهم صدام نفسه، ساروا إلى المشنقة في اعقاب الغزو الاميركي، بعد محاكمات أثبتت ارتكابهم جرائم ضد الانسانية، كانت منها جريمة الابادة الجماعية.غير أن عزيز، الدبلوماسي البهلوان والمشعوذ، أفلت من حبل المشنقة، وهو يقضي عقوبة أمدها 15 سنة بسبب دوره في اعدام 42 تاجرا بغداديا بتهمة احتكار امدادات الغذاء الشحيحة بعد حرب الخليج 1991. وهو يواجه عددا من التهم الأخرى. وهو من الناحية النظرية قد يواجه الاعدام، ما لم تؤد التقلبات بين القوى السياسية الحالية في بغداد الى اتفاق من نوع ما على اطلاق سراحه. عزيز، 74 سنة، كان دائما واحدا من اكثر الاعضاء لفتاً للأنظار في سلطة صدام. ليس لقدرته في التكلم باللغة الانجليزية فقط، ولكن ايضا في استحضار التبريرات لكل شيء يقدم عليه رئيسه. كذلك كان حالة غير طبيعية بسبب كونه مسيحياً كلدانياً من مدينة الموصل، أي أنه فرد من اقلية مضطهدة عانت بشدة في ظل برامج صدام العديدة. مواجهات عزيز مع الغرب عادت على صدام بعدة اصدقاء لهم نفوذهم في العالم، مثل الفاتيكان. وأحب ان يزخرف مكتبه في بغداد بصوره وهو يغري، دبلوماسيا، بعضا من اقوى الشخصيات العالمية. وفي الفترة الاخيرة من حكم صدام، بدا على عزيز انه مقتنع ببراءته من كل مأخذ أو لوم، بغض النظر عن الادلة التي تشير الى كونه الصوت العالمي لواحد من اكثر الانظمة دموية.كان محتجزا في سجن كروبر، وهو مركز اعتقال اميركي للأفراد المهمين ضمن معسكر النصر، وهو مقر الجيش الاميركي بجانب مطار بغداد الدولي. في تلك اللحظة، بدأ يتلاشى في الوقت الذي اتجه صدام وأذنابه القتلة الى حتفهم في سلسلة من المحاكمات ـ طه ياسين رمضان نائب الرئيس السابق، وعواد حميد البندر الرئيس السابق لمحكمة الثورة، وبرزان ابراهيم التكريتي الرئيس السابق للمخابرات، والشخص الأكثر دموية من بينهم علي حسن المجيد، الملقب بالكيمياوي، المسؤول بعد صدام عن استعمال الاسلحة الكيمياوية ضد الكرد في اواخر الثمانينات.في مطلع العام الحالي نقل عزيز الى سجن عراقي كجزء من عملية الانسحاب العسكري الاميركي، ونقل مع معتقلين سابقين لدى الاميركيين الى سجن الكاظمية. ظهر ذلك وكأنه انعكاس لحكم اميركي بأن عزيز لم يعد سجينا «مهما»، مع بقاء عدة مسؤولين كبار من نظام صدام معزولين مع نحو 200 معتقل اخرين في جزء من معسكر كروبر الذي بقي تحت السيطرة الاميركية. عن صحيفة نيويورك تايمز
https://telegram.me/buratha

