الصفحة الإسلامية

مفهوم العصمة في القرآن الكريم عند الشيخ جلال الدين الصغير من كتابه عصمة المعصوم (ح 2)


الدكتور فاضل حسن شريف

وعن قاعدة العمل بالأولى وترك الأقبح يقول الشيخ جلال الدين الصغير: فإن كان الشارع المقدّس قد حدّد لمريده جملة من التعليمات المبينة على قاعدة العمل بالأولى وترك الأقبح في أخص خصوصياته الذاتية فتراه يذهب معه حتى إلى بيت الخلاء ليحدد له آداب التخلي، ويذهب معه إلى فراش الموجية ليحدد له آداب المعاشرة الزوجية الخاصة، ويرافقه وهو في حال المشي والجلوس، واليقظة والنوم، ويحدد له مقدار ما يعلو بصوته "وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ" (لقمان 19) ويجالسه في حال الأكل والشرب لا ليحدد له آداب الجلوس على المائدة وطبيعة ما ينبغي أن يأكل وما ينبغي أن يدع فحسب ، بل يرافقه لنفس نية الأكل والشرب ، وهي من أكثر المباحات شيوعاً في حياة الإنسان ليقول له على لسان الرسول الأكرم صلى‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم وهو يتحدّث مع الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري رضوان الله تعالى عليه: يا أبا ذر لو استطعت أن يكون أكلك وشربك لله فافعل. وتراه يرافقه ليحدد له حتى طريقة ضحكه وحدوده، بل يمتد الخطاب الرسالي ليحدد للمرء طبيعة ما يفكر به حتى في هواجسه وخطراته اليومية فتراه يخاطبه: إذا أصبحت فلا تحدّث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدّث نفسك بالصباح. ولا ريب أن هذه الأمور هي من أكثر خصوصيات الإنسان الذاتية. وباعتبار أن الفصل بين الشخصيتين الرسالية والذاتية للمعصوم عليه‌السلام إنما يقوم على أساس الدخول في أعماق شخصية المعصوم عليه‌السلام بما لا دليل علهي وهو ما لا يجوز إلا مع العثور على نص معصوم ، لأن كل ما يقال بمعزل عن هذا النص محض ظنون لا تقوم على دليل موضوعي، ولو ساءلنا القرآن الكريم عن حقيقة هذه المزاعم ، فسنجد أن القرآن يعالج الأمر على أكثر من صعيد ، فمرة تجده وهو يتحدّث عن أن شخصية المعصوم الذاتية هي معادل تام لشخصيته الرسالية كما نلحظ ذلك في قوله تعالى : "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ" (ال عمران 144) ولا يوجد في متون الآية الكريمة ولا غيرها من الآيات ما يخرج شيئاً من هذا الحصر الذي تدلّنا عليه أداة "إلَّا"، بالشكل الذي يبقي شخصية الرسول صلى‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم متمحّضة في الرسالة ليس إلا. وأخرى ستجده يقدّم الرسالة بصورتها الكاملة والتامة وهي معنية كل العناية بالوصول بمراميها وغاياتها إلى الأعماق الغائرة للذات الإنسانية، بل إنه يطرح المتطلّب البشري للكمال وهو يستهدف الوصول بهذه الرسالة إلى أعماق هذه الذات ، ففي قوله سبحانه وتعالى: "رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" (البقرة 129) فالطموح البشري المعبّر عنه في هذه الآية الكريمة لا يتوقف عند حد التعرّف على أحكام الحلال والحرام ومسائل الاعتقادات وسائر الأمور الفكرية التي ينطوي عليها اسم الكتاب ، والذي يظهر في قوله سبحانه وتعالى: "رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ" (البقرة 129) فحسب بل نرى أن متطلّب الحكمة وتزكية النفس هو أمر أوسع من أن يتوقف عند تلك الأحكام ، فلو تأمّلناه بدقة لوجدناه يصلح للتفاعل مع كل مساحة الذات بكل ما حوت وضمت.

ويستطرد الشيخ الصغير قائلا: ولهذا كان بعث الرسول صلى‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم بعنوانه تالياً لآيات الكتاب ومعلماً له وللحكمة ومزكّياً للنفوس، مورداً جدياً من موارد المنّة الإلهية على البشرية وفق ما عبّرت عنه الآية الكريمة: "لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ" (ال عمران 164) وكيف لا يكون بهذه الجدية وهو المخلّص لهم من غياهب الضلال المبين والمنقذ من ظلماته ، ولقد جاءت بعثة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بمثابة التجسيد البشري لهذا العطاء الإلهي كما قال جلّ من قائل: "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ" (الجمعة 2) حيث تتداخل الرسالة مع الذات بصورة كاملة فيكون العلم الإلهي المتاح فيها وسيلة لتزكية النفوس ، ومناراً للحكمة تهتدي بها في مسالك الحياة الشائكة ومفاوزها الباثرة وعثراتها الغائرة. وهكذا يتعرّى الكلام عن وجود اثنينية في شخصية المعصوم عليه‌السلام عن الصحة ، ويخالفها الواقع الموضوعي لطبيعة الرسالة والواقع الشخصي لطبيعة المرسَل كما يدلّنا عليه الحديث الإلهي عنه ، وأن ما ذهبت إليه الأفكار المنحرفة لتشويه مسار العصمة وكل ما يرتبط بهذا الحديث ليس بأكثر من افتراءات لا قيمة لها على الصعيد العلمي ، أو انها تأتي لتعبّر عن جهالات تحكم على عقلية أصحابها.

وتحدث الشيخ جلال الدين الصغير عن توقي الانسان قائلا: وبادىء ذي بدء لا بد من الإشارة إلى حقيقة أن كل إنسان مجبول بطريقة ما على التوقي من فعل معين، والاندفاع إلى آخر، سيّان في ذلك صاحب الادراكات العقلية المتميزة أو القاصر عن ذلك، فالطفل يمتنع من النار، والمجنون يمتنع من الكثير من الأمور، وهذا الامتناع وإن كان في بعض الأحيان لا يتخذ نمطاً عقلياً بخط معياري واحد ، ولكن هناك حافز ما يدفع الممتنع لاتخاذ قرار امتناعه ، وهذه الحقيقة إن لو حظت في المواضع الطبيعية والسوية لسلوك الإنسان فسنجد أن ثمة قوة تدفع بهذا الإنسان نحو أن ينشد كمالاً ما، وغالباً ما نجد قرارات الفعل وموانعه تتبع هذه القوة وتتأثر بها، وهذه القول هي ما يسميها الله سبحانه وتعالى بالفطرة "فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ" (الروم 30) ووفق نقاوة هذه الفطرة تتلون حركة معيارية بواعث الإرادة في الفعل الإنساني، فقد يتصرف الإنسان تصرفاً خاطئاً فيحكم بنفسه على هذا التصرف بالخطأ أو الذنب، وذلك بسبب أن المعيارية المناقبية في فطرته تناقضت مع ما نحت ارادته إليه، وذلك ضمن تفصيل لا مجال له في هذا البحث، وما يهمنا هنا هو القول بأن نقاوة هذه الفطرة وعدمها هي التي تشكّل صيغ إمتناعات الإنسان عن أمور وإقدامه على أخرى ، وبحثنا هنا سيتركز على تحليل ذلك لنفهم كيف تتشكّل العصمة في سلوك الإنسان. ومن أجل فهم تشكّل العصمة في فعل الإنسان، علينا أن نفهم حركة الفعل في شخصية الإنسان ، فهذا الإنسان ـ أي إنسان ـ جبل محتواه الداخلي على وجود نقيضين متصارعين وفق ما بيّنته الآية الكريمة : وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا" (الشمس 7-8) وهذان النقيضان يمثلان استعداداً ذاتياً وقوة كامنة في داخل كل نفس، إذ يجرّ الفجور بهذه النفس نحو التسافل العقلي، فيما تدفع التقوى بها نحو السمو والرقي "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا" (الشمس 9-10) والصراع بين هذا التسافل وذلك التسامي والاتقاء هو الذي يعطي للفعل الإنساني صورته الخارجية ، والعلاقة بين هذين العنصرين هي علاقة تطارد ودفع ، فكما استحوذ أحدهما على مساحة ما في داخل القلب كلما أزاح الآخر عنه، والعكس صحيح أيضاً.

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك