بقلم : رياض راضي ابو رغيف باحث اسلامي وكاتب في الشان العراقي
لا شك ان عملية التغيير والانقلاب والثورة في اي مجتمع لا تحصل الا نتيجة لعوامل ضغط سياسية واجتماعية وربما فردية متراكمة تؤدي بالتالي الى الانفجار والبحث عن التغيير والانقلاب على الواقع المعاش .وبالتأكيد ان ادوات الثورة وعناصرها هم الافراد المتمردون المتأثرين بتلك العوامل فتمثل لهم الحركة باتجاه تفجير الثورة تفريغ لما بداخلهم من عقد نفسية غاضبة لانعكاسات الواقع السيء التي قد تتمثل بفوارق طبقية وضغوط اجتماعية ومادية وسياسية وعوامل شخصية مؤثرة اخرى تؤدي بهم نحو الثوران والانفجار بقوة قد توازي مستوى معاناتهم والامهم وتكون ردا للفعل الضاغط عليهم .لكن هذه القاعدة ليست دائما منطبقة على الجميع باعتبار النظر الى المقدمات والغايات والاهداف المحركة لها والباعثة على قيامها فتلك الامور يمكن ان تتباين وتختلف باختلاف الوعي والشعور باحقية الاهداف وعظم المسؤولية وادراك المخاطر وتلمس النتائج والثمرات تلمس الخبير ثاقب النظر في دروب المستقبل القادم . والبحث في ثورة الحسين ع بعيدا عن الجانب القدسي والروحي لها وما تحمله تلك الذكرى من مشاعر وعواطف جياشة تؤثر في نفوس المسلمين والمؤمنين بل والانسانية جميعا تحتاج منا لكي نفهمها على اساس ما قدمنا ان نعرف هل انها كانت ردا قويا مضادا لاتجاه الضغط السلطوي الحكومي في كل جوانبه السياسية والاجتماعية والنفسية والمادية فحسب ام انها كانت ثورة وانتفاضة واعية مدروسة ؟لابد اولا ان نعرف انه من خلال استقراء سير الثورات والانتفاضات نجد انه قد تتلاقح الدوافع الناهضة بالثورة وطلب التغيير احيانا مع بعضها البعض فقد تتفجر الثورات الشعبية نتيجة لرد فعل شخصي وعوامل نفسية تكتنف افرادها تجاه احداث معينة وتكون ثورة عارمة وشرسة وقد تختلط مع ارادة النهوض الواعي لقياداتها حينها تبرز مهمة القيادة الواعية في استثمار تلك المواقف التي قد تكون احيانا غير منضبطة او غير موجهة بالاتجاه الذي يوصلها الى اهدافها المطلوبة . بهذا المنطق علينا ان نبحث اسباب تفجر الثورة وانطلاقها ونعرف دوافعها فالامر الواضح الذي لا يختلف فيه اثنان ان الحسين (ع ) رفض بشدة ان يبايع يزيد كحاكم للدولة الاسلامية بعد ان رفض سابقا ولاية العهد التي البسها له ابيه من قبل ولم يكن المراد من ذلك هو رفض الحسين لشخص يزيد بكل ما عرف عن شخصيته من ملابسات ومؤاخذات فحسب بل ان الرفض كان اعمق من ذلك بكثير فبيعة الحسين ليزيد معناها تأييده لما اسسه معاوية من نظام حكومي ملكي وراثي ناضل بكل قوة لتثبيته وترسيخه وهو انحراف واضح عن خط النظام النبوي فضلا عن عقيدته . اعلان رفض الانحراف ومقاومة مخططات السلطة الاموية كان في لحظته رد فعل قوي مقاوم للضغط والارهاب الطاغوتي ليس بمستواه الشخصي كما تصور البعض من قول الامام (ع ) ((فمثلي لا يبايع مثله )) بل بمستوى عمق المسؤولية وجسامة المهمة المعلقة برقبة الامام الحسين (ع ) كوريث للخط القيادي التربوي النبوي الرافض لكل مستحدث وبدعة تبتعد عن خط الاسلام ومنهجه .