«تزول الجبال و لا تزل، أعر الله جمجمتك، تد في الأرض قدمك»
نهج البلاغة – باب الخطب – 12
محمد جواد الدمستاني
في نهج البلاغة مجموعة من تعاليم القتال، و منها ما روي في كلام أمير المؤمنين عليه السلام حينما أعطى الرأية لابنه محمد بن علي المعروف بابن الحنفية في حرب الجمل، هي مجموعة أوامر و إرشادات من الوالد إلى ولده، و من صاحب الخبرة الطويلة و التجربة الحكيمة إلى جندي و قائد شاب، و قد ذكر عدة تعاليم قتالية مهمة جسدية و أخرى معنوية مؤثرة في القتال في ساحة المعركة و ميدان الحرب.
وهي إرشادات عامة و إن كان الخطاب موجّه إلى ابنه محمد ابتداء، و لكنها لا تخصه بل هي للجند و العسكر.
و بالتقسيم فهي تتكون من مقدمة رئيسية في الثبات.
و تعاليم جزئية في الصمود و القتال
و أصل و نتيجة في الاعتماد و الاتكال على الله و النصر من عنده.
قال عليه السلام:
«تَزُولُ الْجِبَالُ وَ لَا تَزُلْ، عَضَّ عَلَى نَاجِذِكَ، أَعِرِ اللَّهَ جُمْجُمَتَكَ، تِدْ فِي الْأَرْضِ قَدَمَكَ، ارْمِ بِبَصَرِكَ أَقْصَى الْقَوْمِ، وَ غُضَّ بَصَرَكَ، وَ اعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ». نهج البلاغة، خطبة 11
و محمد بن علي ابن أبي طالب، يسمى محمد ابن الحنفية و حنفية لقب والدته و اسمها خولة بنت جعفر بن قيس الحنفية، و كان عمره 19-20 سنة تقريبا في حرب الجمل.
و شهد و قاتل مع أمير المؤمنين عليه السلام -كما في الأمالي للشيخ الطوسي، ص٧٢٦ و مصادر أخرى- يوم الجمل ثمانون من أهل بدر، و ألف و خمسمائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله. الأمالي، و قد أعطى أمير المؤمنين عليه السلام الرأية لابنه محمد و هو شاب.
و لما تردد محمد عن الحملة و الهجوم جاءه أمير المؤمنين (ع) و تكلم معه و أخذ الراية و حمل عليه السلام بالراية فضعضع أركان عسكر الجمل، ثم دفعها إليه فحمل و أبلى بلاء حسنا. و هذه بعض الروايات من كتاب الجمل للشيخ المفيد:
قال محمد بن علي (ابن الحنفية): «قال لي أبي حين رأى القوم قد زحفوا نحونا قدم اللواء فقدمته و زحف المهاجرون و الأنصار فلما رأى القوم قد زحفت باللواء بارزا عن أصحابي رشقوني رشقة رجل واحد فوقفت مكاني و أيقنت منهم و قلت ينقضي رشقهم في مرة أو مرتين ثم أتقدم فلم أشعر إلا و أمير المؤمنين ( ع ) قد ضرب بين كتفي بيده ثم أخذ اللواء مني بيده ونادى (يا منصور أمت) فوالله ما سمعت القوم حتى رأيتهم قد زلزلت أقدامهم وارتعدت فرائصهم،..». الجمل، الشيخ المفيد، ص ١٨٣
و قال المفيد:
قال محمد بن علي ( ع ) فالتقينا و قد عجل أصحاب الجمل و زحفوا علينا فصاح أبي امض فمضيت بين يديه أخطوا بالراية خطوا سرعان أن يلحقوا أصحابنا فلاذ أصحاب الجمل و نشب القتال واختلفت السيوف و أبي خلفي يقول تقدم فقلت ما أجد متقدما إلا على الأسنة فغضب (ع) و قال أقول لك تقدم تقول على الأسنة، ثق بالله يا بني وتقدم بين يدي على الأسنة.
و تناول الراية مني و تقدم يهرول بها فأخذتني حدة فلحقته و قلت أعطني الراية، فقال لي خذها و قد عرفت ما وصف لي. الجمل، الشيخ المفيد، ص ١٩١
و قال المفيد:
وروى الواقدي قال ابن جريح كان محمد بن الحنفية يحمل راية أمير المؤمنين أبيه يوم الجمل و رأى منه بعض النكوص فأخذ الراية منه، قال محمد فأدركته و عالجته على أن يردها فأبى علي طويلا ثم ردها، و قال خذها و أحسن حملها و توسط أصحابك و لا تخفض عاليها و اجعلها مستشرفة يراها أصحابك ففعلت ما قال لي.
فقال عمار يا أبا القاسم ما أحسن ما حملت الراية اليوم فقال له أمير المؤمنين عليه السلام بعد ماذا؟ فقال عمار ما العلم إلا بالتعلم. الجمل، الشيخ المفيد، ص ١٩٢.
و قال المفيد في الجمل:
قال أمير المؤمنين لابنه محمد:
خذ الراية و امض و علي (ع) خلفه فناداه يا أبا القاسم فقال لبيك يا أبة فقال يا بني لا يستفزنك ما ترى قد حملت الراية و أنا أصغر منك فما استفزني عدوي و ذلك إني لم أبارز أحدا إلا حدثتني نفسي بقتله فحدث نفسك بعون الله تعافى بظهورك عليهم و لا يخذلك ضعف النفس من اليقين فإن ذلك أشد الخذلان.
قال قلت يا أبة أرجو أن أكون كما تحب إن شاء الله.
قال فالزم رأيتك فإن اختلفت الصفوف قف في مكانك وبين أصحابك فإن لم تبين من أصحابك فاعلم أنهم سيرونك قال والله إني لفي وسط أصحابي فصاروا كلهم خلفي وما بيني وبين القوم أحد يردهم عني وأنا أريد أن أتقدم في وجوه القوم فما شعرت إلا بأبي خلفي قد جرد سيفه وهو يقول لا تقدم حتى أكون أمامك فتقدم بين يدي يهرول ومعه طائفة من أصحابه فضرب الذين في وجهه حتى أنهضوهم و لحقتهم بالراية فوقفوا وقفة و اختلط الناس و ركدت السيوف ساعة فنظرت إلى أبي يفرج الناس يمينا وشمالا و يسوقهم أمامه فأردت أن أجول فكرهت خلافه و وصيته لي لا تفارق الراية حتى انتهى إلى الجمل و حوله أربعة آلاف مقاتل..». الجمل، الشيخ المفيد، ص ١٩٦
و حول حمل محمد للرأية ذكر في البحار: «وَ قَالَ قَوْمٌ مِنَ اَلْخَوَارِجِ لِمُحَمَّدِ اِبْنِ اَلْحَنَفِيَّةِ لِمَ غَرَّرَ بِكَ [أبوك] فِي اَلْحُرُوبِ وَ لَمْ يُغَرِّرْ بِالْحَسَنِ وَ اَلْحُسَيْنِ، قَالَ لِأَنَّهُمَا عَيْنَاهُ وَ أَنَا يَمِينُهُ فَهُوَ يَدْفَعُ بِيَمِينِهِ عَنْ عَيْنَيْهِ». بحار الأنوار،ج45ص348.
و من كلام لأمير المؤمنين عليه السلام في بعض أيام صفين و قد رأى الحسن ابنه (عليه السلام) يتسرع إلى الحرب: «امْلِكُوا عَنِّي هَذَا الْغُلَامَ لَا يَهُدَّنِي، فَإِنَّنِي أَنْفَسُ بِهَذَيْنِ -يَعْنِي الْحَسَنَ وَ الْحُسَيْنَ (عليهما السلام)- عَلَى الْمَوْتِ لِئَلَّا يَنْقَطِعَ بِهِمَا نَسْلُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله)» . نهج البلاغة، خطبة 207
قال عليه السلام:
«تَزُولُ الْجِبَالُ وَ لَا تَزُلْ» أمره بالثبات و الصمود و الرسوخ و الصبر في الحرب و أمام الأعداء بحيث إذا زالت و تحركت الجبال فلا تزل و لا تتحرك، و لا تتزحزح، و هو نهي على تقدير أمر محال فإنّ الجبال لا تزول. و المعنى اثبت و اصمد و استقر.
و جاء وصف الثبات في كلام لأمير المؤمنين (ع) وقعة النهروان فيه ذكر فضائله (ع)، قال «فَقُمْتُ بِالْأَمْرِ حِينَ فَشِلُوا .. كَالْجَبَلِ لَا تُحَرِّكُهُ الْقَوَاصِفُ، وَ لَا تُزِيلُهُ الْعَوَاصِفُ».نهج البلاغة،خطبة37
و كان من وصف الخضر عليه السلام لأمير المؤمنين (ع) في وفاته «كُنْتَ كَالْجَبَلِ اَلرَّاسِخِ، لاَ تُحَرِّكُكَ اَلْعَوَاصِفُ وَ لاَ تُزِيلُكَ اَلْقَوَاصِفُ». المناقب،ج2ص347
و هذا أي الثبات و الصبر شرط رئيسي في النصر على الأعداء، و قد كرر أمير المؤمنين (ع) أهمية الصبر في خطبه.
« عَضَّ عَلَى نَاجِذِكَ»، النواجذ أقصى الأضراس، وإذا عض أو ضغط الانسان على أسنانه اشتدت أعصاب رأسه فكان أكثر عزيمة وحمية و حماس، فيزيل الخوف و الاضطراب إن وُجد، و ربما يزيد ذلك في إقدامه و إندفاعه. و قيل أنّ العض على النواجذ تجعل عظام الرأس تشتد و تصلب فينبو السيف عن دماغه.
و جاءت هذه التوصية في تعاليم قتالية ذكرها أمير المؤمنين (ع) في ليلة الهرير في حرب صفين، إذ قال لأصحابه «مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ اسْتَشْعِرُوا الْخَشْيَةَ وَ تَجَلْبَبُوا السَّكِينَةَ وَ عَضُّوا عَلَى النَّوَاجِذِ فَإِنَّهُ أَنْبَى لِلسُّيُوفِ عَنِ الْهَامِ»، نهج البلاغة، خطبة 66.
«أَعِرِ اللَّهَ جُمْجُمَتَكَ»، أي ابذل بنحو العارية لله جُمْجُمَتَكَ أي رأسك فإنه سبحانه و تعالى يعوض ذلك، و معنى هذا ان تعزم على التضحية و الشهادة، و تردّ عليك إما في الدنيا بالنصر أو في الآخرة في ثواب و أجر الشهادة، قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ».التوبة:111، و قد ذُكر أنّ لفظ أعر من العارية و هي إشارة إلى أنّه ابنه لن يستشهد في المعركة.
«تِدْ فِي الْأَرْضِ قَدَمَكَ»، أي أثبت في الأرض كالوتد، تَوَطَّد في الأرض، استحكام و ثبات لا تزحزح أو تقلقل أو اهتزاز فيه، و ستأتيك سيوف و رماح و أسلحة و جنود، قاتل بثبات و لا تتراجع، و دون انسحاب أو فرار من ميدان الحرب.
و هي من الأوامر الإلهية في سورة الأنفال «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» الأنفال:45. الثبات و ذكر الله تعالى عند لقاء العدوّ.
«ارْمِ بِبَصَرِكَ أَقْصَى الْقَوْمِ»، أي انظر إلى آخر الجيش، آخر معسكر الأعداء، لا تقتصر على نظرة صغيرة فقط من حولك، و إنما اجعل نظرتك شاملة إلى الجيش و المعسكر و الجبهة كاملا بنظر و نظرة شاملة، و كلما كان الجندي في الحرب أو الإنسان عامة في الحياة ينظر بنظرة شاملة كان أقدر على التشخيص و التقدير و العمل و التخطيط.
و يمكن أن يُقهم من المعنى أيضا أن عظّم طموحك و غايتك و اجعل هدفك عاليا.
«وَ غُضَّ بَصَرَكَ»، لا يرهبك سلاحهم و أسلحتهم من سيوف و رماح أو آلات حربية، و لا عددهم و عدّتهم فتؤثر عليك نفسيا و ترهبك، و كل ما يؤثر نفسيا على المقاتل سلبا ينبغي تداركه و العمل لإفشاله من تأثيره.
«وَ اعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ»، و تيقّن أنّ النصر و الغلبة و الفتح من عند الله، فالاعتماد على الله لا على شجاعتك و قدرتك، و ما يعمله المحارب أو المقاتل إنما هو مقدمات و أسباب ظاهرية، و كلما علم الإنسان بيقين أن النصر من الله ارتبط بالله أكثر و كبر نشاطه و همته.
و المقاتل مأمور بتهيأة المقدمات اللازمة للنصر بأقصى استطاعته، « وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ» سورة الأنفال:60، و المطلوب هو القتال مع الصدق و الصبر، و أما النصر فهو من الله «وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ».آل عمران:126.
فإذا علم المقاتل المؤمن ذلك و اعتمد على الله و اتكل عليه فإنّ كل الصعاب و المشقات التي توجهه سوف تهون، و سيترقى من الناحية المعنوية و الروحية مما يساعده في القتال و تحقيق النصر.
ربّنا أفرغ علينا صبرا، وثبّت أقدامنا، و انصرنا نصرا عزيزا، و افتح لنا فتحا مبينا، و عجّل فرج مولانا صاحب العصر و الزمان، و اجعلنا من أنصاره و أعوانه و المستشهدين بين يديه، و الحمد لله ربّ العالمين، وصلّ اللهم على محمد و آله الطاهرين.
مصادر: القرآن الكريم، كتب الحديث، نهج البلاغة، شروح نهج البلاغة، موسوعات، قواميس.
https://telegram.me/buratha