بقلم رياض ابو رغيف كاتب في الشان العراقي وباحث اسلامي
مما لاشك فيه ان حياة الانبياء والائمة والاولياء الربانيون حالها حال عوالم الطبيعة الواسعة كلما انغمس الدارسون والباحثون في تحليل جوانبها وغمر عوالمها وتفكيك غوامضها تظل فيها صفحات كثيرة تقصر قامات اهل العلم والتحليل عن حل مجاهيلها وتبين افتقادنا للمعرفة الكافية بعظم شخصياتهم ومنزلتهم الالهية وامكاناتهم التكوينية ولعل ذلك القصور والتقصير نابع من خطأ نقع فيه هو قياس تلك الشخصيات وامكاناتها ومحور حركتها التكاملية قياس قاعدته عموم سمات النفس الانسانية العادية لا خصوص التفرد والتميز والاختصاص .لايعني ذلك ابدا النظر الي تلك الشخصيات العظيمة بمنظار الربوبية والتاله ووصفهم بصفات قد تصل حد وصف الشخصيات الخرافية فهذا ليس مبغى الدارس للفكر والتاريخ الاسلامي من جهة وهو مخالف للقواعد الشرعية والعقائدية من جهة اخرى لكننا حين نقف امام النصوص التاريخية والوقائع الوصفية او السردية لحياتهم القدسية نجد ملامح التميز والتفرد في شخصياتهم الانسانية واضحة وجلية فهي تعلو في كمالها واكتمالها عن كل المشابهات في تكوين الشخصية الانسانية المناضرة في الخلقية (من الخلق ) والتكوين النفسي والاخلاقي بل لعلنا لا تجد لها شبيها الا في خصوص انتسابها الى اب او جد اوتعلق بالنسب النبوي الشريف .والامامة بمفهومها العقائدي في مذهب اهل البيت ع هي ميراث النبوة وطبيعة واجبات من لاذ تحت كسائها هوقيادة الامة الى بر الامن والامان والابتعاد بها عن تيارات الانحراف والتنكب عن خط النبوة المحمدي الاصيل .وبذلك يمكن ان تتباين شروط الامامة من وجهة نظر الدارس بين المفهومين المفهوم الناظر الى قياس شخصيات الائمة بمقياس النفس الانسانية العادية والتي تحتاج الى عوامل تكاملية تربوية تدرجية وتدريجية للوصول الى المرتبة العليا التي تؤهلها لامامة الامة وقيادتها الى المطلوب الالهي والهدف الرباني ومفهوم النظر الى شخصيات الائمة من خلال ملامح تميزها وتفردها وانفرادها بخصائص تربوية وتكاملية واكتمالية تختلف عن القياس التقليدي والعادي وترتبط بالارث النبوي ويكون خط انطلاق تكاملها خطا نبويا تراكميا لافاصل فيه ولا توقف مشدودا بعلم القران وتربيته منذ الابتداء الى الانتهاء . لذلك فان فهم خاصية امامة الجواد ع لابد ان لاتخرج عن المعنى الذي قدمنا فهو اول امام يبلغ الامامة في طفولته ومن الطبيعي ان تتناثر الاسئلة عند دراسة طبيعة امامته ع كيف يمكن لحدث ان يتحمل مسؤولية ومهمة وامامة وقيادة المسلمين ؟وهل بالامكان ان يبلغ الانسان بهذا العمر الكمال الذي يؤهله لهذا المنصب الخطير ؟والطبيعي في الخلقة البشرية ان مرحلة نضوج عقل الانسان وجسمه تتعين في وقت زمني معين وفي مدتها يحصل نضوجه روحا وجسدا .لكن لامانع ابدا ان يجعل الله مرحلة النضج تحدث في البعض قبل الموعد الطبيعي الذي اعتاد ان يعقله الناس وهو امر ليس بغريب في حوادث تحدث لافراد معينيين شذت فيهم امور خارج النظم الطبيعية وامتازو بها وميزهم الله بها فقد قال الله تعالى عن النبي يحيى ع في سورة مريم اية 12((يايحيى خذ الكتاب بقوة واتيناه الحكم صبيا )) وكذلك قوله تعالى عن النبي عيسى ع حين يصف كلامه في الصغر ودفاعه عن امه مريم الصديقة التي سيء بها الظن في سورة مريم اية 30 - 32 (( قال اني عبد الله اتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا اين ما كنت واوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا )) ورغم ذلك فان مشكلة امكانية الوصول الى المناصب الالهية في صغر العمر وحداثته كانت تعتبر مشكلة في وقت الامام الجواد ع ولم تكن محلولة حتى عند علماء الشيعة انفسهم انذاك وقد احدثت ازمة عقائدية حادة وفريدة بعد وفاة الامام الرضا ع وبداية امامة ابنه صغير السن الجواد ع والذي احدثت سنين عمره القليلة معضلة عند العوام والخواص لذلك برزت الحاجة الى التاكد والتمحيص في ان هل ان ابي جعفر محمد الجواد ابن الامام الرضا يتمتع بعلم اباءه واجداده لذلك كتب المؤرخون حول ذلك ومنهم الطبري في كتابه الامامة ص 204 (( فلما مضى الرضا ع في سنة 202 كانت سن ابي جعفر نحو سبع سنين واختلفت الكلمة ببغداد وفي الامصار واجتمع الريان بن الصلت وصفوان بن يحيى ومحمد بن حكيم وعبد الرحمن بن الحجاج وجماعة من وجوه الشيعة وثقاتهم في دار عبد الرحمن بن الحجاج فقال لهم يونس بن عبد الرحمن : دعوا البكاء من لهذا الامر والى من يقصد بالمسائل الى ان يكبر هذا الصبي -يعني ابا جعفر -فقام له الريان بن الصلت ولم يزل يلطمه ويقول انت تظهر الايمان لنا وتبطن الشرك ان كان امره من الله تعالى فلو انه ابن يوم واحد كان بمنزلة ابن مائة سنة ولو لم يكن من عند الله فلو ان عمره الف سنة فهو كواحد من الناس هذا ماينبغي ان يفكر فيه ...وقرب موسم الحج واجتمع من فقهاء بغداد والامصار وعلمائهم ثمانون رجلا وقصدوا الحج والمدينة ليشاهدوا ابا جعفر فلما وافوا اتوا دارابي عبد الله جعفر بن محمد فدخلوها وجلسوا على بساط كبير احمر وخرج اليهم عبد الله بن موسى عم الامام الجواد ع فجلس في صدر المجلس وقام مناد فنادى هذا ابن رسول الله فمن اراد السؤال فليساله فسئل عن اشياء اجاب عنها بغير الواجب فاغتم الناس واضطرب الفقهاء وقالوا لو كان ابو جعفر يكمل لجواب المسائل لما كان من عند عبد الله ماكان ففتح عليهم باب من صدر المجلس ودخل ابو جعفر فقاموا اليه واستقبلوه وسلموا عليه فدخل ع وجلس فقام صاحب المسائل فساله عن مسائله فاجاب عنها بالحق ففرحوا ودعوا له واثنوا عليه ))لقد كان هذا اللقاء والحوار العلمي ولقاءات علمية اخرى تروى في سيرة الامام ع سببا في اطمئنان الناس واعتقادهم وايمانهم التام بامامته رغم حداثة عمره وصغر سنه.واثارت تلك المناظرات العلمية والعقائدية وكلماته المضيئة ومعالجاته لكثير من قضايا الامة الكبرى تقدير واعجاب العلماء ومن كل الطوائف والمذاهب ودفعتهم تلك المنزلة الرفيعة الراقية الى ان يكنوا له الاحترام والتقدير فقد كتب السبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص ص 359 ((كان الجواد على منهاج ابيه في العلم والتقى والزهد والجود )) اما ابن حجر الهيثمي فقد نقل في صواعقه ص 205 ((وكان المامون زوجه ابنته لما راي من فضله مع صغر سنه وبلوغه في العلم والحكمة والحلم مابرز به على جميع العلماء ))يبلغ مجموع من روى عن الامام الجواد المائة وعشر رواة رووا عنه 250 حديثا رغم سنين امامته القصيرة وهم ليسوا محصورين بالشيعة فقط فقد روى عنه الخطيب البغدادي بسنده الخاص كما جاء في تاريخ بغداد ج20 والحافظ عبد العزيز بن اخضر الجنابذي في كتابه معالم العترة الطاهرة وغيرهم من رواة الاحاديث وفقهاء المذاهب الاخرى لعظمة علم الامام وقدراته العلمية التي لامثيل لها في زمانه .استشهد عليه السلام في مكيدة دبرت على ايدي اعداء اهل البيت من المنافقين وخدمة الحكام الظالمين عام 220 هـ في خلافة المعتصم العباسي في بغداد وهو في الخامسة والعشرين من عمره ودفن في مقبرة قريش بجوار جده الامام موسى بن جعفر ع .فسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيا .
رياض ابو رغيف
https://telegram.me/buratha