ثم ان ذلك الرفض الشديد للبيعة لم يكن كما قد يتصور البعض نابعا من رغبة الامام في منصب الخلافة التي هي من حقه سواءا بالنص النبوي والحق الالهي او بعهود وثيقة الصلح التي عقدها اخيه الامام الحسن (ع ) مع معاوية وشرطها المعروف في ان تؤول الخلافة اليه بعد موت معاوية فالحسين (ع ) في الواقع كان بلا انصار الا من بعض اهل بيته وابناء عمومته وهم من الناحية العسكرية لايمكن الاستقواء بهم لاسترداد حقه المسلوب امام جند يزيد وأعوانه الذين يملئون طرقات المدينة ويحاصرونها ولم تكن جماهير الثورة اتصلت بقائدها بعد كي يمكن اعتبارهم عمقا سوقيا دافعا ومقويا لموقف الامام الحسين (ع ) امام السلطة فالمعروف ان الامام (ع ) حين غادر المدينة المنورة متوجها الى مكة متملصا من مؤامرات وضغوط السلطة الاموية لم تكن مراسلاته مع الثوار في الكوفة قد بدات بعد فالحسين (ع ) كما اشار اهل السير والمقاتل دخل الحرم المكي في الثالث من شعبان بينما وصلته اولى رسائل انصاره في الكوفة في العاشر من رمضان عام 60 هـ وذلك كله يؤشر الى حقيقة واضحة لا لبس فيها في ان الامام الحسين لم يكن مبايعا ليزيد رغم كل ما مورس تجاهه من ضغط وتشديد ولم يكن معطيا عهده وبيعته ولو لم يناصره احد او يقوم معه فرد .ان اصرار الامام الحسين (ع ) على عدم البيعه له جنبتان مهمتان تدلان على الوعي العالي والفهم الواضح لمجريات الاحداث من حوله وجسامة المخطط القادم لها .فالحسين (ع ) كان واعيا ومدركا لخطر ما تفعله السلطة الاموية وتخطط له فالظلم والضغط والتضييق الواقع على ابناء الامام علي (ع ) واهل بيته نتيجة لظروف الصراع السياسي والعسكري الذي دار بين العائلة العلوية بما تمثله من اهمية ودور في المجتمع الاسلامي وبين العائلة الاموية وتاريخها الموغل في العداوة والمعاداة للنبي والإسلام لم يكن نابعا من عداوة شخصية متولدة عن ذلك الصراع التاريخي الذي تفجرالى العلن بعد مقتل الخليفة الثالث فحسب بل هو امتداد للحقد الموروث من الايام الاولى لبعثة النبي (ص ) وما جرته تلك النبوة الكريمة من تداعيات القت بضلالها على امجاد قبلية انهارت وتبخرت بالفتح الاسلامي العظيم لمكة وهي عقدة لم تفارق تلك النفوس رغم انصياعها للاسلام وتعاليمه ورضوخ الامام الحسين بما يمثله من امتداد لذلك الخط النبوي العظيم لتلك الارادة المريضة يمثل من وجهة نظر الحاكم الاموي اقرار بمشروعية مشروع الحكم الاموي وهو خط ادركت السلطة اهمية تاثيره في اتجاهات الراي العام للامة الاسلامية .اما الجنبة الاخرى من الموضوع فان الامام الحسين (ع ) كان يعلم جيدا ان افعال السلطة وفساد اعوانها وجرائم اركانها لم تكن تطال ذلك البيت العلوي الشريف فقط نتيجة لقلقها منه لاعتبار التحسبات الامنية والخشية المستمرة من شخصيته المؤثرة في المجتمع الاسلامي بل ان جرائم السلطة وظلمها وتسلطها كان ينال جميع المقدسات وافراد وشخوص وجماهير الدولة الاسلامية الا من كان مواليا ومحابيا ومنافقا لها .والمتحقق الواضح مما تقدم انه لم تكن دعوة اهل الكوفة وتحزبهم للحسين (ع ) حافزا لرفضه المبايعة واعلانه مناوئة الحكم الاموي بكل ماعرف عنه من شدة وارهاب واجرام وانتهاك للدماء والحرمات وهذا يعني اذا ما نظرنا الى الامر بنظرة المحللين الماديين انه كان يفتقد احد المقومات المادية في ادامة زخم الموقف كما يعبرون وبالتالي فالامام كان يدرك انه انما يقف وحيدا امام امواج عاتية من الظلم وتوقعات محسوبة من العنف والتنكيل والاضطهاد .ورغم ان الامام استطاع الافلات من القبضة الاموية في المدينة بخروجه الى مكة المكرمة وتملص بكبرياء وموقف بارز من بيعة يأنفها الا انه لم يألوا جهدا في الكشف عن حقيقة الانحراف الحكومي الشنيع عن خط الاسلام واستنكار اجرامه وظل (ع ) وهو في مكة وحيدا الا من قلة قليلة من اهله صوتا عاليا يبين الحقائق ويوضح الانحرافات ويكشف المؤمرات التي تحاك ضد الاسلام والمسلمين .ذاك الصوت الجهوري بالحق في اهم حاضرة من حواضر الدولة الاسلامية لم يكن غائبا عن العيون المبثوثة في كل زاوية من زوايا البلاد وكانت انفاس وتحركات الامام الثائر محسوبة ومرصودة وكلماته الثورية وخطبه المجلجلة بين اركان الكعبة الشريفة تصل الى مركز القرار السلطوي بقوة صادعة بالحق مدوية تزلزل معانيها كرسي السلطان وعرشه المهزوز وهي في ذات الوقت قريبة مباشرة تصل مسامع الفقراء والمسحوقين والمحرومين والمظلومين في كل ارجاء ارض الاسلام لتثير في نفوسهم عوامل الثورة وتستثير فيهم كوامن الانقلاب على الواقع المرير الذي اوصلهم اليه الخنوع والاستسلام لإرادات الباطل وسطوته . ذلك التمهيد الرصين والقدرة الفكرية العالية والموقف الشجاع الحازم واختيار الزمان والمكان المثاليين للاعلان عن دوافع الرفض وبيان مخاطر الاستسلام للشخصيات المشوهة والمشبوهة وتوضيح حقيقة انحرافها عن النهج القويم كانت تصدر من اهم رجل وارفع شخصية وابلغ ناطق واتقى مؤمن واشجع محارب واشرف انسان عرفته الارض بعد النبي (ص ) وفاطمة وعلي والحسن (ع ) ذلك الامام سليل النبوة وثمرة النورين الطاهرين كانت الاسماع و العقول والافئدة لاتحتار ولا تتردد في الاختيار بينه وبين من كان في الجهة المقابلة من كفة ميزان الترجيح والتفضيل .ولم يكن التفاف الناس حول الامام الحسين (ع ) عند بدأ اعلانه عن رفضه التسليم لسياسة الحكومة الاموية التفافا عاطفيا غير واعيا ومتاثرا بشخصية دينية فذة ولها تاثير روحي عميق في عواطف الناس بسبب انتماءها النسبي والتربوي بالنبي (ص ) رغم انها حقيقة لا يمكن نكران صحتها فمميزات شخصية قائد كالحسين كما قدمنا لايمكن التغاضي عن عمق تاثيرها في النفوس ووقعها الجليل في الروح الا ان للاعلان عن مباديء الثورة اثرا ليس بقليل الاهمية في نفوس الثائرين فالتأثير العاطفي في النفس الانسانية فورة وحرارة ممكن ان يزول تاثيرها سريعا وقد تخبو وتنطفيء ان لم تتعزز بمعاني عالية لا تقل سموا عن سمو شخصية حاملها وتكون كاشفة واقعية عن عظمة مبدعها ورزانة موجدها والاعلان عن مباديء الثورة الحسينية جاءت مبكرة وواضحة جلية فلم تكن المطالبات شخصية ولا مطامع دنيوية ولا اهداف انية بل اهداف سامية ومعاني عظيمة واضحة تستمد عبقها من منهج القران وخط النبوة .هذه الاهداف نتلمسها في خطب ورسائل قائد الثورة وإمام الامة وفي الاهداف يكمن المنهج دائما فالاهداف الواضحة الجلية ترسم منهجا مستقيما واضحا من خلفها .((اني لم اخرج اشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما وانما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي وابي اريد ان اامر بالمعروف وانهي عن المنكر....... )) تلك الاهداف الثورية ليست مرحلية كما يعبرون بلغة اليوم بل هي اهداف مستقبلية ترسم طريقا معبدا جليا لسير الثائرين على مدى الازمان والسنين والحقب ولم تكن اختراعا او تأليفا او ابتداعا يرد في الخاطر نتيجة لومضات موقف اللحظة والساعة بل منهجا