الصفحة الإسلامية

مفهوم العصمة في القرآن الكريم عند الشيخ جلال الدين الصغير من كتابه عصمة المعصوم (ح 16)


الدكتور فاضل حسن شريف

جاء في كتاب عصمة المعصوم عليه السلام وفق المعطيات القرآنية لمؤلفه الشيخ جلال الدين الصغير عن الإرادة التكوينية: أما الإرادة التكوينية فيه تختلف عن التشريعية بكون الفاعل فيها هو المريد ، ولا دخل لارادة المراد فيها ، وهي لهذا لا تتخلف إن استطاع المريد أن يحقق مواصفات القدرة والقابل لما يريد ، وهي من سنخ قوله تعالى: "إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" (يس 82) وقوله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ" (الحج 14) حيث لا يمكن تصور تخلّف ما يريده الله سبحانه وتعالى، وهي أيضاً من سنخ قوله عزَّ وجلَّ: "يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا" (المائدة 37) فهي من سنخ الارادة التكوينية، ولكن بلحاظ عدم توفر عنصر القدرة والمكنة في المريد تخلّف تحقيق المراد ولم يتمكن من تحقيق إرادته، ومثل قوله تعالى: "إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ" (المائدة 91) فهي وإن كانت من سنخ الارادة التكوينية ، ولكن يمكن أن لا يتحقق مراد المريد إن كان القابل الإنساني لا يستجيب لمراد الشيطان.

ويستطرد الشيخ الصغير قائلا: وفي ما يتعلق بمبحثنا نلاحظ أن الارادة المستخدمة في مجموع الآيات الشريفة عبارة عن ارادتين، أولهما: ارادة نساء النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم كما في قوله تعالى "إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا" (الاحزاب 28)، وكذا قوله تعالى "وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ" (الاحزاب 29)، والأخرى ارادة الله لأهل البيت "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ" (الاحزاب 33) وما نسجله على ورود هذه الارادات بشكل سريع هو الأمور التالية: أ ـ إننا لو قلنا بأن الارادة الموجودة في الاية هي ارادة تشريعية، فإن متعلق هذه الارادة ينبغي أن لا يكون محصوراً بأداة الحصر "إنما"، وذلك لأن خطاب التشريع بالتخلّص من الرجس والتطهر وما إلى ذلك، هو خطاب موجّه إلى كل المكلّفين، وليس خطاباً خاصاً بجهة دون غيرها، وبالنتيجة وفق هذا القول يكون وجود أداة الحصر لا معنىً له، وهو باطل حتماً، فلا يبقى مجال إلا القول بتكوينية هذه الارادة. وذلك إن ملاك الارادة التشريعية هو التشريع ، فهي تنطلق من كونها تريد تحقيق مادة التشريع، ولئن لمسنا من الآيات السابقة لآية التطهير هذا الملاك بوضوح، فإنه في آية التطهير غير ملموس بالمرة، وذلك لوجود كلمة "إِنَّمَا" المتقدمة على هذه الارادة، فالتشريع مادة عامة لكل المكلّفين، فما المعنى بتخصيصه في هذه الحدود التي تضفيها أداة الحصر؟ ب ـ إن خطاب الارادة التشريعية يتعلّق بفاعل غير المريد كما عرفنا ذلك من قبل، وفي عموم الآيات لمسنا خطابين، أولهما: طلب الله من النساء أن يفعلن كما هو الأمر في الآيتين الأولى والثانية، فيما كانت الآية الثالثة وهي مورد البحث متعلّقة بإرادة المريد نفسه دون غيره ، ومثلما أكّد في الآيات السابقة لها على تعلّق ارادة الفعل بالنساء كما نلحظ ذلك من لهجة التخيير، فإنه قد أكّد أيضاً في هذه الآية على ارادة الفاعل المريد فلم يكتف بقوله : "يُرِيدُ اللَّهُ" بل شفّعه بفعلي الارادة "لِيُذْهِبَ" و "وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً" (الاحزاب 33) مما يؤكد أن المحور في الحديث هو محور الارادة التكوينية، فلا تغفل.

عن إشكالية الرجس والتطهير يقول الشيخ جلال الدين الصغير: استخدمت كلمة رجس في القرآن الكريم تسع مرات، وفي جميعها كان استخدامها بلحاظ ما ترتبط به من مصاديق أو متعلقات ، ولكن نلحظ في الآية الكريمة "وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ" (التوبة 125) اشارة حاسمة إلى منشأ الرجس ، إذ تشير الآية الكريمة إلى القلب المريض بعنوانه موطن هذا الرجس، وبالتالي لتؤكد ان القلب السليم لا يدخل فيه الرجس ، ولعل هذه الآية هي التي تعطي الرجس معناه الواقعي، إذ سيصبح كل قذر يلوث سلامة القلب من دون أو زيغ أو مرض أو ريب، وهو بالتالي لن يتوقف عند الجانب المادي الظاهر من القذر، بل يمتد إلى الجانب الباطني منه. ويظهر قوله سبحانه وتعالى "كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ" (الانعام 125)، وقوله تعالى "وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ" (يونس 100) أن سبب جعل الرجس متعلّق بعاملين، أولهما: عدم الإيمان، وثانيهما: الجهل، ولهذا فإن النفوس التي آمنت حق الإيمان وابتعدت عن كل صور الجهل، سينتفي منها الرجس انتفاء محضاً، وهي في مقامها تمثل تنافي العلة القابلية وهي هنا القلب السليم مع ارادة العلة الفاعلية وهي هنا عوامل الرجس، فيستحيل معها ظهور المعلول. وانتفاء المرض من القلب الذي هو صورة الرجس، سيؤهل هذا القلب لواحدة من مزايا القلب السليم الموعودة في القرآن، وهي مزية الرسوخ في العلم لقوله تعالى "هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبَابِ" (ال عمران 7) وهي كما أشرنا من قبل نتيجة بديهية للقلب الخالي من الزيغ، ولهذا فليس من قبيل الصدفة والاعتباط أن نجد التزامن الواحد في وجود الإيمان والعلم المضاد للجهل في هذا القلب مرة أخرى.

ويستمر الشيخ الصغير في شرح موضوع الرجس والطهارة قائلا: إن هذا الاذهاب للرجس هو الملازم البديهي لوجود الطهارة، وبما أنه كان عاماً وشاملاً لكل أنواع الرجس، فإن بديله سيكون عاماً وشاملاً لكل أنواع الطهر حتماً، وهذا الآخر يحتم إخراج زوجات النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم من مفاد الآية الشريفة ، وذلك لأن مقتضى الطهارة زوال الدم منهنّ كمثال، بدليل أن القرآن الكريم عدّ الحيض من النجاسات ودعا إلى التطهّر منه لقوله تبارك وتعالى "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ" (البقرة 212) وهنّ لسن كذلك، وهذا الأمر يوضحه لنا ماذا فعل الاصطفاء الإلهي والتطهير المتصاحب معه لمريم عليها‌السلام فجعلها بتولاً متميزة ببتوليتها عن سائر نساء العالمين. ويحتم خروج سائر من أحلّت الزكاة والصدقات لهم، لأن الزكاة والصدقات تطهير وتزكية لقوله تعالى "خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا" (التوبة 103) ومعه تسقط الروايات التي حاول البعض اقحام بعض الأشخاص فيها كواثلة بن الأسقع وغيره. ويحتم خروج سائر من ترد عليهم النجاسة الحادثة أيضاً، وذلك لقوله تعالى "وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" (المائدة 6) وبالتالي فإن كل ما دخل في هذا القيد خرج من مفاد الآية، ومعه يتضح لنا خطل التفسير بأن أهل البيت كلمة تشمل كل من حرمت عليه الصدقة كآل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس وغيرهم من بني هاشم كما يعمد إلى ذلك، بعضهم، لعدم توفر هذه المواصفات لهم.

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك