بقلم : رياض راضي ابو رغيف باحث اسلامي وكاتب في الشان العراقي
احيانا كثيرة تنتهي وتخبوا الثورات والانقلابات بانتهاء قادتها اما بالموت او الفرار وقلما نجد ان الحركات الثورية تتفاعل وتتصاعد حركتها داخل المجتمع بسرعة بعد ان تفقد قائدها وعقلها المحرك لها. وفشل الثورة العسكري (اي ثورة ) معناه توقع ردود افعال عنيفة وقوية للسلطة بالضد من المتعاطفين والمشتركين فيها فضلا عن قادتها ثم التنكيل بعوائلهم واهلهم وخواصهم انتقاما من حركة الثوار والانقلابيين ضد النظام الحاكم .ان من المستحيل ان تستمر حركة الثورة بالتصاعد والنمو بعد ان تصاب بنكبة فقدانها قياداتها ونخبها العسكرية المتحركة في ساحات تفجرها خاصة اذا ما كانت تلك الحركة الاستمرارية من دون انفصال ولا للحظة واحدة عن صفحتها الحربية والقتالية .بالطبع يمكن لنا ان نفهم ان صفحات اي ثورة يمكنها ان تتاخر عن صفحاتها اللاحقة لاعتبارات قد تكون مدروسة احيانا او تفرضها الظروف الموضوعية احيانا اخرى لكن ان تتواصل مترادفة دون توقف وتنتقل من ميدان الى اخر من دون هدنة او استراحة منطقية او توجس او خيفة او حذر من انتقام السلطة فهذا امر لم يتحقق الا في ثورة كربلاء فثورة الطف لم تتوقف ابدا بسقوط امامها وقائدها الحسين ع على ارض كربلاء مقتولا مذبوحا مسلوبا بعد مقتل رجالاته من بني هاشم وخيرة اصحابه على يد اعوان السلطة ومرتزقتها وانتقلت في توها ولحظتها الى صفحة جديدة لا تقل ثورية ولا تفجر عن صفحتها العسكرية الاولى .يمكن لمن يقيس الثورة الحسينية بمقياسات النجاح والفشل الماديين ان يقول بان ثورة كربلاء انتهت فعليا باستشهاد الحسين وسبي عياله واهل بيته لكنه وبالالتفات الى الاحداث اللاحقة للثورة والتي ابتدأت من حيث انتهاء الفعل العسكري للثورة ابتدات اعلاميا وتحريضيا باستنهاض الجماهير وتوعيتها باتجاه رفض الظلم ونبذ الانحراف والذي ما كان ليحقق اهدافه الا بالتفات الناس الى الاسباب التي دعت بالحاكم الاموي الى قتل ريحانة رسول الله وابن بنت نبيه وقتله لثلة من المؤمنين الصالحين والذين كان البعض منهم ذوو شأن اجتماعي وقبلي بارز ومؤثر ومهم وبالغ الاهمية في قومه كهانيء بن عروة وحبيب بن مظاهر الاسدي والحر الرياحي والحارث بن امرؤ القيس ومسلم بن عوسجة وغيرهم من سادات الانصار والعرب بالالتفات الى ذلك ونتائجه التاريخية المتحصلة لاحقا لايمكن الا الاقرار بنجاح الثورة الحسينية واهدافها وغاياتها النبيلة .لقد كان اختيار الحسين (ع ) لاخته زينب في رحلته باتجاه كربلاء الثورة ينم عن وعي بالغ بالدور المناط بها سواءا في خضم احداث الثورة او ما بعدها هذا الاختيار الذي هو بالتاكيد مبتنى على معرفة دقيقة بقدراتها وامكاناتها ومواهبها وعبقريتها في مواجهة المواقف الشديدة والمحرجة بصلابة وقوة وتماسك تتضائل امامه قدرات الاخرين ممن لم يخبروا ماخبرت الحوراء من مسؤوليات ثقيلة ومحن شديدة ومصائب كبيرة على مدى عمرها الشريف .ومما لا شك فيه ان لعوامل البيئة والاسرة الاثر الاكبر في تكون الشخصية الانسانية للسيدة زينب(ع ) حفيدة محمد (ص ) والسيدة خديجة وبنت امير المؤمنين فقد تربت في حجر الزهراء وعاشت في كنف سيدا شباب اهل الجنة (ع ) وهم جميعا شخصيات انسانية متكاملة كانوا رموزا و معلمين ومربين لهذه السيدة الجليلة التي حبكت شخصيتها المعاني السامية المتاثرة بالاجداد والاباء والامهات والاخوان وقد اعتركت هذا البيت النبوي الطاهر المحن والماسي والتجارب المرة التي كانت تقابل بالصبر والصمود والثبات بشجاعة وايمان من دون تراجع او تهاون او تردد والحوراء عاشت وهي لم تكمل الخامسة من سنينها الطاهرة ماساة اليتم بفقدان اعظم ام عرفها وجه الانسانية فتلمست وهي في بواكير عمرها الالم والمسؤولية .... الالم وهي ترى امها الزهراء مضطهدة مقهورة بعد رحيل جدها (ص ) وما لقيه البيت العلوي من اغتصاب للحق و جحود وتنكر واضطهاد وظلم وماساة المت باهل بيتها ومسؤولية الوعد القديم الذي قدمته لامها الزهراء تجاه دورها المرتقب في حياة ابيها واخويها او بعد استشهادهم (ع) فالمواقف المؤلمة التي عاشتها زينب (ع )طوال حياتها كانت كفيلة بتعزيز صمودها وتهيئة شخصيتها بالاتجاه الذي يكفل لها اداء الدور المنشود لها بعد استشهاد قائد الثورة وامام الامة واطلاق الصرخة التالية من صرخات الثورة الكربلائية .المنظر الذي انجلى ظهيرة العاشر من محرم حين انفضت جموع القتلة المتوحشين عن جسد اخيها الشهيد تاركة جسده الشريف محزوز الراس محطم الاضلاع مقطع الاوصال مسلوب العمامة والرداء منظرا مؤلما قاسيا تهتز له قلوب الرجال وتتلعثم السنتهم ويعجز بيانهم امام هول المنظر وعظم المصيبة الا ان الدور المناط باخت الاحرار الكرام يستدعي موقفا صلبا كبيرا يهز كيان الامة ويفضح زيف وانحراف الاعداء فتوجهت نحو الجسد الشريف وهي تصيح (( يا جداه ...يا محمداه ... صلى عليك ملائكة السماء هذا حسين مرمل بالدماء مقطع الاعضاء مسلوب العمامة و الرداء و بناتك سبايا فالى الله المشتكى ...اللهم تقبل منا هذا القربان" ....))و احدثت تلك الكلمات تاثيرا كبيرا في نفوس الجيش الاموي وسرعان ما انقلب البعض من الجند ضد قادتهم ليهجموا على قتلة الحسين محاولين قتلهم فكان منهم ابي الحتوف الانصاري الكوفي وسعد بن الحرث وبكر بن حي التيمي وجنادة بن الحارث السلماني الكوفي وغيرهم ذكروا في ((دائرة المعارف للشيخ محمّد حسين الأعلمي ،ج23 ص193 )) لقد كشفت كلمات الحوراء عند جسد اخيها الشهيد حقيقة الحزبين حزب الثوار وحزب بني امية وابن زياد فاحدثت تاثيرا هازا ومجلجلا لنفوس ممن اخذته الصدمة وراعه المنظر فانقلبوا من معسكر الباطل الى معسكر الحق سواءا في لحظتها او لاحقا كما يحدثنا التاريخ عن شخصيات ثورة التوابين التي كان معظم افرادها ممن ندم عن موقفه السلبي تجاه الثورة الحسينية .مرت بالحوراء زينب بعد استشهاد الحسين مواقف مؤلمة وحوادث محزنة ووقائع خطرة تصدت لها بكل شجاعة وقوة وباس وصبر وصمود قل نظيره ومنذ اللحظات الاولى للسبي والاسر كانت (ع ) تدرك عظم مهمتها وخطر مسؤولياتها تجاه اهل بيتها من جهة وبتحديها اعداء الاسلام من جهة اخرى من دون ان تهمل واجباتها تجاه الثورة الحسينية .كان الاعداء يحاولون بكل الطرق ان يرضخوا ارادتها ويجزعوا صبرها وهي الثكلى بسبعة وعشرين فحلا من اخوتها وابناء اخوتها وابناء عمومتها ورغم عظم المصاب وجلله كانت صابرة محتسبة تامر من معها بالصبر والثبات واقامة الصلاة وقراءة القران واداء الواجبات الشرعية كانت تلوك الامها بصبر المحتسبة خافية مشاعرها الحزينة متجرعة الام فراق الاحبة وفقدان الاعزاء صابرة مجاهدة بكل ما اوتيت من قوة وشدة متجرعة مراراتها وفي ذات الوقت كانت مشاعر الامومة والحنان والاهتمام والرعاية تتاجج في داخل نفسها الطاهرة تجاه النساء الثكالى والفتيات والصبيان اليتامى من ال محمد الذين اسرهم جنود ابن زياد وطغاته .لقد قلبت زينب (ع ) ظهر المجن على اعدائها واعداء جدها وابيها واخيها فقد ارادت قوى الكفر والانحراف من خلال اسرهم لنساء وعيال الحسين ان يكسروا النفس الابية الثائرة لزينب ومن معها وهم بالتالي يوجهون رسالة الى كل من له نية الثورة ضد الحاكم مفادها ان هذا هو مصير عيال الحسين ع وهو ابن بنت النبي ووراث الامام علي فكيف الحال بالثائرين ممن قل شانه عن هذا المقام الرفيع .لكن وعي زينب تمثل حين دخل موكب السبايا الكوفة فعرفت اهلها الغافلين المنخدعين باعلام السلطة وابواقها بحقيقة من كان ابن زياد ومن وراءه يزيد يحشد الناس لقتله وقتاله وبينت في مجلس طاغيتها بكل طلاقة اهداف ثورة الحسين وعظمة تحرك ثورته ونبل اهدافها.بقوة الايمان والتمسك الشديد بمواقفها وهي الاسيرة الثكلى المنكسرة القلب واجهت سلطة الطاغية وردت كيده الى نحره واخرست لسانه الضال .لقد لفتت خطبتها وعباراتها الناطقة بالحق مشاعراهل الكوفة وكشفت حقيقة انخداعهم وسيرهم الباطل خلف اهواء الكفر والانحراف وكسرت بشخصيتها القيادية رغم كل المؤثرات العنيفة حولها حاجز الخوف في نفوس الجماهير وارعب خطابها السلطة وخافت من انقلاب الناس عليها فامروا بترحيلهم الى بلاد الشام حيث مقر الحاكم الاموي المستبد .هدر صوت زينب (ع ) مرة اخرى عاليا مدويا في ارجاء قصر يزيد دون خوف او وجل فهو اليوم مليء بالشاميين الذي جمعهم يزيد احتفالا بمقتل ابي عبد الله الحسين (ع ) وكان لابد لتلك الثائرة الحرة ان تفضح الظالم في عقر داره وتناصر ثورة الحق ضد الطغيان والانحراف خطبة قصيرة العبارات كبيرة المعاني حججها بليغة وكلماتها ثاقبة تضع الحق في نصابه لتذكر الناس بافعال المنحرفين وعدائهم لمنهج الاسلام المحمدي وشناعة افعالهم تجاه قادة الامة الاخيار .دوت خطبتها مجلجلة بالحق ناصرة لثورة اخيها الحسين مبينة عظم اهدافها وغاياتها مسلطة الضوء على الفوارق الاخلاقية والدينية والاجتماعية بين شخصيتين احداها نجما عاليا في قمة الاسلام الشامخ والاخرى شخصية مهزوزة غارقة في وحل الرذيلة والتسافل لقد مثلت هذه المراة العظيمة في وقوفها حرة شجاعة ثائرة لا خائفة ولا وجلة حقيقة انتماؤها الى الخط النبوي الفاطمي العلوي الحسني وكانت بحق خير وريث لثورة كربلاء بعد استشهاد قائدها الحسين (ع )
رياض راضي ابو رغيف
https://telegram.me/buratha