مستهديا بالفكر النبوي الاصيل الذي اختطته عناية الله لمحمد ورسالته العظيمة ((ايها الناس ... ان رسول الله (ص ) قال : من راى سلطانا جائرا مستحلا لحرام الله ناكثا لعهد الله مخالفا لسنة رسول الله يعمل في عباد الله بالاثم والعدوان فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقا على الله ان يدخله مدخله )) فهل هناك منهج اوضح واوفى واجزل من المنهج الذي صدح به الحسين ليكون منارة ونبراسا يستنير به الثائرون في كل زمان ومكان وهل هناك عبقرية قيادية توازي عبقرية الامام في تشخيص مكامن الخلل في الامة وتحديد مفصل الحركة الثورية الاسلم والاكثر نضجا فحينما يفسد السلطان تفسد الامة وحينما تخالف السلطة الحاكمة العهد بينها وبين الحق الذي اعطاه الله للانسان وجعله حر الارادة عظيم المنزلة بين خلقه وتعمل فيه بالاثم والعدوان حينها تنهار المنظومة الفطرية السليمة التي اخنطها الله للبشرية وتصاب الامة بالانحراف والشذوذ الفكري والانساني وتستشري الامراض الاجتماعية الخطيرة المؤدية الى انهيارها وفناءها وزوالها والرضوخ والخنوع والسكوت عن ذلك الظلم والتسلط والطغيان جريمة كبرى واهانة عظمى للطبيعة الانسانية السامية وخطر جسيم يهدد المجتمع ويخرب كياناته السليمة . ((الا ترون الحق لا يعمل به وان الباطل لا ينهى عنه ))لاحظ انه حينما تكون السلطة الحاكمة هي مصدر المنكر والفساد وتلوث العالم الاسلامي وتكون جماهير الامة مشلولة الارادة فاقدة القدرة على مقاومتها ومنعها من التمادي حيتها تكون المسؤولية الدينية والأخلاقية والواجب الالهي دافعا مهما لشخصيات معينة مثل الامام الحسين للنهوض بوجهها واستنهاض همة الرجال للوقوف بقوة ضد الظالمين وبالالتفات الى ما قدمنا من امثلة يستبين جيدا ان ثورة الامام الحسين ثورة منطلقة من الشعور بالمسؤولية وانه (ع ) كان ملتفتا الى كل المخاطر والعواقب وكان اختيار الامام للشهادة عن وعي ومعرفة بابعاد تلك الشهادة واثرها البالغ في استنهاض الامة ومقاومتها للانحراف من بعده وان شهادة الخيرة من اصحابه كانت عن وعي ايضا باهمية شهادتهم في تحريك الجماهير التي قيدتها حبال الخوف والتردد نتيجة لتراكم قبولهم منطق الظلم الحكومي لعشرات السنين حتى استمرئته نفوسهم.شهادة تختلف عن كل حالات الاستشهاد الاخرى لانها كانت باختيارهم ورغبتهم بعد ان خيرهم قائدهم ليلة عاشوراء وقال من شاء فليذهب واعلن انه من مكث معه الى الغد فانه مقتول لامحالة ورغم كل ذلك اختاروا البقاء مع قائدهم والشهادة معه رغم معرفتهم بحتمية تلك الشهادة ويقينية حدوثها ولمعرفتهم باحقية ما اقدموا عليه ووعيهم لمسؤولياتهم تجاه مفجر الثورة وامام الامة .وبالتالي لم يكن دور القيادة الحسينية للثورة دور القائد التقليدي الذي يأتي الى رأس الثورة بعد تكامل مخاضها واقتراب ولادتها شعبيا بل ان دور الامام كان دور شرارتها الاولى والواجد لها والمولد لاحداثها والدافع الى تفجرها والمجاهد بين صفوفها والمعلن عن اهدافها والمناضل من اجل غاياتها وهي قيادة واعية لثورة واعية انتصرت فيها ارادة الحق حين فجرت في نفوس ابناء الامة الاسلامية عوامل النهوض والانتباه والتحرك ضد الانحراف الحكومي والظلم السلطوي فصارت تلك الثورة عنوانا لرفض الظلم والطغيان والاستعباد في كل بقاع الدنيا .
https://telegram.me/buratha