سوريا - لبنان - فلسطين

أحداثُ مخيم عين الحلوة تبكي العيون وتدمي القلوب


 

 د. مصطفى يوسف اللداوي ||

 

تناقضٌ عجيبٌ في المشهد الفلسطيني، وصورةٌ غريبةٌ غير مفهومة ولا مبررة، بل مدانة ومستنكرة، ومؤلمةٌ ومحزنة، ومخزيةٌ ومخجلةٌ، فبينما يرسم أهلنا الصابرون المرابطون، القابضون على الجمر، والمكتوون بنار العدو، والثابتون في الوطن، والمتجذرون في الأرض، والمتمسكون بالحقوق، المقاومون بالسكين والحجر، وبالسلاح الذي يشترونه بقوت أطفالهم، ويسعون للحصول عليه بأغلى ما يملكون وأنفس ما يدخرون، ليقاتلوا به العدو ويواجهوه، ويصدوه ويردوه، فيقتلون ويقتلون، ويؤلمون ويتألمون، وينالون منه ويستشهدون، ومعهم الأسرى والمعتقلون، الذين يعانون من قيد السجن وإذلال السجان، لكنهم يقاومون بصمودهم وثباتهم، ويقاتلون بمعداتهم وأمعائهم، ويجبرون العدو على الخضوع لهم والقبول بشروطهم.

أولئك ومعهم كثيرٌ من أبناء الشعب الفلسطيني في مخيمات اللجوء والشتات، يرسمون أجمل صورةٍ لشعبٍ مقاومٍ مقاتلٍ، صابرٍ معانٍ، معطاءٍ مضحٍ، ثابتٍ عنيدٍ، جريءٍ شجاعٍ، مغامرٍ مقدامٍ، لا يأبه العدو ولا يخافه، ولا يجبن عن قتاله والوقوف في وجهه، يتحدى جحافله ويرد قوافله، ويصد دورياته ويفشل مجموعاته، ويرفع الصوت عالياً في وجهه، ويسجل على الأرض بمقاومة أبنائه أعظم الملاحم البطولية، التي يتأسى بها المقاومون ويقتدون، ويقلدونها ويضيفون، ويقدمون على مثلها ولا يهابون، فيخشاهم العدو ويقلق، ويشكو منهم ويتألم، ويحاول القضاء عليهم ويفشل، ويدعي الانتصار عليهم ويكذب.

تلك الصورة الجميلة واللوحة القشيبة التي يرسمها أهلنا يدمائهم، ويؤطرونها بأرواحهم، ويزرعونها في الأرض بأجسادهم، فيفرح بها الفلسطينيون ويفتخرون، ويباهون بها ويستعلون، ويتيه بها العرب والمسلمون، المحبون والمؤيدون، والمناصرون الدوليون والمتضامنون الأمميون، ويرون أنفسهم فيهم ويتمنون تقليدهم أو أن يكونوا معهم، يشاركونهم المقاومة، ويقاسمونهم النصر، ويساهمون معهم في إرغام العدو وإذلاله، فقد جَمَّلَ الفلسطينيون صورتهم، وأحسنوا عرض قضيتهم، وأعادوا الألق والبريق للعرب كأمةٍ عظيمةٍ، ذات تاريخٍ ومجدٍ، وعزةٍ وكرامةٍ، تجاهد لتصل ماضيها التليد بمستقبلها الواعد.

هذه الصورة التي نتغنى بها وغيرنا، ونضحي في سبيلها ولا نتردد، ونفاخر بها ولا نحجل، ونُريَ الله عز وجل بها أنفسنا ونرجو نصره، تشوهها صورةٌ مظلمةٌ معتمةٌ، سوداء قاتمة، بشعة كريهةٌ، منفرة مقززة، تسيء إلى قضيتنا الناصعة، وتشوه صورتنا المشرقة، وتعبث بتاريخنا الوضيئ، وتفض الأمة من حولنا وتنفر المحبين لنا، إذ ليس لها ما يبررها أو يجيزها، فلا الوقت وقتها ولا التحرير غايتها ولا العودة مقصدها، بل هي طعنةٌ في ظهر الشعب، وخيانةٌ للمقاومة، وتفريطٌ بالتضحيات، وإساءة بالغة إلى القضية الوطنية العادلة، وهي تفرح العدو وتسره، وتحقق أمانيه وتستجيب إلى رغباته، وتخدم مصالحه وتصب في أهدافه.

عنيت بذلك المعارك الضارية والأحداث الأليمة التي يشهدها مخيم عين الحلوة، درةُ المخيمات الفلسطينية، وشامةُ اللجوء الفلسطيني، وعاصمة الشتات الوطني، وظهر المخيمات الفلسطينية في لبنان وسندها، وعنوان وجودها ورافع لواء عودتها، المخيم الذي طالما تمنى شارون زواله، وعمل على شطبه واستئصاله، وقد غاظته بندقيته، وأقلقته وحدته، وخشي من عقيدة العودة المتجدرة في أجياله، فتآمر عليه وكاد لأهله، لكنه صمد في وجهه، وتحدى غيه، وصد عدوانه، حتى غدا مفخرةً للفلسطينيين ومزاراً لهم، فهو يربض كالأسد على حدود الوطن، ويرنو أبناؤه بعيون اليقين والأمل للعودة والتحرير.

اليوم مخيم عين الحلوة حزينٌ مكلومٌ، مجروحٌ يتأوه، يئن ويشكو، ويتألم ويتوجع، فأبناؤه يخربونه ويدمرونه، ويقصفون أحياءه ويحرقون مرافقه، ويغيرون معالمه ويطيحون بمنازله، ويشعلون النار في سيارات اللاجئين وممتلكاتهم، ويخنقون فيه ذكرياتهم وآمالهم، ويقضون على آخر ما بقي لهم فيه من أحلام العودة وأماني التحرير، إذ أجبروهم على الخروج منه عنوةً ومغادرته كرهاً، فخروجوا وهم لا يلوون على شيءٍ وقد حملوا معهم بقايا متاعٍ قد ينفعهم، وآخر ما بقي في بيوتهم من أوراق ومستندات، وأموال قليلة كانوا بشق الأنفس قد جمعوها وبشقاء مغتربيهم قد ادخروها، ليكفوا بها حاجتهم، ويستروا بها عورتهم، ويعيشوا كراماً في مخيمهم.

لا نملك ما نفسر به ونشرح، وليس في جعبتنا ما يكفي وينفع، لأن نقنع أهلنا في الوطن وشعبنا في الشتات واللجوء، ولا أمتنا العربية والإسلامية التي ما زالت تؤمن بقضيتنا وتدعمنا، وتضحي في سبيلنا وتدافع عنا، فماذا نقول لهم ولغيرهم عن بيوتنا المحروقة، ومنازلنا المدمرة، وشوارعنا الخالية، وألسنة النار التي تتصاعد من جوانب المخيم وأزقاته، وكيف نشرح لهم عن طوابير اللاجئين الهاربين من نيران أبنائهم وحروب إخوانهم، وقد بنت لهم اللجنة الدولية للصليب الأحمر خياماً جديدة تشبه تلك التي آووا إليها ولجأوا فيها قبل أكثر من سبعين سنة.

ماذا نقول للشعب اللبناني الشقيق الذي آوانا وأكرمنا، وأحسن إلينا واستضافنا، ونصر قضيتنا وضحى في سبيلها معنا، ولأهل صيدا الأبية التي تحتضن الفلسطينيين وتعدهم جزءً منها، تشاركهم وتعمل معهم، وتصاهرهم وتتزوج منهم، بينما نحن نرعبهم ونخيفهم، وبعض قذائفنا تصل إليهم وتصيبهم، وتلحق الضرر بهم وتؤذيهم، فتشمت الكارهين بهم، وتلومهم على حسن صنيعهم وكرم ضيافتهم، وتحرضهم على الانقلاب والتغيير، والانفصال عنهم وعدم التعاطف معهم، فهذه فرصة الشامتين للصيد في المياه العكرة، والاستفادة من المحنة والأزمة، وتعميق الفتنة والتأسيس للقطيعة.

 

أيها الفلسطينيون الحكماء، المخلصون الأوفياء، الصادقون الأمناء، المضحون العقلاء، فليكن صوتكم عالياً وقراركم حاسماً وموقفكم فاصلاً، فمخيم عين الحلوة غالٍ علينا وعزيز، له دوره وعنده وظيفته، فلا ينبغي أن يكون فيه سلاحٌ عابثٌ، ولا مجموعاتٌ طائشة، ولا غرباء يفسدون، ولا خلافات حزبية تضر بحياة اللاجئين، ولا نزاعات مسلحة بين الفرقاء أياً كانت الأسباب، وليحتكم الجميع إلى الحق والعدل، والمصلحة الوطنية والمنفعة الشعبية والأمن العام والسلاح الرشيد والقرار الحكيم، وإلا فإننا سنهلك وقضيتنا، وسنخسر وشعبنا، وسيكون المتقاتلون في هذا المخيم هم السبب، وسيحاسبهم التاريخ وسيلعنهم الشعب، فلنوحد صفنا، ولنضمن أمننا، ولننظم خلافاتنا، ولنحسن إلى أهلنا، وإلا فسنندم، وستأتي ساعةٌ نقول فيها "ولات حين مندمٍ". 

 

بيروت في 10/9/2023

moustafa.leddawi@gmail.com

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك