الدكتور فاضل حسن شريف
قال الله تعالى "وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ" (الاعراف 198)، هنالك اختلاف بين البصر والبصيرة فالبصر يعمل على المادة بينما البصيرة تعمل على النفس والروح. قال الله تعالى "إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَىٰ" (النازعات 26) علاقة الخشية من الله جل جلاله والبصيرة علاقة طردية، والخشية تأتي من أخذ العبر. ورين القلب علاقتها مع البصيرة عكسية حتى يصبح القلب اعمى البصيرة "وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى" (فصلت 44). قال الله عز من قائل "وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ" ﴿البقرة 50﴾ النظر: تقليب البصر والبصيرة لادراك الشيء ورؤيته. والقرآن كتاب موعظة ونصيحة "ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ" (البقرة 232). والذي على قلبه رين يصبح اعمى البصيرة "وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى" (فصلت 44).
الامة المؤمنة ذات البصيرة التي لها معرفة حقة بكتاب الله تعالى وسنة رسوله وأهل بيته هي المطلوب منها ان تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون" (ال عمران 104). وكان الكاظم عليه السلام فقيه يشار له في العلوم الدينية وهو القائل (تفقّهوا في دين الله، فإنّ الفقه مفتاح البصيرة). قال ابن حجر في كتابه الصواعق المحرقة متحدثاً عن شخصية الإمام الباقرعليه السلام: (أبو جعفر الباقر سُمِّي بذلك من بقر الأرض أي شقها وأثار مُخبَّأتها ومكامنها فلذلك هو أظهر من مُخبآت كنوز المعارف وحقائق الأحكام والحكم واللطائف ما لا يخفى إلا على منطمس البصيرة أو فاسد الطوية والسريرة). وعن حداثة سن الامام الجواد عليه السلام في الامامة فقد أوضح لسائله استنادا إلى الآية الشريفة في سورة يوسف "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي" (يوسف 108) وقد تبع علي رسول الله وكان ابن تسع سنين، وأنا ابن تسع سنين. فكما في النبوة تحصل الحالة في الإمامة فقال تعالى "يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا" (مريم 12) وقد يكون شابا "وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا" (يوسف 22) وقد يكون في الأربعين من عمره " حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً" (الأحقاف 15).
زيارة العباس عليه السلام عن الامام الصادق عليه السلام (وانك مضيت على بصيرة من امرك مقتديا بالصالحين، متبعا للنبيين). واصحاب الحسين عليه السلام قلوبهم مفتحة "لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ" (الانعام 103). والامام المعصوم صاحب البصيرة لا يجب نصحه وانما التسليم لامره (اشهد لك بالتسليم والنصيحة والوفاء). والعباس عليه السلام اعلم اهل زمانه بعد الحسين عليه السلام. المقام الثاني هو القطع واليقين كما قال والله لو قطعت يميني اني ادافع ابدا عن ديني. والمقام الثالث هو مقام الثناء لله (يا نفس بعد الحسين هوني). ولم يبقى في المخيم يوم الطف الا العباس عليه السلام ليطلب منه الحسين عليه السلام ان يجلب الماء من المشرعة لسقي العطاشى ولكنه استشهد. وبسبب ان العباس عليه السلام عنده بصيرة يستطيع تمييز بين حق الحسين عليه السلام وباطل يزيد، فان ابو فاضل العباس جابه جيش كامل فكان سلام الله عليه جيشا بكامله كيف لا وهو صاحب لواء الحسين عليه السلام. قال امير المؤمنين عليه السلام عن علاقة العين بالبصر والعقل بالبصيرة (الرُّؤْيَةُ كَالْمُعَايَنَةِ مَعَ الْإِبْصَار، فقد تكذب العيون أهلها، ولا يغش العقل من استنصحه) ولكون الفقه له علاقة بالبصيرة كما قال الامام الرضا عليه السلام ان التفقه مفتاح البصيرة، فكان العباس بن علي عليه السلام فقيها يؤخذ منه العلم مسلما تسليما مطلقا لله سبحانه حيث قال الله عز وجل "ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" (النساء 65)، وجاء في الزيارة (اشهد لك بالتسليم والنصيحة والوفاء) فهو عليه السلام مصدر النصائح والوفاء. وهو المدافع عن دينه بلسانه ويده القائل (والله لو قطعت يميني اني ادافع ابدا عن ديني).
القلب الغافل هو المختوم عليه بعد أن تراكمت عليه الذنوب فاصبح أعمى البصيرة، فاغفلة لها علاقة ببصيرة القلب كما قال الله تعالى: "وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا" (الكهف 28) وكما جاء في الحديث النبوي الشريف: (لينتهينَّ أقوامٌ عن ودعِهم الجُمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكوننَّ من الغافلين). ورد ان ابا جهل كان فاقد البصيرة حيث قال الله تعالى "فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور" (الحج 46) لانه كان يدعي على الله تعالى دعوات باطلة "وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ" (الانفال 32).
جاء في مجمع البيان في تفسير القرآن للشيخ الطبرسي: قوله تعالى "أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ" (يوسف 108) أي: أدعو إلى توحيد الله، وعدله، ودينه، على يقين، ومعرفة، وحجة قاطعة، لا على وجه التقليد "أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي" أي: أدعوكم أنا، ويدعوكم أيضا إليه من آمن بي ويذكر بالقرآن والموعظة، وينهى عن معاصي الله. قال ابن الأنباري: ويجوز أن يتم الكلام عند قوله (أدعو إلى الله) ثم ابتدأ وقال: "عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي" (يوسف 108) وهذا معنى قول ابن عباس إنه يعني أصحاب محمد، كانوا على أحسن طريقة "وَسُبْحَانَ اللَّهِ" (يوسف 108) معناه: تنزيها لله عما أشركوا، وتقديره قل هذه سبيلي، وقل سبحان الله. وقيل: إنه اعتراض بين الكلامين، والواو فيه مثل قولك قال الله، وهو منزه عن الشركاء، سبحان الله "وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (يوسف 108) الذين اتخذوا مع الله ندا وكفوا وولدا. وفي هذه الآية دلالة على فضل الدعاء إلى الله سبحانه، وإلى توحيده وعدله، ويعضد ذلك الحديث عنه صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: العلماء أمناء الرسل على عباده. وفيها دلالة أيضا على أنه عليه السلام كان يدعو إلى الله في كل أوقاته، وإن كان يبين الشرائع في أوقات ما. وفيها دلالة أيضا على أن الواجب في السعي أن يكون على ثقة وبصيرة ودلالة قاطعة، وذلك يوجب فساد التقليد "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ" (يوسف 109) بين سبحانه أنه إنما أرسل الرسل من أهل الأمصار، لأنهم أرجح عقلا وعلما من أهل البوادي، لبعد أهل البوادي عن العلم وأهله، عن قتادة.
https://telegram.me/buratha
